نؤكد أن الأزهر الشريف ليس مصدرا للسلطات… ليس دولة… ولا وزارة… بل هو مرجعية ومنار علمي تنويري وتثقيفي عليه أن يوضح الحقائق كما تراها المصادر الإسلامية الصحيحة…
بهذا التوصيف أنهي الأستاذ الدكتور محمود عزب- مستشار شيخ الأزهر للحوار ومدير مركز الحوار بالأزهر- حديثه معي الذي أجريناه بمشيخة الأزهر الشريف علي أثر صدور وثيقة الأزهر مؤخرا… هذه الوثيقة التي خرجت علينا في أحد عشر بندا بعد إعلان فضيلة الإمام الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر عن مبادرته في مناقشة وطرح مجموعة من الرؤي الحالية والمستقبلية في هذه اللحظة التاريخية الفارقة التي تمر بها البلاد, وذلك عقب اجتماعه مع نخبة من المثقفين وممثلي القوي السياسية في مصر…
وإلي نص الحوار…
* كيف انبثقت فكرة وجود وثيقة فكرية وثقافية تصدر عن الأزهر الشريف في هذه المرحلة الراهنة؟
** الوثيقة ثمرة عدة لقاءات طويلة للمثقفين والمفكرين المصريين علي أختلاف انتماءاتهم السياسية والثقافية والدينية أي من المسلمين والمسيحيين, كتاب وشعراء, أدباء, أساتذة جامعات محللين وسياسيين وفنانين تجمعهم حرية الفكر وقواعد الإبداع, تمت هذه اللقاءات تحت قبة الأزهر الشريف في إطار توجه كبير للأزهر وهو يستعيد دوره الوطني والعالمي, وهو يتذكر أنه كان دائما منذ بدايات العصر الحديث ومنذ حملة بونابرت وثورة 1919 بيت الأمة المصرية تلجأ إليه في اللحظات التاريخية الفارقة فيحتضنها ويقدم لها منبره للتعبير عن أفكارها وآرائها ومواقفها الوطنية.
- في ثورة 1919 يجئ الأب القمص سرجيوس سرجيوس من الكنيسة بالقللي للأزهر ليعلن تضامن الأقباط مع المسلمين كشعب واحد, الأزهر يتذكر هذا ويستعيد ثقة الشعب المصري كله من مسلمين ومسيحيين هذه هي البداية العامة قبل اللقاء, وفي إطار هذه الرؤية تمت هذه اللقاءات مع نخبة من المفكرين والمثقفين في أيام الآحاد في أكثر من ستة لقاءات… (كان اللقاء يستعرض أكثر من (3) ساعات) طرحت فيها قضايا مصر الثورة وما بعدها, ونوقشت فيها كل الرؤي والأفكار التي تراها هذه النخبة للوصول بالوطن وثورته إلي بر الأمان, وفي اللقاء الأخير تمت صياغة هذه الأفكار وخلاصتها وقرأت علي الجميع فأقروها ووافقوا عليها ثم أعلنت للأمة…
وقد توافق المجتمعون علي ضرورة تأسيس مسيرة الوطن علي مبادئ كلية وقواعد شاملة تناقشها قوي المجتمع المصري وتستبصر في سيرها بالخطي الرشيدة, لتصل في النهاية إلي الأطر الفكرية الحاكمة لقواعد المجتمع ونهجه السليم.
* هل وجهت الدعوة للمفكرين والمثقفين جميعهم أم تم التركيز علي أسماء بعينها دون أخري؟
** لا لم توجه الدعوة لهؤلاء فقط, بل إنه في البداية طرح الأزهر الشريف الفكرة في الصحف وفتح باب الحوار والتقي بالإخوان ثم ممثلين للسلفيين ثم المثقفين والمفكرين الليبراليين الذين يؤمنون بحرية الفكر من جميع الاتجاهات, فحضرت هذه النخبة, وكان ينضم إليها في كل لقاء وجوه جديدة كانوا يرحبون بها, ولم يستبعد أسماء علي الإطلاق, مقابل العلمانيين أيضا وقابل مسيحيين من غير رجال الدين المسيحي حيث حضر رجل الأعمال المهندس نجيب ساويرس ومعه عشرة أشخاص, فقابل إذن كل الأطياف غير مستبعد أي طيف, كان هناك أشخاص معروفة من المسيحيين مثل سمير مرقس الذي اشترك معنا في هذه اللقاءات التي ضمت مجموعة متجانسة من المفكرين والمحللين السياسيين وأساتذة الجامعات, وكان الأزهر(7 أو 8) شخصيات في اللقاءات الأخيرة, كان اللقاء من (25 : 35) شخصا, وبالتالي فإن الباب مفتوح لكل الأطياف والاتجاهات الفكرية والأدبية والسياسية… نخبة من فئات مختلفة موجودة بمصر لنقول بشكل ما إن مصر موجودة.
