رقد في هدوء…غادر عالمنا 10 مايو الماضي في صمت.. أكمل رسالته وطوي أوراق خدمته بالجمعية الخيرية لمؤسسة لليان تراشر للأيتام المصريين بأسيوط أقدم مؤسسة لرعاية الأيتام بالشرق الأوسط والتي امتدت لـ52 عاما عقب رحيل ماما لليان أم الأيتام المصريين ـ كما ناداها به الرئيس جمال عبد الناصر عند زيارته للمؤسسة في خمسينيات القرن الماضي – طار خبر انتقاله طوال أربعين يوما مضت لتدمع عيون أسرته الكبيرة التي يضمها البيت 650 من الأطفال الرضع والفتيان والمساعدات والأرامل والكفيفات والمتدربين, يشاركهم قرابة 20 ألف نسمة ممن احتضنهم بيت ماما لليان تراشر علي امتداد مائة عام , وأسرته الصغيرة زوجته التي تتولي الإشراف الرعوي والتربوي لأقسام الفتيات بالمؤسسة وأبنائه الخمسة .
**ولد الدكتور القس جورجي أسعد في 1936 محافظة المنيا جنوب الصعيد والتحق بالمؤسسة في أمومة لليان تراشر عام 1939 وتلقي فيها مراحل تعليمه الأولي ثم التحق بكلية الأمريكان الثانوية بأسيوط …قدمته المؤسسة كرسالة حية إنجيلية معاشة سكرتيرا للمؤسسة ثم مشرفا ونائبا ثم مديرا إلي جانب رعايته للكنيسة عقب انتقال ماما لليان في 17ديسمبر1961 وكان أتم دراسته بمعهد اللاهوت بولاية## ميزوري ##الأمريكية بالمراسلة بعدها حصل علي ليسانس الآداب جامعة القاهرة عام 1962 وماجستير العلوم اللاهوتية ببيروت – لبنان عام 1975 وصار عميدا لكلية اللاهوت الإنجيلية للشرق الأوسط, ثم مديرا لها عقب انتقالها إلي مصر من عام 1975 حتي 2011, خلال ذلك أيضا حصل علي درجة الدكتوراه في العلوم اللاهوتية من جامعة## لوجوس## بالولايات المتحدة, واختير رئيسا للمجمع العام للكنائس الرسوليه بمصر من عام 2009 وحتي انتقاله.
وإن مات يتكلم بعد
* قبل ثورة 25 يناير 2011 بأيام حدد لنا الدكتور القس جورجي أسعد موعدا للقاء.. لنأخذ المبادرة بتسجيل ما تم إعداده لاستقبال احتفالات المهرجان المئوي لبيت ماما لليان تراشر والذي كان مزمعا أن يمتد طوال العام الحالي.. وكعادته استقبلنا الدكتور القس جورجي مدير المؤسسة بمكتبه البسيط بالدور الأول بالمبني الإداري الذي يتوسط الحديقه البديعه في مواجهة الباب الرئيسي للمؤسسة والذي كتب أعلاه (البيت الذي بناه الرب لمدح مجده) ويضم قرابة 12 مبني بأدوار منخفضة لخدمة وسكن أبنائه, إضافة الي المدرسة والكنيسة القديمة…المكان كعهده يغمره السلام ومحاط بهالة من الهدوء.. وانطلقت كلماته مرحبه تسبقها ابتسامته المعهوده قائلا:
**مضطر أن أخبرك بأنه بالرغم من انتظارنا للاحتفالية المئوية وإعدادنا لفقرات المهرجان والبوستر الخاص بها باللغتين العربية والانجليزية والتي صورت (سحابة الشهود) تجمع ما بين شهداء كنيسة القديسين يعلوهم الصليب الخشبي إلي جانب ماما لليان وسط كوكبة من المساهمين والمعضدين الأوائل لخدمة البيت… قررنا تضامنا مع مشاعر وطننا الجريح تجاه أحداث كنيسة القديسين بالإسكندرية إلغاء احتفالية المئوية علي المستويين الرسمي والشعبي, حتي تجمعات الزائرين في حد ذاتها كي لاتكون مناسبة في مثل هذه الظروف…فألغيناها أيضا لكن المؤسسه ستستمر شاكرة الرب وذلك نابع من ثقتنا كمجلس إدارة المؤسسة بأن الرسالة باقية بصلوات أصدقائنا المساهمين وخدماتهم.
