##كلما زادت الأمة جهلا زادت تمسكا بقشور دينها وكما زادت نكوصا واستعمارا زاد تجهيلها للغير, وهجومها علي كل ما يأتي منه بحكم العداء العام لا انتقاء فيه##.
هذا كان أساس دعوة الإمام محمد عبده التي بني عليها منهجه وعمله الإصلاحي فحارب التقليد والجمود والتخلف في فهم الدين, ودعا إلي استخدام العقل والفكر, فما أجدرنا ونحن نستعرض حال الأمة ونبني مصر الجديدة في ثورتها ونهضتها أن نطلع علي رواد الإصلاح والنهضة وأن نناقش أفكارهم الإصلاحية نحو التقدم.
التحق محمد عبده بالجامع الأزهر عام 1866 وضاق بطرق التدريس بالأزهر, فقدم له الشيخ حسن الطويل علوم جديدة لم تكن تدرس في الأزهر فهو رجل عشق الفلسفة يوم أن كانت الفلسفة لونا من ألوان الإلحاد. فلم ينشأ الشيخ محمد عبده باتجاه واحد وإنما تأثر بتصوف الشيخ درويش وفلسفة الشيخ الطويل وأدب الشيخ البسيوني ومحافظة أساتذة الأزهر فاستطاع الشيخ محمد عبده أن ينقل التصوف إلي معني جديد وهو الإصلاح مع دراسة العلوم المختلفة والرياضيات الأمر الذي لم يكن له مكان في مناهج الأزهر.
أثر جمال الدين الأفغاني في اتجاه المجاور (أي طالب الأزهر) الشيخ محمد عبده وظهر ذلك من خلال كتاباته في جريدة الأهرام عن أصول الدعوة الإسلامية وكان هذا يثير أصحاب الجهود من العلماء والطلاب حتي أنه عندما تقدم إلي امتحان العالمية تعصب بعض الممتحنين عليه ولكن نبوغه علي هذا التعصب اضطرهم أن يمنحوه شهادة العالمية, واختير بعدها للتدريس في مدرسة دار العلوم بينما كان جمال الدين الأفغاني يدعو المصريين إلي إصلاح طريقة الحكم لتكون طريقة دستورية يشارك فيها الشعب والحكومة فضاق بهذا توفيق باشا خديوي مصر وأمر بنفي جمال الدين الأفغاني وإلزام الإمام محمد عبده بالإقامة بقريته محلة نصر, حتي تدخل الوزير رياض باشا وسعي لدي الخديوي فأعاده إلي القاهرة وجعله رئيسا لتحرير الجريدة الوقائع المصرية فنهض بها وجعلها منبرا لإصلاح الشعب والحكومة ونشر بها مقالات عديدة عن إصلاح التعليم وطريقة الحكم فانتقل بأسلوب الصحافة إلي أسلوبها الحديث وقضي علي أسلوب السجع المتكلف وكان في هذه الدعوة الإصلاحية يتوجه إلي الشعب أكثر مما يتوجه إلي الحكومة وخالف في هذا أستاذه جمال الدين لأنه كان يري أن الحكومة هي التي يجب عليها أن تقوم بالإصلاح لتفرضه علي الشعب, أما الإمام محمد عبده فكان يري أن الإصلاح يجب أن يأتي من الشعب بأن يربي تربية تساعده علي النهوض وتجعله يسير في الإصلاح وأن يتعاون الشعب والحكومة في هذا معا.
كتب الإمام قرابة أربعين مقالا في الشئون القومية أهمها نقد نظارة المعارف, وكان من أثر ذلك إنشاء المجلس الأعلي لنظارة المعارف واختيار الإمام عضوا بها.
ثم هبت أعاصير الثورة العرابية وكان الشيخ الإمام رئيس تحرير الجريدة الرسمية وكان الإمام محمد عبده يعتبره في بداية الأمر ناطقا بأفكار عسكرية بحتة, وكان يخشي استغلال الأجانب لهذه الحركة, ولكن رفض توفيق باشا الاستجابة لأحمد عرابي زاد من قوة حركته وانقلبت إلي ثورة شعبية فلم يسع الشيخ محمد عبده إلا أن يسير في تيارها, ولاسيما بعد التجاء توفيق باشا إلي الإنجليز ليحموه من شعبه, وبعد إضعاف عرابي عوقب الشيخ محمد عبده علي اشتراكه في الثورة بالنفي إلي سوريا وأقام نحو سنة دعاه جمال الدين الأفغاني إلي الذهاب إليه في باريس وهناك اشترك معه في تأليف جمعية العروة الوثقي السرية وكان الاسم الحركي للإمام في هذه الجمعية ##العربي بيسيس## واستفاد الشيخ محمد عبده من إقامته في باريس بأن تعلم اللغة الفرنسية واطلع علي ثقافة أوربا الحديثة.
