يحاول الكاتب أن يربط بين رؤيته للتوتر الديني التي طرحها مرارا في إطار دراسة موسعة عن العلاقات المسيحية الإسلامية في مصر قبل وبعد الدولة الحديثة تصدر قريبا مدعومة بالوثائق وبين ما حذر منه حول التداعيات المترتبة علي ذلك التوتر الذي بدأ في مطلع السبعينيات وتحديدا من واقعة أخميم 1970 وإلي واقعة المنيا التي جرت الأسبوع الماضي .وكشفت الوقائع المتتالية عبر عقود في مجملها عن الخطورة التي تتهددنا.وهو هنا يطرح رؤية مفادها أن التمسك بدعائم الدولة الحديثة هو المدخل لمواجهة التوتر الديني.
التوتر الديني وتجاوز حد الأمان
هذا هو العنوان الذي طرحته تعليقا علي ما جري في 2010 من أحداث ووقائع بالإضافة إلي واقعة الإسكندرية مطلع .2011لم يرق للبعض أن يعترف بأن هذا هو ما آل إليه حال العلاقات المسيحية الإسلامية في مصر. وعلي الرغم من تدليلنا علي ذلك من خلال ما أطلقنا عليه المراحل الأربع للتوتر الديني منذ 1970 :بداية -من أولا: المرحلة العنفية( 1972 -2000) من قبل جماعات العنف الديني تجاه الأقباط .وثانيا: مرحلة الاحتقان (2000 – 2005) وهي المرحلة التي اتسمت بالاستقطاب الحاد بين كل فريق والمواجهة الكلامية ذات الطابع الطائفي.وثالثا: مرحلة السجال الديني( 2005-) وهي المرحلة التي بدا فيها التجاذب العقدي والفقهي حول أفضلية كل دين, وقد ساهمت الفضائيات في تأجيج هذا السجال الذي لم يزل مستمرا إلي الآن (2005-) .وأخيرا ورابعا: مرحلة التناحر القاعدي (2005 -), حيث بدأت تحدث مواجهات بين المسلمين والمسيحيين لأسباب عديدة من ضمنها:بناء كنيسة, تحول ديني…أو تتحول أية واقعة جنائية يكون أحد طرفيها مسلما والآخر مسيحيا إلي واقعة دينية,وهو أخطر ما وصلنا إليه.والتناحر القاعدي هو ما يمكن أن يطلق علي غضبة الأقباط في الشارع مؤخرا.
لم نلتفت إلي أن استمرار حالة التوتر الديني (وهو تعبير نفضله لدقته عن التوتر الطائفي) علي مدي أربعة عقود,قطعا سوف يؤدي إلي اختلالات حادة سوف تدفع بتراجع المواطنة لصالح الانتماء الديني – وحده دون غيره ـ ومن ثم إعادة تصنيف مصر علي أساس ديني , من جهة, وجعل المجال العام والسياسي مساحة دينية خالصة.وقلنا أيضا إن هناك سيناريوهات ثلاثة للمستقبل فيما يتعلق بهذا الموضوع.
الأول هو سيناريو المعالجة العثمانية – الملية,حيث في اتجاه حل مشاكل الأقباط ينظر إليهم أو منهم من يدفع بهذه الصفة أي باعتبارهم كتلة مغلقة متماثلة العناصر أو ملة فيتم منحها امتيازات بمعزل عن باقي الفئات.والامتيازات -كما هو معروف- تعطي بحسب موازين القوي والتي متي اختلفت يمكن أن تسحب الامتيازات.والنموذج العثماني الذي يتكون من سلطة ونشاط اقتصادي وبشر ينتظمون في أشكال أولية للتنظيم متجاورة مثل: الطوائف والعائلات الريفية والعشائر,إنه النموذج المعروف##ولي النعمة / التابع
* الثاني:هو سيناريو المعالجة الدينية,
حيث يتم التعامل مع الجماعة الوطنية علي أساس ديني, أغلبية دينية في مواجهة أقلية دينية, ما يعني أن تخلق كل جماعة مجالها المستقل عن الآخرين.
* الثالث:سيناريو دولة المواطنة,
أو الدولة القائمة علي المساواة الكاملة بين المواطنين بغض النظر عن الدين والمذهب واللون والعرق والجنس والمكانة والثروة..,وإتاحة الفرص الكاملة أمام الجميع بغير تمييز.. ليس هذا فقط وإنما تيسير وجود الإطار الجامع القادر علي جمع المختلفين في عمل مشترك..أخذا في الاعتبار أن التوتر الديني يزداد في الشرائح الوسطي والدنيا.