**وأضاف لدينا خطة بديلة اقترحناها بأن قمنا بإعداد جميع الكتب التي سبق وأعيد طباعتها مرات عن عمل الله المعجزي المستمر طوال هذه السنين وتاريخ البيت وحياة ماما لليان ورسائل ماما لليان وكتاب الإيمان العامل بالمحبة ومعجزات الإيمان في حياة لليان تراشر للقس باقي صدقة راعي الكنيسة الإنجيلية وباللغتين العربية والإنجليزية.
نبضات وأسرار
*استكمل القول:
**أعددنا الكتب لتكون بين يدي شعب الرب في الكنائس ما بين 5 أو 6 كتب.. عندنا أيضا كتب طبعت خارج مصر أحدها بعنوان ##أم النيل## وآخر بعنوان## سيدة تمتطي حمار ## ويحكي تاريخ خدمة ماما لليان وتحركها وهي تمتطي الحمار من قرية إلي قرية تضم الأطفال الأيتام والمحتاجين وتجمع قروشا بسيطة لإعالتهم00 وبمناسبة مهرجان المئوية خرج للنور أيضا إصدار جديد متميز باللغة الإنجليزية بعنوان the greatest wonder in Egypt Lillian trasher
يحكي عن الطابع المعجزي لحياة ماما لليان الشخصية ودعوتها للخدمة بمصر والصعوبات التي واجهتها والمعجزات التي واكبت خدمتها وشهادات حيه من خريجي البيت الذين تكرسوا لخدمة الرب أو الذين خرجوا ليساهموا في خدمة مجتمعهم , وأشار بالقول إن ماما لليان خرجت تاركة وراءها كل شيء وعندما بدأت رسالتها بمصر جاءت إلي أفقر أحياء أسيوط ولما احتاجت إلي أموال لتؤجر غرفة تسكن فيها مع الطفلة المريضة بالملاريا التي تركتها والدتها وماتت كان كل ما تملكه 7 قروش ونصف القرش!!…ويروي الكتاب أيضا كيف عاشت ماما لليان مثالا رائعا للاعتماد علي الله.. ونحن أولادها عايشنا معها هذا الأمر, أذكر أنه في يوم من أيام عام 1949 إذ احترق مطبخ البيت بكل محتوياته أخذتنا ماما معا وجلسنا خارجا ووضعت أمامنا الأطباق فارغة ثم دعتنا للصلاة وأغمضنا عيوننا ولم نكن ندري وقتئذ أنه حدث إضراب عن الطعام بمدرسة أسيوط الثانوية وأصدر مدير المدرسة أمرا بأن يذهب الطعام إلي ملجأ لليان تراشر للأيتام ووصل الطعام الساخن فيما كنا نصلي…أذكر أيضا من الجوانب الشخصية لحياة ماما أنها كانت تؤمن بالله المخلص المحب لأولاده وعاشت برجاء أن يعرف الأطفال الله الذي يحبهم ..
