##إذا كان للبشرية كلها رأي واحد, فيما عدا شخص آخر له رأي مخالف, فعذر البشرية في إخراس هذا الصوت الوحيد, هو نفس عذر هذا الشخص في إخراس البشرية كلها عندما يتولي سلطة## جون ستيوارت ميل (1806 – 1873م)
لا تزال الحرب قائمة بين العلوم والبحث العلمي وحرية الرأي من جهة, والفكر الدوجماتي المبني علي فهم خاطئ للدين, أو علي إيمان عميق بدون فهم أو عقل. القصص المحزنة لمثل هذا الصراع لا ينتهي عددها. في الماضي والحاضر, وفي الغرب والشرق. وهي ليست مقصورة علي دين واحد أو زمان واحد.
ابن المقفع, الذي كان يجمع بين لغة العرب وصنعة الفرس وحكمة اليونانيين, ومؤلف كتاب كليلة ودمنة, والأدب الصغير, والأدب الكبير. وكتب أخري كثيرة توضح ما ينبغي أن يكون عليه الحاكم إزاء الرعية, وما يجب أن تكون عليه الرعية إزاء الحاكم. مما أغضب الخليفة المنصور في صدر العصر العباسي الأول. فاتهم إبن المقفع بالكفر, وقطعت أطرافه وفصلت رأسه, وألقي بباقي جسده في النار.
والحلاج المتصوف الإسلامي المشهور, إتهمه الخليفة المقتدر بالله بالكفر وحكم عليه بالموت. فضرب بالسياط نحوا من ألف سوط, ثم قطعت يداه ورجلاه, وضربت عنقه, وأحرقت جثته بالنار. ثم ألقي مابقي من تراب جثته في نهر دجلة.
وشيخ الاستشراق المتصوف السهروردي في عصر صلاح الدين الأيوبي, تم قتله بنفس الطريقة التي قتل بها الحلاج من قبل.
والإمام إبن حنبل, قام الخليفة المعتصم بسجنه وتعذيبه. والكندي, فيلسوف العرب, جرد من ملابسه وهو في الستين, وجلد ستون جلدة في ميدان عام وسط تهليل العامة.
والرازي, ضرب علي رأسه بكتبه حتي فقد البصر, وعندما طلب أحد تلاميذه علاجه, رفض وقال لقد نظرت إلي الدنيا حتي مللت.
وابن رشد, حرقت داره وكتبه واتهم في إيمانه. ولم ينج ابن سينا أو ابن خلدون من الإتهام بالكفر.
في العصر الحديث, قتل الدكتور فرج فودة بسبب آرائه ودفاعه عن أقباط مصر. وكاد نجيب محفوظ, الحاصل علي جائزة نوبل في الآداب, أن يقتل ذبحا بسبب إحدي رواياته. وفرق بين الدكتور أبو زيد وزوجه بسبب أبحاثه. ومنعت كتب طه حسين ونجيب محفوظ من التدريس بالمدارس والمعاهد والجامعات المصرية.
وها نحن نري الآن الهجوم الشرس الإجرامي علي مفكر وباحث موسوعي هو الدكتور سيد القمني بسبب أحد كتبه ##الحزب الهاشمي##, والمطالبة بسحب جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية منه بعد أن استحقها بجدارة هذا العام.
ليس هناك داع للدفاع عن حرية البحث والرأي كوسيلة لمحاربة الطغيان والفساد والجهل والخرافات ومعرفة الحقيقة. وليس هناك حاجة لإقناع السلطة الحاكمة والمؤسسة الدينية لكي تكف عن تحديد ما يجب وما لا يجب أن نقوله أو نفكر فيه. لأنه عندما تشجب أي سلطة حرية الرأي, تكون بذلك قد ارتكبت جريمة, ووضعت نفسها هدفا تصوب إليه غضب وسخط الجماهير.
إذا كان رأي الفرد لا يفيد إلا صاحبه, فمنع هذا الرأي من الظهور, يسبب ضررا شخصيا يصيب صاحب الرأي فقط. لكن رأي الفرد ليس ملكه وحده. إنما هو ملك للجنس البشري كله. منع هذا الرأي من الظهور, هو اغتصاب حق من حقوق البشرية.
لنا أن نتخيل كم تكون خسارتنا إذا منع الأنبياء والرسل والحكماء والفلاسفة والعلماء من الكلام بحجة أن مايقولونه يختلف عما يقوله الآباء والأجداد. وكيف يكون حالنا اليوم, إذا منع إسكندر فيلمنج مكتشف البنسلين من إعلان إكتشافه, لأنه يختلف عن العقاقير المستخدمة في ذلك الوقت.
