صورة من تاريخ المصريين وكفاحهم في سبيل الحياة المصرية الكريمة, ومرآة الثورة بميراثها ومقوماتها, هذا هو الدستور المصري الذي جاهدت مصر مرارا كي يري النور, وذلك بدءا من الإرهاصات الأولية لترسيخ قواعد تضمن بداخلها حقوق الشعب, ففي عام 1805 شهدت مصر أولي هذه القواعد الدستورية في عهد ##محمد علي## عندما تم مبايعته حاكما بشروط الشعب وتوفرت القاعدة الدستورية ##الأمة هي مصدر السلطات##, ومع نهضة ##محمد علي## الإصلاحية توفرت ميزات أخري مثل قيام مجلس شوري النواب, وفي عهد الخديوي توفيق فقدت الأمة هويتها لتدخل الإنجليز في شئونها مما أدي إلي قيام الثورة العرابية والتي أسفرت عن دستور 1882
وبحسب ##جريدة السياسة## الصادرة آنذاك لعام 1925 فإنه مع الاحتلال الإنجليزي لمصر وقفت إنجلترا عقبة في سبيل تمتع مصر بصلاحيات الحكم النيابي فأجبرت الحكومة المصرية علي إلغاء الدستور المصري الذي أقره الخديوي توفيق خلال الثورة العرابية, كما وضع اللورد ##دفرين## قانون مصر النظامي الذي أقام مجلس الشوري والجمعية العمومية وجعل منهما هيئتين استشاريتين مما أدي إلي قيام حركات شعبية تطالب بالدستور, وزاد النضال عندما فرضت الحماية علي مصر وتولي السلطان حسين كامل العرش وأراد أن يضع لمصر نظاما دستوريا فتصدت إنجلترا له, ثم جاءت الثورة الشعبية سنة 1919 للمطالبة بالاستقلال وبضرورة وجود دستور للبلاد حتي أعلن تصريح 28 فبراير سنة 1922 وفيه أعلنت انتهاء الحماية علي مصر والاعتراف بمصر دولة مستقلة ذات سيادة مع بعض التحفظات وقد أدي تداعي الأحداث بعد هذا التصريح إلي صدور دستور 1923 , والتي وضعته لجنة الثلاثين المكونة من ذوي الكفايات من الوزراء السابقين ومن رجال العلم والقانون والأعيان, إلا أن هذا الدستور خيب آمال الكثيرين, فقال عنه سعد زغلول إنه دستور ليس ديموقراطيا خاصة ما جاء فيه عن حرية الصحافة والاجتماعات العامة ومسئولية الوزارة, وطالب بضرورة عرض الدستور علي نواب الأمة للموافقة عليه بدل أن يصدر من الملك وحده.
وعلي حد تعبير ##عبد العزيزي فهمي باشا## كان دستور 1923 ثوبا فضفاضا, بمعني أنه لم يكن تعبيرا عن شئ بل كان يكشف عما تحته من أداة أجنبية فرضت علي البلاد فاستغلت الشعب تنفيذا لمطامعها الاستعمارية, ولم يكن يعبر بشئ عن الحياة المصرية ومقوماتها, بل فرض ضمانا للاحتفاظ بالعرش. وكان من ضمن البنود التي تضمنها دستور 1923 والتي أثارت حفيظة المصريين, المادة رقم 24: السلطة التشريعية يتولاها الملك بالاشتراك مع مجلسي الشيوخ والنواب. المادة 31: تصدر أحكام المحاكم المختلطة وتنفذ وفق القانون باسم الملك. المادة 33 :الملك هو رئيس الدولة الأعلي وذاته مصونة لا تمس. المادة 43: الملك ينشئ ويمنح الرتب المدنية والعسكرية والنياشين وألقاب الشرف الأخري.
ويعد دستور 1923 الخطوة الأولي في تاريخ مصر الدستوري إلي أن جاء الأمر الملكي في 22 أكتوبر 1930بإلغاء دستور 1923, ثم عودته في يوم 12 ديسمبر 1935. وظلت مصر تعمل بدستور1923 إلي أن قامت ثورة الجيش في 23 يوليه 1952, وأعلنت سقوط دستور 1923 علي أن تتولي السلطات في فترة الإنتقال لوضع دستور جديد مراعاة لمصالح المواطنين جميعا دون تفرقة, وفي 16 يناير 1953 أصدر محمد نجيب إعلانا دستوريا إلي الشعب المصري يحذر فيه من التدخل الأجنبي في شئون مصر الداخلية, وحسب ما جاء بالإعلان الدستوري: ##لم تتورع بعض العناصر عن الاتصال بدول أجنبية وتدبير ما من شأنه الرجوع بالبلاد إلي حالة الفساد السابقة بل الفوضي المتوقعة, مستعينة بالمال والدسائس في ظل الحزبية المقيتة, ولما كانت الأحزاب علي طريقتها القديمة وبعقليتها الرجعية لا تمثل إلا الخطر الشديد علي كيان البلاد ومستقبلها, فأنني أعلن حل جميع الأحزاب السياسية ومصادرة أموالها…## وبنهاية الدستور أعلن نجيب عن قيام فترة انتقال لمدة ثلاث سنوات, وفي فبراير 1953 نشرت جريدة الوقائع المصرية إعلانا دستوريا من القائد العام للقوات المسلحة يدعم فيه مبادئ تيسير تلك المرحلة الانتقالية من بينها التأكيد علي الحرية الشخصية وحرية العقيدة والرأي واستقلال القضاء.