وكانت متمسكة بهذا الرجاء عندما خرجت من بلدها بالولايات المتحدة وتركت خطيبها وروت لنا بأنها كانت تحب أن يعطيها الله إذا تزوجت 12 طفلا… وفي أحد الأيام فيما كانت تنظر من نافذة غرفتها إلي الأطفال بالفناء الكبير أمامها كان عدد أطفال البيت قد وصل إلي 1200 طفل…لقد قدمت رقم 12 للرب والرب وضع الصفرين أمامه…وأشار الدكتور القس جورجي بالقول :الكتاب غني بمثل هذه الذكريات التي ألقت الضوء علي جوانب الخدمه المعاشة لدي ماما لليان مع المساهمين والمساعدين والذين كانوا يحملون الرسالة بروح الفريق, ولهذا أيضا مازالت الرسالة مستمرة بنفس الروح وبنفس الإسهامات
أسماء لامعة في المئوية
بينما استمتع بحديث الدكتور القس جورجي أسعد قدم لنا سجلا حافلا يضم قرابة 38 من الأسماء اللامعة وقال :
**هؤلاء شاركوا ماما لليان وساهموا في خدمة الرسالة الجليلة للمؤسسة وبرزوا كرموز من الأسر الأسيوطية والإرساليات الأمريكية والسويسرية و الإنجليزية…وأضاف: فضولي الغريب أن هذا السجل يضم أيضا تأريخا لبعض الأسر الأسيوطية العريقة… قمت بدوري لتصفح بعض أوراقه…قراءة في صفحاته عن جيني بينتون شقيقة ماما لليان الكبري والتي ظلت تؤازرها في رسالتها وانتقلت عام 1962, والأستاذ ناشد عبد المسيح والذي شارك في سنوات الخدمة الأولي بالبيت من عام 1917 حتي 1935, هاريت كليتون إنجليزية شاركت في خدمة قسم الفتيات وتميزت بالخدمه الصامته والتأثير العميق علي النشء من عام 1928 حتي 1945 , السيد فايز فام الذي أضفي علي البيت اللمسات الجمالية من حدائق وطرقات وتنسيق للمباني من عام 1931 حتي 1949 ….وفيما أقلب صفحات هذا السجل التاريخي توقفت عند فلورانس كريستي والتي خدمت بين الفتيات الكفيفات وعلمتهم القراءة بطريقة برايل من عام 1942 حتي 1957,ثم القس دافيد أروين وزوجته واختص بخدمة الشباب وساهم في استقرار البيت طوال فترة مرض ماما لليان من عام 1956 حتي 1960 , ثم القس جوزيف براون وزوجته اللذين تركزت خدمتهما علي الجانب الروحي والرعاية الصحية من عام 1962 إلي 1966 ,إلي جانب أسماء كالأخت حياة مشرقي رئيسة اتحاد السيدات الإنجيليات والأساتذة شكري عجيب وأمين نقولا ورمسيس المصري وعائلات ألكسان ودوس والخياط وويصا والدكاتره وليم رزق الله وصموئيل ملطي ووليم مسعد توما , ويذكر البوستر المسجل للاحتفالية إسهامات الدكتور القس جورج وود الرئيس العام للكنائس الرسولية بالولايات المتحدة وممثلي الكنائس الرسولية والمرسلين المشاركين بالخدمة في المؤسسة
يوم الوفــاة
*وعن سؤالي عما يحمله حضرة القس من ذكريات عن يوم وفاة ماما لليان قال:
** كان ذلك في 17ديسمبر1961 كان عمر ماما حوالي 74 عاما وأنا كنت قسيسا لكنيسة البيت…والحقيقة أن ماما لليان قدمت كل حياتها في خدمة رسالتها…وقرب انتقالها كانت تشكو من ضعف الصحة بصفة عامة وسافرت للولايات المتحدة قبل عام من وفاتها وصحبتها الأسرة هناك للمستشفي وطالبتها بالبقاء للعلاج, لكنها كانت تصلي بدموع حتي تعود إلي أولادها بمصر, وعادت قبل انتقالها بعدة أشهر, ولما اشتدت آلامها جاء دكتور بديع طبيب القلب المشهور في ذلك الوقت لفحصها ولم تتحسن حالتها إذ كانت غرفتها تجاور غرف الأطفال الرضع وكانت تستيقظ طوال الليل لترعاهم وتطمئن عليهم.. وبعد إعلان خبر الوفاة تحرك كل شعب أسيوط في ذلك الوقت لوداعها واصطفوا طوال الطريق علي الجانبين من المؤسسة بقرية ##الفتح ##عبورا بالكوبري الكبير قرابة 3 كم حتي منطقة ##المنفذ ## بوسط المدينة وتزاحموا في نوافذ العمارات والبلكونات ليتطلعوا لموكب وداعها وكانوا يرددون ##اليتيم يا ماما## يتيم اليوم ##والأرملة ترملت اليوم##… كنا نحب أن تدفن في وسط البيت لكنها نبهتنا بشدة بالقول: هذا بيت للأحياء وليس مكانا للموتي ….ودفنت بمقابر المؤسسة بقرية ##درنكة ##
ربنا موجــود
*وعن الشخصيات التي عاصرت ماما لليان واستقت من روحها…وهل هناك معوقات لاستمرار رسالة البيت في ظل غلاء المعيشة بنفس الكيفية قال:
**عندنا الأخت سارة التي تخدم في قسم الرضع والتي تربت في البيت واستلمت عملها منذ حوالي 50 سنة, نتلمس فيها روح خدمة ماما لليان وفي تصوري أنها ممكن تتعرف علي درجة حرارة الطفل بمجرد لمس كف يده وتصرف له العلاج المناسب!!