إذا كان الرأي الآخر صوابا, فنكون عندما نحجبه, قد فقدنا الفرصة لتصحيح أخطائنا. وإذا كان الرأي الآخر خطأ, نكون أيضا قد فقدنا الفرصة لتعميق إحساسنا بأننا علي صواب. لأن الصواب يتضح ويتلألأ حينما يصطدم بالخطأ.
ليس من حق أي سلطة أن تختار لبقية الناس حتي وإن كانت السلطة الدينية. وليس من حقها أيضا أن تحرم الناس فرصة الحكم علي الأمور بأنفسهم. رفض سماع الرأي الآخر بحجة أنه خطأ مؤكد هو إفتراض أن السلطة السياسية و رجال الدين علي علم بالصواب المطلق والخطأ المطلق. بينما كل الدلائل تشير إلي أن الصواب المطلق والخطأ المطلق أمور لا يعلمها إلا الله.
هناك فرق كبير بين القول بإن هذا الرأي صحيح, لأنه ينتصر علي كل الآراء التي تعارضه, وبين القول بإن هذا الرأي صحيح لأننا نؤمن أنه صحيح, ولن نسمح لرأي آخر يعارضه. افتراض صحة الآراء بالاعتقاد والتمني, وعدم السماح للرأي الآخر بالظهور, يعتبر شيئا خطيرا. يجعلنا غير واثقين من أنفسنا, ويضعف قدرتنا في التمييز بين الصواب والخطأ. ويجعل أقدامنا تقف علي أرض غير صلبة. ويجعل أفكارنا تفتقر إلي المنطق والرصانة والمصداقية.
العقل الذي وهبنا الله وميزنا به علي الجماد وباقي المخلوقات, له قدرة خارقة علي الاستفادة من تجارب الماضي الناجحة والفاشلة. أخطاء الماضي لا تذهب أدراج الرياح. إنما تخزن في الذاكرة. وتضع عند كل خطأ أوحفرة وقعنا فيها, علامة حتي لا نقع فيها مرة أخري. وقد يجنبنا الرأي الخطأ عند دراسته, الوقوع في خطأ أكبر.
الرأي الذي لا يخضع للمناقشة والدراسة, مهما كان قويا, يعتبر تحيزا وتعصبا, ولا يمكن إعتباره صحيحا. لأن الآراء تسكن العقول, ويسكن معها مخلوقان غريبان, هما التعصب والتحيز. وكلما حاولت الآراء الصحيحة الخروج, أصابها التعصب باعوجاج هنا, وأصابها التحيز بإلتواء هناك. دور حرية الرأي هو إصلاح ما اعوج, أو ما التوي حتي يستقيم.
مهما كانت شدة خطأ الرأي الآخر, فإنه دائما يحمل جزءا من الحقيقة. وحيث إن الرأي الصواب بالنسبة لأي موضوع, لا يمثل الحقيقة كاملة, لذلك وجب الاستفادة من الرأي الآخر.
الرأي الصحيح بدون الرأي الآخر, يعتبر عقيدة عمياء بدون فهم أو منطق. وإيمان الناس بالحقائق بغير استناد إلي منطق, يجعلهم مستعدين للإيمان بالأكاذيب بدون تفكير.
الاعتقاد بأن الحقيقة تنتصر بنفسها علي الباطل, فلا داعي لحرية الرأي والبحث, هو اعتقاد خاطئ. لأن الحقيقة إن لم يكن هناك من يدافع عنها ويحمل لواءها, تختفي, ويختفي معها النور الذي يهتدي به البشر. فكرة كروية الأرض ظهرت عند قدماء المصريين في مكتبة الإسكندرية قبل الميلاد. ثم إختفت لكي يعيد العرب اكتشافها في عصر المأمون. ثم اختفت ليعيد الغرب اكتشافها في العصر الحديث.
القول بإننا نحمي الأفكار المفيدة من الأفكار الهدامة أو غير المفيدة, هو قول خاطئ.
أولا: لأنه ليس لأحد الحق في أن يقرر للآخرين من هو المفيد ومن هو غير المفيد. مسألة المفيد وغير المفيد, هي آراء يجب أن تترك مثل غيرها لإبداء الرأي فيها, ولا يجب أن تأتي من سلطات أخري.
ثانيا: لأن الآراء التي لا تستطيع أن تثبت وجودها عن طريق البحث وحرية الرأي, هي أفكار لا تستحق أن تعيش.