* ما تفسيرك لموقف الأزهر السابق من حرية الفكر والتعبير ومصادرته لأعمال إبداعية عديدة؟
** إن الأزهر بكل قوته وعظمته لا يمكن أن يصطدم بالشارع المصري (الإسلامي والمسيحي) الذي له تقاليده التي تكونت فيه عبر التاريخ, فموقع الدين في نفس الشخص المصري واحد (الدين قبل كل شئ), هذا الموقع يشكل جزءا لا يتجزأ من قضية السلام الاجتماعي العام, وبالتالي يتم استبعاد كل ما يصدر ويكون من شأنه الأضرار بالسلام الاجتماعي العام, وهنا لا أفضل مناقشة العموميات بل يجب دراسة كل قضية علي حدة.
* علي سبيل المثال ماذا عن قضية كتاب ##في الشعر الجاهلي## للدكتور طه حسين عام 1927؟
** هذه القضية عندما أثيرت ووصلت للنائب المحقق محمد نور, نجد أنه تفرع لمدة ستة أشهر لدراسة الكتاب, ونظر إلي دراسة القضية علي أنها قضية علمية وليست دينية, وهنا وجه سؤلا لطه حسين: هل تقصد بالتأليف إهانة الإسلام وتحقيره؟ فرد طه حسين بالنفي وأكد علي أنه بحث علمي… اجتهاد قابل للصواب والخطأ,مما دفع النائب لأن يقول رأيه: من أهم أركان الجريمة ركن القصد والتعمد… وبالتالي حفظت القضية.
* هذا عن موقف الأزهر القديم… فماذا عن موقف الأزهر الجديد خاصة أن هناك بندين: الثالث والسادس بشأن حرية الفكر والإبداع؟
** الأزهر الآن يشدد أكثر علي دراسة أية قضية, حيث يضم مجمع البحوث الإسلامية الذي تعرض عليه أي قضايامن هذا النوع فهو يضم علماء أزهريين في علوم: (الشريعة علم الاجتماع, الفقه, التفسير, الأحاديث, علم الأديان المقارن, التاريخ, الحضارة…), بالإضافة إلي علماء متخصصين من خارج الأزهر أمثال: الدكتور أحمد كمال أبو المجد الذي عاصر ثلاثة أنظمة وكان وزيرا في عهد جمال عبد الناصر, الدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء حاليا, الكاتب رجائي عطية, المستشار طارق البشري وغيرهم… ووجود هذه الأسماء وغيرها من الأسماء المدنية المتخصصة جنبا إلي جنب العلماء الأزهريين يحدث نوعا مهما من التوازن…
وهذا المجمع يقدم دراسة تحليلية لأية قضية تعرض عليه آخذا في الحسبان أبعادا عديدة, منها البعد الديني (الإسلامي والمسيحي علي السواء) أي الحياة الروحانية والإيمانية, فإذا صدر كتاب يمس ما يطلق عليه التابوهات (المقدسات) يعرض علي مجمع البحوث الإسلامية الذي يدرسه ويحلله ويذكر حيثياته بأن, هذا الكتاب يضر بالدين وبالمجتمع قبل أن ينصح بمنعه وتداوله, وهذه الحيثيات يراعي فيها عدة جوانب بالإضافة إلي الدين منها: ثقافة المجتمع وتقاليده المتوافق عليها في الإسلام والمسيحية وسنجدها في النهاية متقاربة إن لم تكن واحدة علينا في هذه المرحلة أن نتوجه للمستقبل أكثر من الماضي وننظر إلي المجتمع المصري الذي يتغير, ويحاول الانتقال للديموقراطية… للعدالة… للمساواة… للمواطنة, وإذا كان الأزهر ينظر لكل هذا ويقيم له حسابا, فإنه أيضا يقيم حسابا لخصوصيات الشعب المصري بين الشعوب ويحاول إيجاد توازن بين المواثيق الدولية عن حقوق الإنسان مع القيم المصرية (الإسلامية والمسيحية).
