الخطاب الذي ألقاه فرانكلين ديلينو روزفلت خلال حفلة تنصيبه رئيسا في ولايته الأولى يشتهر اليوم بجملة واحدة: “الأمر الوحيد الذي يجب أن نخشاه هو الخوف نفسه”. لكن الذين سمعوا خطابه في ذلك الحين لم يعيروا اهتماما كبيرا لهذه الجملة ولم تتطرق إليها الصحف في تقاريرها في اليوم التالي. يروي جوناثان آلتر في كتابه The Defining Moment (اللحظة الحاسمة) أن الكلمات التي حظيت بأكبر قدر من التصفيق كانت أكثر تحديدا. فقد قال روزفلت: “سأطلب إلى الكونجرس إعطائي الوسيلة الوحيدة المتبقية لمواجهة الأزمة. (سلطة تنفيذية) واسعة لشن حرب على حالة الطوارئ، تساوي السلطة التي كان سيمنحني إياها لو أن عدوا أجنبيا قام بغزو بلدنا بالفعل”. في اليوم التالي، كان العنوان الرئيسي في صحيفة نيويورك هيرالد تريبيون: «الديكتاتورية إن اقتضى الأمر».
نحن لسنا في عام 1933، ولا أحد سيؤيد أو يشجع محاولة مماثلة لبسط السلطة اليوم. لكن على الرئيس باراك أوباما أن يبدأ بالتخطيط بسرعة لمجموعة من الإجراءات غير الاعتيادية لانتشال الولايات المتحدة من حالتها الاقتصادية الحالية التي لا يمكن أن تدوم. لقد ركز الرئيس جهوده في الأيام الأولى على الوفاء بوعود مهمة أطلقها خلال حملته الانتخابية، وهو أمر يمكن تفهمه ــ وضع حد للتعذيب، وإقفال معتقل جوانتانامو ــ لكن عليه الآن أن يتطرق إلى أكبر تحد تواجهه البلاد.
فالاقتصاد الأمريكي يشهد أكبر انكماش اقتصادي له منذ عام 1974، وهو ركود من المرجح أن يكون الأطول منذ الحرب العالمية الثانية. لكن هذا ليس أسوأ ما في الأمر. فالنظام المالي الأمريكي مختل بالفعل. البنوك الكبرى تواجه الإفلاس، والحركة في سوق القروض لا تزال ضعيفة جدا. ومادام أن القطاع المالي في حالة ركود، فلن تتوفر القروض للمستهلكين والشركات الأمريكية، الذين يشكلون معا 80 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، ولا يمكن للحركة الاقتصادية أن تعود إلى طبيعتها بشكل مجد. لم نتخط الأزمة. وفي الحقيقة، لا تلوح نهاية الأزمة في الأفق بعد. في واشنطن كما في وسائل الإعلام، توقفنا جميعا عن التفكير في إنقاذ النظام المالي ــ فهذا كان
الموضوع الرئيسي خلال العام الماضي ــ وانتقلنا إلى تركيز اهتمامنا على إنقاذ شركات تصنيع السيارات وعلى الخطة التحفيزية المالية. وبدأت الجدالات تدور حول ما إذا كانت البرامج تأتي لمصلحة أقلية أو أنها استثمارات حقيقية، وما إذا كان يجب تفضيل التخفيضات الضريبية على الإنفاق الحكومي. لكن بالرغم من ضخ مئات المليارات من الدولارات والوعود بتوفير مليارات أخرى، لاتزال البنوك تمتنع عن الإقراض. من دون نظام مالي فعال، لن تتمكن خطة الإنقاذ، حتى لو كانت ضخمة، من إعادة الاقتصاد إلى مساره الطبيعي نحو النمو. حاولت اليابان تحفيز اقتصادها بأكبر خطة مالية في العالم خلال تسعينات القرن الماضي، لكن ذلك لم يحفز النمو على المدى الطويل في ذلك البلد.
