يري الأصوليون أن العالمانية تسعي لإقامة دنيا بلا دين, في حين أن تجربة تطبيق مبادئ (العالمانية) في بعض الدول تؤكد العكس. و(العالمانية) تكتب بالألف, لأنها تعني الاهتمام بشئون العالم الدنيوي. وأن الربط بين المصطلح ومعني العالم أدق, لأن الترجمة الصحيحة هي (الزمانية) لأنها ترتبط في اللغات الأوربية بالأمور الزمنية, أي بما يحدث في هذا العالم وعلي هذه الأرض (د. فؤاد زكريا- مجلة قضايا فكرية- أكتوبر .85 وأنظر د. مراد وهبة في كتابيه (جرثومة التخلف), (ملاك الحقيقة المطلقة) وكتاب (الأسس الفلسفية للمفكر اللبناني عادل ضاهر وآخرين) أما الاهتمام بالعلوم الطبيعية فيأتي كنتيجة لتطبيق مبادئ العالمانية, ويري د. صادق جلال العظم أن العالمانية مع الحياد الإيجابي للدولة بأجهزتها إزاء الأديان والمذاهب الموجودة في المجتمع وبخاصة في المجتمعات التي تحوي أقليات دينية كبيرة ومؤثرة وفاعلة كما هو الحال بالنسبة لمسلمي الهند ومسيحيي مصر (العلمانية والمجتمع المدني- عام 88 ص8).
العالمانية والقيم الروحية
إن أعضاء أحزاب الخضر ليس لهم أي دور فعال إلا في ظل المجتمعات المؤمنة بمبادئ العالمانية لأنهم أحرار في مجتمع يعترف بحرية الإنسان, فتحدوا حكوماتهم في دفن النفايات النووية سواء علي أراضيهم أو علي أراضي شعوب أخري. والمتطوعون الذين يذهبون إلي مناطق الجماعات والكوارث الطبيعية ويعرضون أنفسهم لانتقال الأمراض المعدية إليهم هم أبناء ثقافة العالمانية. والفلاسفة الذين أدانو الحروب وهاجموا رؤساء أمريكا عالمانيون أمثال برتراند رسل وسارتر. بل إن أينشتين (يهودي الديانة) رفض عرض بن جوريون بأن يكون رئيسا لإسرائيل. ورفض سيجموند فرويد (يهودي الديانة) الدعاية لقيام دولة إسرائيل وعارض فكرة إقامة الدولة الإسرائيلية لعدم اقتناعه بإنشاء وطن لليهود علي أرض شعب آخر. ورفض الكاتب المسرحي آرثر ميلر جائزة القدس التي منحتها له الحكومة الإسرائيلية تعبيرا عن استيائه من سياسة شارون ضد الفلسطينيين. كما أن 37 أستاذا من جامعة بن جوريون في بئر سبع وقعوا علي مذكرة احتجاج علي منح شارون شهادة دكتوراه فخرية. فهل هناك مرجعية أخري غير الضمير الإنساني الحي وغير البعد الروحي؟ وبماذا نصف تصريح وزيرة العدل الألمانية التي قالت: إن سياسة جورج بوش أشبه بأساليب الزعيم النازي هتلر؟ وبماذا نصف تصريح الكاتب المسرحي البريطاني هارولد بنتر عقب شفائه من السرطان الذي قال فيه إنه لن ييأس من السعي لتقديم كلينتون وتوني بلير لمحكمة مجرمي الحرب. وأضاف أنه شاهد بعينيه الفظائع التي ارتكبتها القوات الأمريكية والإنجليزية في حرب البلقان. وبماذا نصف تبرعات الرأسماليين في الأنظمة العالمانية للأبحاث العلمية والجمعيات الخيرية والمستشفيات أليس هو البعد الروحي؟
وفي الحضارة المصرية ساوي المصري القديم بين رذيلة الكذب والبراز. أما بوذا (563- 483ق.م) فذكر أن الوصول للسعادة يتمثل في مجاهدة النفس حتي تبتعد عن الكذب والنميمة وتجنب القتل والإيذاء والتعفف عن السرقة والغش والنشاط الجنسي غير الأخلاقي واحترام الكائنات الحية جميعا وعن البعد الروحي في البوذية كتب العالم جون كولر: تركت التعاليم الفلسفية الخاصة بالبوذية أثرها في جانب كبير من الحضارة الآسيوية. فقد تغلغلت البوذية علي نحو يفوق أي دين آخر في الثقافات التي ارتبطت بها: بورما, سريلانكا, كمبوديا, تايلاند, لاوس, التبت, الصين, كوريا, اليابان, فيتنام, حيث سيطرت البوتية. وفي مقدمة خصائص البوذية الكرامة الإنسانية, التسامح, روح الشفقة واللاعنف, وعن الكونفوشية كتب: أكدت الكونفوشية أن الأخلاق والخير فوق القوانين.