* أنشأ الأزهر مركزا للحوار كأحد مظاهر ثورة التغيير… فما دور هذا المركز في الفترة الحالية والمستقبلية؟
** إن الأزهر الجديد يعود لعصور قوته التي كانت قوة مصر كلها, وقد بدا ثورته والتغيير فيه قبل 25 يناير حيث وضع برامج لإصلاح التعليم الإعدادي والثانوي, قام بدراسة المناهج الأزهرية القديمة المليئة بالقيم ويخرج كل ملفاته التي لم تساعده الظروف علي الدخول فيها, ولأول مرة نجد وظيفة مستشار الأزهر للحوار التي شرفت بها منذ حوالي عام…
والمقصود بالحوار: التحاور مع أي إنسان يحترم شروط الحوار… الأحترام المتبادل وعدم المسساس بالعقيدة بل التحاور حول القيم العليا المشتركة التي تتفق عليها الحضارات: الحق, العدالة, الخير, السلام, الجمال, البناء, التقدم, العلم, مقاومة الفقر والجهل والتهميش والتحقير…
لقد عانينا في الفترة الماضية من غياب روح الحوار ليس في مصر فقط بل في العالم العربي والشرق عموما, حيث يوجد خطاب أبوي: الكبير يتكلم والصغير يصمت, هذا غير لائق فهناك فرق بين احترام الكبير وبين أن يقول ما يقوله دون مساءلة أو تدقيق.
لدينا أيضا مشكلة في حق الاختلاف, علما بأن الاختلاف غير الخلاف, فالاختلاف هو المقبول وهو المطلوب ويقصد به التنوع والتعدد الذي يؤدي إلي الغني والإثراء… وهو ضرورة لنمو الحضارة ورقي المجتمع, والعدو الأول للتنوع والأختلاف هو الأقصاء والتهميش ورفض الرأي المختلف, والأختلاف مذكور في القرآن الكريم الذي يؤكد أنه إرادة إلهية, وبالتالي يكون الحوار فرضا وواجبا لتعايش المختلفين (لابد نتحاور لكي نعيش معا), أما الخلاف فهو يعني: التضاد, التعارض, الصدام, حيث تصنيع القيم والمثل… يتخبط الناس في حريات ضالة سلبية غير منتجة فهو شئ ترفضه الأديان السماوية كلها, جدير بالذكر أن هذه المشاكل لا تعالج في وسائل الإعلام وفي مقدمتها الصحافة, ولا تخصص لها مساحات كافية لتأصيل روح الحوار في المجتمع المصري, لكل هذا أنشأ الأزهر الشريف مركز الحوار, وهو يقصد به الحوار مع كل المختلفين الذين يتفقون علي ضرورة الأصلاح والتقدم وسيادة القيم العليا المشتركة, أي حوار المختلفين للاتفاق علي أو توحيد آليات الإصلاح والتقدم لكي يتم تنفيذها فهو حوار جاد.
* تضمن البند الأول بالوثيقة: دعم تأسيس الدولة الوطنية الدستورية الديموقراطية الحديثة… مع تجنب مفردات كالعلمانين والمدنين وغيرهما من المفردات المطروحة علي الساحة اليوم؟
** حقا تم اختيار: الدولة الوطنية الدستورية التي تعتمد علي دستور ترتضيه, الديموقراطية الحديثة التي تقيم حسابا للبحث العلمي… هذه كلها مصطلحات واضحة, أما مصطلحات مثل العلمانية, الليبرالية, المدنية, حتي مصطلح السلفية فهي مصطلحات غير واضحة وغامضة… وما المقصود بالليبرالي؟ المدني, السلفي, فمعني السلفية في الأصل يعني كل الأوائل المؤسسين للدين الإسلامي فجميعهم سلف…
مشكلة المصطلحات ومعانيها في العالم غير المثقف فضفاضة, غير محدودة غير دقيقة وهذا أحد أسباب التشرذم والتطرف وعدم القدرة علي النقاش العلمي الصحيح لذلك فإن المناقشة حول مفردات غير محدودة لا تؤدي إلي نتائج صحيحة ولا تقيد المجتمع, ويصبح الحوار حولها أشبه بحوار الطرشان.