الأفكار مثل النظريات العلمية, أو مثل الحياة نفسها علي سطح الأرض, تتبع قوانين التطور. الحياة أثمن وأعز من أن تعطي لغير القادر عليها. لذلك نقول إن حماية السلطة الحاكمة أو رجال الدين, لرأي معين. ومنع مناقشته عن طريق سن القوانين أو بتشديد الرقابة أو بالإرهاب الفكري, يضعف هذا الرأي. ويضعف معه قدرتنا علي كشف الحقائق.
النظر إلي الحقيقة من جانب واحد, ليس رؤية بالمرة. إنما مجرد سراب أو انطباع أو وجهة نظر أو أحلام وتمنيات. لأن الحقيقة لها عدة وجوه. ومن لم ير جوانبها المختلفة, كمن لم يرها مطلقا. والقصة التالية توضح ذلك:
كان فيه زمان ستة عميان من هندوستان. قرروا أن يدبوا في الأرض, بالطول والعرض. ليفتحوا الغوالق ويكتشفوا المجهول, وينالوا من الحكمة ما يشبع العقول.
بعد عدة خطوات علي الطريق, وجدوا أنفسهم أمام فيل عتيق. فقرروا أن يبدأوا عملهم المجيد, بدراسة هذا الكائن العنيد, ومعرفة أمره بالتأكيد.
اقترب أولهم ووضع يده علي بطن الفيل الجبار. وعاد مسرعا قائلا ياإخوتي ما هذا إلا جدار.
وتقدم الثاني في حذر من الأمام. ولمس ناب الفيل بالإبهام. وقال يا سادتي هذا رمح كبير, لا يحمله إلا ذي شأن خطير.
وتقدم الثالث ببطء. وتحسس من الفيل الخرطوم, ليطلق صرخة تتجمع لها الغيوم. ويخبر باقي الهندوستان, أن الكائن هو الثعبان.
وتقدم الرابع يلمس ساق الفيل في جرأة. ليعلن علي الملأ أن المخلوق هو الشجرة.
أما الخامس فتحسس أذن الفيل بحنان. ليقول , ياقوم, إنه مروحة يحملها الغلمان.
ويأتي الأخير ليشد الكائن من ذيله المنحول. ويعلن , يارفاقي ما هذا إلا حبل مجدول.
الفيل هنا يمثل الحقيقة التي نبحث عنها جميعا. ويعتقد عمي هندوستان أنهم قد توصلوا إليها. هذه القصة تمثل محنة المعرفة البشرية بأثرها. كل منا يعتقد أنه يعرف الحقيقة كلها. لأنه قرأ كتاب تفسير أو تخصص في فرع معين من العلوم أو الآداب وتعمق فيه. الواقع هذا التعمق والتخصص يبعدنا عن الحقيقة أكثر وأكثر. ويجعلنا نري الفيل ثعبانا أو شجرة, وما هو بثعبان أو شجرة.
ماذا يحدث لو حاول كل واحد من عمي هندوستان التمسك برأيه علي أنه الصواب والحق المبين المبني علي التجربة. وماذا يحدث لو رفض كل منهم الإصغاء تماما لكل ما يقوله الآخرين. ألا يقود هذا إلي ضياع الحقيقة. وماذا يكون عليه الحال, لو فرض أقواهم باعا وأعلاهم صوتا رأيه علي الآخرين بالقوة وبالإرهاب الفكري, وهدد وتوعد كل من يقر بأن الفيل يختلف عن الحبل المجدول.
إننا عندما نبني الحواجز, ونقيم القضايا, ونستخدم التهديد والإرهاب, لإسكات الرأي الآخر, نكون قد فقدنا القدرة علي التعلم والتقدم والازدهار إلي الأبد.
إعصار الإرهاب الفكري بدأ يطغي علي المنطقة دون رحمة أو هوادة. وعاجلا أم آجلا, سوف نصل إلي ما وصلت إليه أوربا في العصور المظلمة. الفرق بيننا وبين أوربا هو أن أنها استطاعت أن تنجو من هذا الوباء. وفهمت الدين كما يجب. وفصلته عن العلم والبحث. أما نحن, فلا نزال نخلط بين العلم والإيمان. ونحن لا نعرف مفهوم العلم أو معني الإيمان.
نستخدم العلم مكان الإيمان, والإيمان مكان العلم. التقدم له أسبابه. والتخلف لا يأتي من فراغ. وإذا لم نراجع أنفسنا ونعيد حساباتنا, سوف نضيع. وقد ضاعت أمم قبلنا كثيرة حين إختلط عليها الأمر, وحجبت الرأي, وحاربت العقل. فلم تعد تفرق بين الخطأ والصواب. أو الظلم والعدل.