وفي خضم الصراعات التي نشبت بين مجلس قيادة الثورة ومحمد نجيب, اضطر الأخير إلي تقديم استقالته في فبراير 1954 ثم اجتمع مجلس قيادة الثورة وأصدر عدة قرارات من بينها السماح بقيام الأحزاب, كما أمرت الحكومةتتشكيل لجنة من خمسين عضوا لوضع الدستور تضم ممثلين لكل ألوان الطيف السياسي والفكري في مصر آنذاك فكان من بينهم ممثلون لأحزاب الوفد والأحرار الدستوريين والسعديين والإخوان المسلمين والحزب الوطني القديم والجديد وحزب مصر الاشتراكي وحزب الكتلة الوفدية المستقلة وكانت تضم فضلا عن ذلك أعضاء من لجنة الثلاثين التي وضعت دستور 23 ويعرفون ما به من ثغرات أدت إلي الصراع بين القصر والأغلبية حول سلطة الملك وسلطة الأمة فضلا عن ثلاثة من رؤساء القضاة وعدد من ألمع فقهاء القانون الدستوري وثلاثة من رجال الجيش والبوليس المتقاعد وشيخ الأزهر وبطريرك الأقباط وخمسة آخرين منهم.. وكانت اللجنة برئاسة علي ماهر باشا. وبعد سبعة عشر شهرا من تشكيلها أنهت لجنة الخمسين عملها ووضعت مشروع الدستور وقدمته إلي قيادة الثورة في 15 أغسطس 1954 وهو مشروع يأخذ بمبدأ الجمهورية البرلمانية, وكان الدستور ينص علي أن يكون للدولة برلمان من مجلسي للنواب وآخر للشيوخ ويكون الفصل في صحة عضوية أعضاء المجلس من اختصاص المحكمة الدستورية, ومجلس الوزراء مسئول أمام البرلمان الذي له حق مساءلة وسحب الثقة من الوزارة كلها أو من أحد وزرائها , كما ينص الدستور علي محاكمة رئيس الجمهورية إذا ارتكب ما يبرر ذلك بقرار أحد المجلسين بأغلبية الأعضاء وتتم المحاكمة أمام المحكمة الدستورية العليا.
وحرم الدستور دخول البوليس المنازل ليلا إلا بإذن من السلطة القضائية, كما نص علي أنه لا يجوز تقييد إصدار الصحف بترخيص ولا يجوز الرقابة عليها أو إيقافها أو مصادرتها بطريق إداري.
وما أن أتمت اللجنة وضع الدستور وتقديمه إلي الحكومة حتي ركن في الأدراج, وبعد تولي مجلس قيادة الثورة برئاسة جمال عبد الناصر سلطات رئيس الجمهورية, صدر دستور 1956 وتضمنت ابوابه: الدولة المصرية, المقومات الأساسية للمجتمع المصري, الحقوق والواجبات العامة, السلطات, الإدارة المحلية, الدفاع الوطني, السلطة القضائية.
غير أن إعلان الوحدة التي قامت بين مصر وسوريا بعد عامين من تاريخ العمل بدستور 1956 اقتضت قيام نظام دستوري جديد وهو دستور الجمهورية العربية المتحدة الذي بدأ العمل به في فبراير , وبعد انفصال سوريا من الوحدة في سبتمبر1961, واجه دستور1958 هزة عنيفة, وعلي أثر ذلك أصدر رئيس الجمهورية إعلانا دستوريا في 27 سبتمبر 1962 بشأن التنظيم السياسي لسلطات الدولة العليا, وكان هذا الإعلان بمثابة تعديل جزئي لجانب من مواد دستور 1958 المؤقت.
وفي 24 مارس1964 أصدر الرئيس جمال عبد الناصر دستور 1964 المؤقت, إلي أن يقوم مجلس الأمة المصري بوضع مشروع الدستور الدائم للجمهورية. وكانت دعوة السادات لمجلس الأمة في 20 مايو 1971 بإعداد دستور جمهورية مصر العربية الدائم وعرضه علي الشعب في الاستفتاء. وفي يوم 11 من سبتمبر 1971 صدر دستور جمهورية مصر من خلال استفتاء شعبي عام, والذي يؤكد علي دعم سيادة القانون واستقلال القضاء ووضع الأسس الاشتراكية للنظام, وبذلك قام مجلس الشعب كسلطة تشريعية إلي جانب مسئوليته عن اعتماد السياسة العامة للدولة وخطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والموازنة العامة للدولة, وعن مراقبة السلطة التنفيذية, وفي عام 1976 سمح القانون بالتعددية الحزبية. وفي عام 1980 تم تعديل الدستور والذي بموجبه أنشئ مجلس الشوري كسلطة استشارية بهدف توسيع دائرة المشاركة السياسة والديمقراطية كما أضيف باب جديد إلي الدستور تضمن الفصل الأول منه بيان الأحكام الخاصة بهذا المجلس وكان أول اجتماع له في أول نوفمبرعام 1980, وفي عام 2005 تم تعديل المادة 76 من الدستور الدائم والقوانين ذات العلاقة.
وفي يناير 2011 اندلعت ثورة جماهيرية حاشدة أسفرت عن سقوط النظام وتولي القوات المسلحة إدارة شئون البلاد لمرحلة انتقالية لحين اصدار دستور جديد , وانتخاب رئيس للبلاد.