إن الأزهر ضد التطرف بكل أشكاله وألوانه سواء كان مسيحيا أو يهوديا أو إسلاميا وضد التطرف العلماني والمادي والالحادي, ويجب ملاحظة أن العلمانية في مصر غير العلمانية التي بالخارج, ففي عام 2005 كان العيد المئوي للعلمانية بفرنسا التي فتحت منابر لمناقشة العلمانية ونقدها وتقديم كشف حساب عما أنجزته من خير وشر… من إيجابي وسلبي, وقد كنت أحد الأساتذة لإلقاء محاضرات حول الموقف من العلمانية وتعتيمها وأنا مسلم أزهري… وهذا هو الفرق: أن فرنسا الذكية الواعية تعشق النقد الذاتي الذي ما لم نمارسه في بلادنا لن نتقدم أبدا, لاننا ربما نجيد فهم كلمة نقد بمعناها العلمي غير واضح فهناك النقد والنقض.
المقصود بالنقد: التحليل العلمي وإبراز الإيجابيات والسلبيات والبحث عن أسبابها والخروج باستنتاجات محدودة نتجه بها إلي التصحيح والتغيير وتحديد الإيجابيات والسلبيات بصدق ودقة وموضوعية وهذا ضروري جدا قبل البدء في العمل الجاد. أما النقض فهو الهدم والتجريح, والسب… وللأسف فإن الأجيال القريبة الماضية في الشرق لا يحبون النقد…
* كيف لوثيقة الأزهر أن تواجه التيارات الفكرية الحالية الراغبة في الوصول إلي سدة الحكم؟
** هدف الوثيقة الأول مساعدة الشعب المصري علي تعميق رؤيته وتصوراته لما يجب أن يكون عليه الوطن في المستقبل القريب, لذلك فالفقرة الثانية بالوثيقة تتجه لقوي المجتمع المصري.
إذن هناك مساعدة وتنوير وتبصير يكون معه الشعب أكثر قدرة علي مواجهة دعوات الانتهازية (الدينية أو السياسية). للاتجار بالدين وللوصول إلي السلطة, فتوعية الشعب هي الحل حتي لا يصبح الشعب فريسة كما حدث في غزوة الصناديق, ولابد للشعب أن يصحو.
ونؤكد أن الأزهر الشريف ليس مصدرا للسلطات ليس دولة ولا وزارة بل هو مرجعية ومنارا علميا تنويريا وتثقيفيا عليه أن يوضح الحقائق كما تراها المصادر الإسلامية الصحيحة…
الدكتور محمود عزب في سطور
* دراسات في الأزهر الشريف.
* ليسانس اللغات السامية (لغات الكتاب المقدس) .1976
* الماجستير- درسات عليا بجامعة الازهر (لغات سامية) .1976
* دكتوراه الدولة- درسات لدكتوراه الدولة في الآداب والعلوم الإنسانية- علم لغة مقارنة لغة القرآن الكريم ولغات الكتاب المقدس لمدة 11 عاما في جامعة السوربون- باريس- فرنسا .1987
* أستاذ بكلية اللغات والترجمة بالأزهر وكلية الألسن- عين شمس حتي عام .1994
* أستاذ تأسيس أقسام مزدوجة اللغة في جامعة نجامينا- تشاد حتي .1997
* أستاذ الحضارة بجامعة السوربون حتي يوليو .2010
* مستشار شيخ الأزهر للحوار ومدير مركز الحوار بالأزهر منذ .2010
* شارك في مؤتمرات الحوار العالمية- والحضارات السامية- والفكر الإسلامي في أوربا وأسيا وأفريقيا.
* له مؤلفات بالفرنسية والعربية في مجال الفكر الإسلامي- ومناهج التفسير- والشعر الصوفي والحضارة الإسلامية- وعلوم القرآن الكريم.