التمسك بالدولة الحديثة
في إيجاز نجمل بعض الملاحظات التي تركها توالي الأحداث علي مصر بمكوناتها وذلك كما يلي:
* تولد إحساس لدي الجميع بأن هناك واقعا لا يمكن التعايش معه, لقسوة الأحداث الأخيرة التي تقترب من القتل علي الهوية لأقباط يصلون أو خارجون من الصلاة في مناسبات طبيعتها الفرحة.
* أن المقاربات السياسية وبالرغم من التحيز ـ وهو أمر طبيعي ـ وبالرغم من الحسابات الضيقة أحيانا إلا أنها لم تستطع أن تتغافل عن أن ثمة ما يقلق فيما حدث من جانب,ومن جانب آخر فتحت أهمية الدراسة التاريخية بما ينعش الذاكرة التاريخية الوطنية.
* الاتفاق علي الابتعاد بملف العلاقات بين المواطنين المسلمين والمسيحيين عن اللعبة السياسية وحسابات الاستحقاقات السياسية المقبلة عليها مصر,
* علي الرغم من التراوح في التعامل مع الأقباط كمواطنين أو كجماعة دينية إلا أن الإيجابي هو أن هناك اتفاقا علي ضرورة استعادة الأقباط وهو لن يتأتي إلا بالحرص علي تواجدهم السياسي والمدني والخروج من عزلتهم الآمنة.
* والأهم هو رد الفعل الإيجابي من المسلمين في رفض ما يحدث لشركاء الوطن.
وكان من نتيجة ما سبق ولعل ذلك من أهم ما يمكن رصده في هذا السياق هو إعلان القيادة السياسية إلي أن تتخذ موقفا حاسما كان عنوانه الرئيسي ##التمسك بالدولة الحديثة##وطابعها المدني,وفي القلب منها المواطنة في مواجهة التوتر الديني.
الدولة الحديثة وفي القلب منها المواطنة
كان مطلع العام ساخنا.وكان الإحساس بوطأة ما حدث كبيرا بفعل التراكم والذي نتج عنه أحداث تعاملنا معها بنمطية بالرغم من أن كل واقعة كانت تفرز تحولا نوعيا في الفكر والسلوك.بداية من السجال الديني الذي حذرنا منه مبكرا منذ سنوات وكان لنا سبق استخدام المصطلح وتوضيح أثره المدمر.ثم واقعة السيدة التي قيل أنها أسلمت.ثم الحوار العلني الذي جري بين مرجعيات دينية إسلامية ومسيحية حيث اقتربت من مساحات خطيرة و ملغومة. بيد أن أخطر ما جري في هذا العام هو هذا العراك الذي جري فضاء المجال الرقمي من أفلام(بالمئات) تبث علي اليوتيوب تعكس المدي الذي بلغه الاحتقان بين المسيحيين والمسلمين..أفلام مصنوعة بعناية تتضمن رسائل إعلامية حادة يرفعها كل طرف تجاه الطرف الآخر..الطرف الإسلامي في أكثر رسائله الإعلامية اعتدالا ينادي بمقاطعة الأقباط نتيجة الإحساس بأن هناك من يخطط للتقليل من الإسلام وإضعافه(أقول اعتدالا لأن هناك قوائم اغتيالات وقوائم خاصة برجال الأعمال الأقباط..إلخ).وعلي الجانب الآخر يشعرك الأقباط بأنهم في حالة استغناء عن الآخر لهم عالمهم ودنيتهم كملة أو جماعة دينية من جراء أحداث العنف الديني المتتالية..أي أن تفاعلات المجال الرقمي والتي باتت تشكل عقول ووجدان الملايين تتراوح بين المقاطعة والاستغناء في أفضل الأحوال.أو بلغة أخري كشف ما سبق عن أن هناك من المصريين من يحيدون عن الاعتدال كتيار رئيسي.فالمسلمون من هؤلاء يقومون بالتعبئة السياسية علي أساس ديني.وفي المقابل هناك من المسيحيين من يتحركون وفق ذهنية الملة وهو ما دفعنا إلي القول إن هناك من يدفع إلي اختراع الملة.
مما سبق يمكن القول إن الحصاد الختامي لعقود من التوتر الديني هو أن هناك كتلة تحكمها التعبئة الإسلامية السياسية يقابلها كتلة يحكمها التحرك الملي.في مقابلها تيار – أظن-أنه يمثل التيار الرئيسي للمصريين منحاز للمواطنة.