*وأضاف مجيبا علي سؤالي الثاني :
**ربنا طيب ولا يعوزنا لشيء ويرتب وجبات الطعام يوما فيوم والتي تتعدي قيمتها المليون جنيه سنويا.. منذ أيام فقط نفد الفول المدمس من المخازن وكمية الطعام في وجبة الإفطار كانت قليلة, في نفس اليوم جاء إلينا رجل فلاح من قرية ##أبنوب## المجاورة وقال:ياحضرة القسيس أنا لم أنم طوال الليل والست لليان قالت لي تقوم بدري توصل لعيالي, فلما عرف أننا نحتاج للفول ذهب وأتي بأردبين فول وأهداها للبيت …وأضاف بأن معاملات الله معنا بصورة يومية علي سبيل المثال في عيد الميلاد الماضي – يناير 2011 – ذهبنا لنشتري ملابس لنستكمل الموجود بالمخازن وكان ينقصنا 54 قطعة لأقسام إعدادي بنات ذهبت أنا وزوجتي لمحال ملابس بأسيوط ووجدنا الأسعار ما بين(60 و75) جنيها للقطعة ولم يكن لدينا هذه المبالغ, ولكن فور عودتنا للبيت وجدنا عدد 3 كرتونة مع شركة شحن من صديق بالقاهرة باسم بيت لليان تراشر ومعه رساله تقول من فضلك ## وزع ما بداخل الكراتين## علي أطفال البيت00فوجئنا أن ##الكراتين## تحوي ما يقرب من احتياجنا من قطع الملابس…وقبل 3 أيام من قرار مجلس الإدارة بإلغاء المهرجان كنت أجلس وأفكر بأننا قد لانستطيع تعويض الدعم الذي كان يصل إلي البيت بسبب إلغاء المهرجان, ولم يسعدني شيء في حياتي بقدر ما كان رد الرب يسوع أسرع مما توقعت حيث دخل رجل بسيارته من الباب الخارجي ووصل الي المكتب وقال لي أريد أن أحدثك علي انفراد ثم أخرج مبلغا قدره25 ألف جنيه وأهداهم للبيت بمناسبة المئوية…وأضاف وقد تتعجبين لو أخبرتك بأن معظم أولادنا يتسلمون أعمالا فور تخرجهم ويدعم ذلك التدريب المهني داخل البيت لكل الفتيان والفتيات أثناء مراحل الدراسة حيث يقوم الخريجرن بمساعدة إخوتهم الأصغر ويساندونهم حتي يجدوا فرص العمل المناسبة.
الوداع الأخير
*قام ليودعنا حاملا بين يديه الكتابات والمراجع التي تشع بعمل الله المعجزي في هذا البي المؤسسي الذي أقامه الله لمدح مجده والذي تعده محافظة أسيوط بقلب الصعيد رمزا ومزارا…لوح لنا بيديه مودعا ببشاشته المعتادة وابتسامته التي سبقت حرارة كلماته قائلا: نراك قريبا…لم ندر أنه الوداع الأخير