كما أسس جمعية دينية سرية للتقريب بين الأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام وكان القس إسحق تيلر راعي الكنيسة الإنجليزية أحد الأعضاء العاملين في تلك الجمعية وجرت بينه وبين الشيخ مراسلات كان من آثارها أن تحدث القس عن الإسلام ونشر عدة مقالات في صحف لندن ولكن نشاط الشيخ في هذه الجمعية فسر في تركيا تفسيرا سياسيا يناقض مصالح الخلافة العثمانية وسعت الحكومة لإصدار العفو عن الشيخ ودعوته إلي مغادرة سوريا في أقرب وقت ممكن, ولكن يبتعد عن الاشتغال بالإصلاح. عين قاضيا بالمحاكم الأهلية, ومات توفيق باشا عام 1892 وخلفه ابنه عباس حلمي الثاني في الحكم فأراد في أول ولايته أن يناهض الإنجليز في مصر, فعمل علي تقريب زعماء المصريين من مجلسه وكان الشيخ محمد عبده أول هؤلاء الزعماء ومكن له إصلاح الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية وكان في وظيفة مفتي الديار المصرية فقام بوضع تقرير لإصلاح المحاكم الشرعية, وهو التقرير الذي كان أساسا لكل إصلاح حدث في هذه المحاكم, وامتيازات فتاوي الشيخ بالميل إلي التسامح واستقلال الرأي والملاءمة بين روح الإسلام ومطالب المدينة.
وفي عام 1899 عبن محمد عبده عضوا في مجلس شوري القوانين عن طريق الجمعية الخيرية الإسلامية الذي كان من أوائل مؤسسيها- علي تحقيق إصلاح أخلاقي اجتماعي وكان صوته أول صوت ارتفع في مصر الحديثة مناديا بنشر مباديء العدالة الاجتماعية حتي يستتب السلام بين الطبقات.
كان ثائرا علي أوضاع أمته وماآلت إليه فعندما جاء متخفيا إلي مصر في ميناء الإسكندرية سمع الأذان فسر ما حزن عندما وجد حوادث السرقة تعم المدينة, واستحضر في ذهنه واقعة أدهشته وهو في فرنسا أن الناس هناك يشترون الجرائد من مكان علي ناحية الطريق ويضعون بأنفسهم ثمنها دون أن يكون هناك بائع, ويقال إنه ظل يروي هذه القصة, وقال قولته الشهيرة كنت في باريس فوجدت فيها مسلمين ولم أجد إسلاما وها آنذا اليوم في مصر, أجد إسلاما ولم أجد مسلمين لما يراه من سلوكيات أخلاقية في باريس لم يراها في مصر.
وفي 11 يوليو عام 1905 توفي الشيخ محمد عبده وهو في أوج نشاطه وكانت وفاته حدادا عاما للبلاد العربية والإسلامية ويذكر الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي أنه جلس في درسين للإمام وكان طه حسين لم يتجاوز الرابعة عشر حسين كان مجاورا يتعلم بالأزهر ويذكر سعادته بهذا اللقاء وكيف أنه شعر بمهابة العلم في حضرة الإمام.
ولم يكن طه حسين وحده هو الذي شعر بتلك المهابة وذلك العلم العزيز فجيل الرواد الذين نهلوا من الإمام محمد عبده هم أيضا نالوا من علمه الكثير فآثر الإمام علي ##قاسم أمين##وسعد زغلول وأحمد لطفي السيد وغيرهم من تلاميذه الذين أصبحوا فيما بعد رواد النهضة المصرية الحديثة.
إننا في حاجة ماسة إلي تعاليم الشيخ محمد عبده لتنهض مصر بعد رقادها وتخبطها.