العالمانية ومؤسسات الدولة:
تتأسس العالمانية علي فصل المؤسسات الدينية عن المؤسسات السياسية. أي أنها لا تعني فصل الدين عن المجتمع. وهي تفرق بين الشخص الطبيعي الذي له حق اعتناق ما يشاء من أديان ومذاهب فلسفية وبين الشخصية الاعتبارية (الشركات والهيئات والوزارات) فهي ليس لها دين ولا تتعامل بالدين وإنما بقوانين ولوائح. ويؤكد ذلك أن الأنظمة العالمانية في أوربا وأمريكا والهند واليابان إلخ تسمح ببناء وتجاور كل دور العبادة. وصرح مفتي جمهورية البوسنة والهرسك د. مصطفي سيريتش أن السويد تساهم في ترميم مساجد ومعالم إسلامية تاريخية في مناطق مختلفة في البوسنة بغرض إحياء هذا التراث الحضاري الفريد في أوربا لاعتبارات ثقافية وإنسانية, في حين أن دولة عربية لا توجد بها كنيسة واحدة. بل إن مصر رغم أنها ليست ثيوقراطية بنسبة 100% فإنها تفرق بين بناء المسجد وبناء الكنيسة.
الفصل بين المؤسسات الدينية والمؤسسات السياسية هو السبيل الوحيد لدرء توظيف الدين (الثابت والمقدس) لصالح السياسة (المتغيرة وغير المقدسة) إن هذا الخلط بين مؤسسات شئون التقديس وشئون السياسة جعل رأس المواطن أشبه بكرة القدم, فالإصلاح الزراعي حلال لأن السلطة السياسية (عهد عبدالناصر) أرادت ذلك. ثم هو حرام عندما تغير موقف الحكم حتي الحروب (غزو العراق للكويت وأمريكا للعراق نموذجا) والمعاهدات الدولية والاكتشافات العلمية بما فيها الطب, تخضع لمرجعية مؤسسات شئون التقديس وليس للعلماء, فينحط البحث العلمي ويتحمل البشر الخاضعون للشيوخ ضريبة التخلف. ولعلنا نتذكر ضحايا شركات توظيف الأموال (=نهب الأموال) الذين رددوا وراء موظفي الدين: هل نأخذ العوائد الحلال المرتفعة وندخل الجنة, أم نودع في بنوك الدولة وندخل النار؟
اللغة الدينية وهدم الولاء الوطني:
مع غياب العالمانية يعلو صوت اللغة الدينية, فلا تجد في التعليم والإعلام تحليلا نقديا لخطاب الأصوليين بل تجد تمجيدا لهم أمثال جمال الدين الأفغاني الذي روج لمقولة (الرابطة الدينية) حيث (لا جنسية للمسلمين إلا في دينهم) (العروة الوثقي 1884/7/26) أو حسن البنا الذي قال: نحن نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وليس بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية أو أ.مهدي عاكف الذي لم ير بأسا أن يحكم مصر خليفة من ماليزيا.
العالمانية وقانون التغير
يتجاهل الأصوليون وقائع التاريخ الإسلامي الذي أثبت في أكثر من واقعة أن قانون التغير جعل خليفة في قامة عمر بن الخطاب يرفض أن يكون النص الديني مرجعا له مثل موقفه من (المؤتلفة قلوبهم) وعدم قطع يد السارق في عام المجاعة إلخ. ويتجاهلون ما حدث مع النبي الكريم عندما تعرض لجماعة خالفته في الرأي فحاول إقناعهم بآيات من القرآن العظيم. فتدخل علي بن أبي طالب وقال مقولته الشهيرة: لا تحاجهم بالقرآن فإن القرآن حمال أوجه وأكثر من ذلك فإن النبي الكريم من منطلق نظرته الواقعية نصح (بريده) أحد قادته في إحدي الغزوات قائلا: إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزل علي حكم الله فلا تنزلهم علي حكم الله. ولكن انزلهم علي حكمك. فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا. (المستشار محمد سعيد العشماوي- الإسلام السياسي- سينا للنشر عام 87ص 117, 160) وهل تستطيع أية دولة (دينية) أن تصدر قانونا ينظم أحكام الرق أو ما ملكت إيمانكم المنصوص عليها في القرآن العظيم؟ إن العالمانية هي الأساس لضمان حياد منظومة الحكم, حياد يعتمد علي (أفعال) المواطن وليس علي معتقداته وبالتالي فهي تعلي من القيم الروحية النبيلة طالما أسست قواعد العدل والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم الدينية والمذهبية. كما أن قانون التغير هو الذي نقل البشرية من مرحلة إلي أخري أكثر تطورا. وصدق العلامة الفارسي الشهرستاني الذي ذكر أن الحوادث والوقائع والتصرفات يصعب حصرها وأضاف: ونعلم قطعا أنه لم يرد في كل حادثة نص. ولا يتصور ذلك أيضا. والنصوص إذا كانت متناهية فالوقائع غير متناهية. وما لا يتناهي لا يضبطع ما يتناهي.