لا ينبغي أن تستر عنا الضوضاء الحاصلة في بلادنا هذه الأيام رؤية السلام الاجتماعي والإعداد له بالروح والحق والفكر العلمي الساجد المتواضع والفاحص للذات ونحن نعلم أن التفكير الهادئ عسير في أوقات التراشق والتنابذ بالألقاب, وبئس التنابذ بالألقاب, ولكن العقول النيرة المنفتحة والمحبة -ونري منها الكثيرين في مصر اليوم- تعلو فوق كل التشجنات والتلاسنات, ويواجه كل المشاكل مهما تعقدت ولعل أكبر الرؤي هي التي تقتنع أن الله (أعظم من قلوبنا جميعا). ولعل الخير الكبير في محنة بلادنا الأخيرة علي رغم شدتها وقساوتها وغرابتها علي كل الأصعدة أننا جميعا نريد بلدا واحدا لكل أولاده ولا تعرف الأغلبية الساحقة من شعب مصر الطيب, الهجرة الجماعية أو الاستقواء بالخارج.
المصريون في غالبيتهم الساحقة ما عدا القلة الغاضبة لا تتراجع عن المسلمات التي بنوا عليها وحدتهم الاجتماعية, ولقد ظهر ذلك من بدايات إرهاصات موضوعية من هنا وهناك تنادي بأعمال العقل في النقد الذاتي والمراجعات الكبيرة التي تظهر ربما لأول مرة علي الساحة الفكرية المصرية, ولقد أكدت كل الأصوات علي أننا نريد بلدا كاملا كليا غير مبتور وغير مرحلي ولو هددته هشاشة الأحداث وتفاهة الأزمنة العابرة ,ويعرف العقلاء بأن البلد أي مصرنا الغالية عرضة للكارثة فهو عرضة لأن يتمزق وينزف. قد يبدو لنا أننا لا نستحق الفرادة التي اشتهيناها لمصر بتاريخه العريق وسمعته الدولية العطرة وجهوده في صناعة السلام والوئام بين الشعوب
وفي أساس الرؤية أن للبلد حكما مدنيا حرا ,وهذا الأمر كان في صلب الميثاق الوطني, فقد رفض المسيحيون الحماية الأجنبية إنجليزية كانت أم روسية ,والمسلمون ما عدا بعض التشنجات الطائفية انحازوا للوطن الواحد في ثورة 1919 وتمسكوا بالدين لله والوطن للجميع. ولقد انحازت الطوائف كلها في مصر عام 1919 علي تجاوز نفسها في سبيل مصر الآتية وتاريخها العريق وجذورها الضاربة في أعماق التاريخ بكل الأطياف والألوان الحضارية التي تعاقبت عليها, وصار من المستحيل فك الارتباط بين مصر الفرعونية والبيزنطية والمسيحية, ومن ثم مصر الإسلامية الوسطية التي تعهدت اللسان العربي والمشاركة في بنيان المحيط العربي في مجالات عز فيها الإبداع من فنون وموسيقي وآداب وأشعار بدون أن يحجم هذا الانتماء العربي دور مصر الحضاري والثقافي والسياسي علي الساحة الدولية.
ولقد شارك في هذا الحضور لبلادنا عباقرة من كل الأطياف ومن كل الأديان في مصرنا الحبيبة ولأن العبقرية والذكاء لا يسكن حارة ولا يفارق حارة أخري والمسيحيون يؤمنون أن الروح روح الحق والعلم والنور يهب حيث يشاء.
ولكن ما هو التصور العملي لهذه الأشواق التي تبدو في هذه الأيام كالهذيان ؟هو الحرية للجميع والمساواة في الحقوق والواجبات في ظل دولة القانون والمؤسسات المدنية الحقيقية وليست الشكلية, ولابد للدولة من مبادرات لطمأنينة الأغلبية الصامتة المقهورة مسلمة كانت أم مسيحية أم علمانية, لا دين رسمي لها بل دينها الوطن والحب أيا كانت ركائبه, وهنا المبادرة الكبري والشجاعة تأتي من ضرورة التمييز العلمي والتاريخي الواعي بين العروبة التي هي مظلة كبيرة استظل بها كل العرب والذين استعربت ألسنتهم وشاركوا في غناها الثقافي من مسيحيين ومسلمين وبين الإسلام دينا, ولا نقول التفريق بل التمييز لأننا نتفق علي تدين الشخصية المصرية العميق . ومن ناحية أخري ليس كل المسلمون عربا بل إن العرب يشكلون 300 مليون من مليار مسلم ونيف, ونحن ندعو لعلماء الدين بأن يهديهم الله وتاريخ مصر بالذات إلي صيغة توفق بين الحرية السياسية والالتزام الروحي والأخلاقي بمصير البلد والوصول إلي فلسفة في الحكم لا تقوم علي التفريق بين حقوق أهل الدين الحنيف وحقوق أهل الملل الأخري, وهذا يفترض التواضع الكبير والعمل العلمي الجاد والصفاء الذهني واكتشاف أن بين أهل البلد الواحد لا وصاية لأحد علي أحد إلا بالعلم والتقوي والعمل الجاد, وأنه ليس أحد دخيلا علي أحد لأن البحث في علم الأجناس عمل شاق ومضن ولن يوجد بسهولة جنس نقي مائة بالمائة حسب علماء الإنثروبولوجيا. ومن أهم أخلاقيات البنيان الاجتماعي الصحيح هو تخلي الجميع عن الأحكام المسبقة التي تعرقل رؤية الأنا والآخر, والوضع في الاعتبار أن أكثر النصوص قداسة إذا لم تخدم النفوس صارت خطرا علي أصحابها قبل غيرهم , ففي التراثات البشرية أيا كانت دينية أو غير دينية جمالات وعبر ومواعظ وقد علمنا هذا علماء مدرسة الإسكندرية اللاهوتية ولقد عرف العالم الغربي إبان عصر النهضة الأوربية واستعادة العقل لزمام الأمور عرف أفلاطون وأرسطو وسيسيرون المثقفين الوثنيين أكثر من الكثيرين من القديسين والأولياء ,وحينما احتضنت أوروبا الثقافة القديمة أمكنها أن تعيد صياغة لاهوتها المسيحي وثقافتها الإنسوية بشكل أفضل.