والخلاصة أن التحدي القادم والذي يمثل مهمة كبيرة لتيار الاعتدال الذي تميل إليه غالبية المصريين ـ فيما أظن ـ هو الاستجابة الفاعلة علي أرض الواقع لتجديد الشراكة الوطنية بين المصريين, أو تجديد رابطة المواطنة تكون مهمتها هو بناء الدولة الحديثة.
في تجديد الشراكة الوطنية
إن الأساس الفكري الذي يمكن أن ننطلق منه لتجديد الشراكة الوطنية بين المصريين من المسلمين والمسيحيين هو الاتفاق علي أن## الأساس في الاجتماع الإنساني هو الاختلاف والتعدد وليس التماثل والأحادية, وأن الرابطة التي تجمع غير المتماثلين (دينيا ومذهبيا وعقائديا – وبالطبع سياسيا وفكريا – ) هي رابطة المواطنة..والعمل علي وقف التصنيف الديني للمصريين فورا..فالمصري مواطن بكفاءته وفاعليته وجهده من أجل تحقيق السعادة الوطنية لكل المصريين دون تمييز…وفي هذا المقام يمكن أن نضع عناصر خمسة جاءت في الكثير من الكتابات بشكل أو بآخر تصلح كبداية لتجديد الشراكة الوطنية وذلك كما يلي:
*وقف السجال الديني بما يتضمن من: تجريح وإساءة وافتراء وإهانة..إلخ, في كل الوسائل الإعلامية وإعمال ميثاق الشرف الإعلامي, و إدراك كل طرف أن حرية التعبير عن ما يؤمن به لا تعني التطاول علي الطرف الآخر ,كما لا تعني الاستعلاء والشعور بالأفضلية, فهذا أمر يترك للديان العادل,و تأكيد مبدأ ##المواطنة الثقافية##وتعني المساواة الكاملة بين المواطنين فيما يعتنقون, و احترام كل طرف لخصوصيات ومشاعر ورموز ومقدسات الطرف الآخر الدينية,
* الاستفادة من المبدأ الدستوري الخاص بحرية العبادة وإقامة الشعائر الدينية (المادة 46) باستصدار مجموعة من القوانين المنظمة للكثير من الموضوعات العالقة والتي تندرج تحت هذه المادة.والتمييز بين المشاكل الدينية الطابع مثل بناء دور العبادة, وهنا يمكن أن تتواصل المؤسسة الدينية مع المعنيين لحل هذه الإشكالية وفق معايير وضوابط يتفق عليها(كما حدث في موضوع الأوقاف),وبين المشاكل ذات الطبيعة المدنية التي تواجه المواطنين في حياتهم اليومية في إطار المجال العام والسياسي وحلها وفق المعايير المدنية,تأكيدا علي الصفة المواطنية للمواطنين وليست الدينية..
* الالتزام بإعمال القانون باعتباره أحد مقومات الدولة الحديثة,والقناعة بأن أي تفريط في هذا الأمر لصالح العرفي والعشائري يعني تفريط في الدولة الحديثة والأخذ بما يناقض جوهر وجودها.
* العناية بالتعليم والإعلام,حيث يتضمن كل منهما:التعليم قيم واتجاهات,والإعلام رسائل إعلامية وبرامج,تؤكد القيم والاتجاهات والسلوكيات التي تؤكد أن عبقرية مصر تكمن في غناها الثقافي..انطلاقا من أن مصر مركب ثقافي متعدد العناصر وقوته في تألفها.
*العمل علي استعادة المواطنين إلي المجالين ##العام##, و##السياسي##وتشجيع الانتظام في الروابط والجمعيات والنقابات علي أسس سياسية وفكرية ومصالحية وليس دينية..والتأكيد ,كما قلنا مرة,علي أن المصري المسيحي يمكنه أن يجد ما يربطه بالمصري المسلم من روابط أخري غير الرابطة الدينية,مثل الروابط:المهنية والطبقية,و حتي الرياضية…إلخ.,وهو ما يصب في مدنية الحياة والدولة.
بما سبق يمكن أن تتجدد الشراكة الوطنية..علي أسس المساواة والتكافؤ والعمل المنتج وإعمال القانون, في ظل الولائية الدستورية للدولة الحديثة مدنية المقومات.
*كاتب وباحث, رئيس مجلس أمناء مؤسسة المصري للمواطنة,