ماذا عن الإجراءات التي اتخذت حتى الآن؟ برنامج إغاثة الأصول الخاسرة بقيمة 700 مليار دولار والضمانات الفيدرالية الكثيرة والخطوات غير الاعتيادية التي اتخذها بنك الاحتياطي الفيدرالي؟ لقد ادعت الإدارة السابقة بشكل يمكن تصديقه أن هذه الإجراءات كانت ناجحة، بمعنى أن النظام المالي لم يتداع كليا. بول كروجمان، الذي لا يؤيد مقاربة إدارة بوش في مواجهة الأزمة، يقر بأنه “لو لم يتم إنقاذ البنوك، لانهار النظام بكامله”. لكن خطة الإنقاذ لم تحل المشكلة» فالبنوك لا تزال ترزح تحت عبء الكثير من الأصول الخاسرة. وفي حين أن إدارة بوش اقترفت الأخطاء ــ معظمها أصبح أوضح بالنظر إلى الماضي ــ فإن فريق أوباما الاقتصادي يعرف أنه ليس هناك حل بسيط لهذا الوضع المعقد غير الاعتيادي. بريطانيا، التي أثني على خططها الأولى لإنقاذ البنوك، يبدو أنها أخطأت في مجموعة السياسات التي أقرتها الأسبوع الماضي. قد يكون هذا الوقت المناسب لتذكر قاعدة كاتب السيناريوهات ويليام جولدمان الأساسية بشأن هوليوود: “لا أحد يعرف شيئا”.
ومع ذلك، على الحكومة أن تفعل شيئا ما. الرئيس أوباما يواجه معضلة رهيبة. عليه أن يعمل بسرعة وعلى نطاق ضخم جدا. من بين الأمور التي أضعفت الأسواق الخطوات التدريجية التي اتبعتها الحكومة في ردة فعلها. هل تنقذ هذا البنك أم ذاك؟ وبأي شروط؟ المقاربة الشاملة تلزم الحكومة باتباع مسار واحد ــ حل واحد ــ ولا تسمح بالاختبار. كما أنها باهظة الكلفة. لكن من دون خطوات واسعة النطاق، سيستمر النظام المالي بالنزيف. والسياسات المتعلقة بهذه المسألة أسوأ. فالشعب الأمريكي يعتقد أننا أنفقنا أكثر من اللازم لإنقاذ البنوك. لكن الواقع الاقتصادي هو أننا لم ننفق بما يكفي. وإذا لم تحصل هذه المنظمات على مئات المليارات من الدولارات الإضافية، فإنها ستبقى شبه ميتة وسيبقى الاقتصاد مشلولا.
السرعة مهمة أيضا. في تسعينات القرن الماضي، كان صانعو السياسات الأمريكيون يتهجمون على الحكومة اليابانية بسبب ردة فعلها الضعيفة تجاه انهيار سوق العقارات والبورصة في اليابان، مما أدى إلى ركود اقتصادي دام أكثر من عقد. في الحقيقة، اتخذ اليابانيون إجراءات جذرية: فقد ضخوا الأموال إلى بنوكهم، وخفضوا معدلات الفائدة واعتمدوا خطة مالية تحفيزية ضخمة. لكنهم انتظروا بضع سنوات قبل أن يواجهوا مشاكلهم، وهذا ما جعل خطواتهم أقل فعالية بكثير. لقد تعلم بنك الاحتياطي الفيدرالي الدرس وتحرك بسرعة أكبر من البنك المركزي الياباني. لكن هل سيتحرك النظام السياسي الأمريكي بشكل أسرع من النظام السياسي الياباني؟
لايزال هناك جدال حاد حول ما يجب القيام به الآن. لكن في الصميم، يبدو أن الجميع يوافقون وزير الخزانة السابق هانك بولسون الرأي في تشخيصه الأولي، المشكلة هي أن البنوك تملك الكثير من الأصول الخاسرة (أي القروض السكنية) في حساباتها. هذه الأصول “مؤذية” لأنها تؤثر سلبا على بقية أعمال البنوك، مما يجعل عملها أكثر صعوبة. يجب الإفصاح عن هذه الأصول، وتحمل خسارتها، وعزلها عن بقية النظام المالي كي يبدأ هذا الأخير بالعمل من جديد.
البعض يؤيد الآن فكرة إنشاء “بنك وطني جامع” يشتري كل الأصول المؤذية، في حين يطالب آخرون بأن تقدم الحكومة ضمانات وتأمينا، ويطالب البعض الآخر بتأميم المؤسسات التي تعاني أكبر المشاكل. يبدو أن خطة بولسون لإنقاذ “سيتي جروب” في شهر يناير تستعمل أموال برنامج إغاثة الأصول الخاسرة بشكل فعال، وكان مردودها كبيرا مقارنة بكلفتها. لكل سياسة حسناتها وسيئاتها، وأنا لست خبيرا بما يكفي لتقييم أي من المقاربات هي الصحيحة. لكن يبدو أن من الضروري أن تكون ردة فعل الحكومة شاملة. يجب تعليق الإيديولوجيات في فترة الأزمة هذه، لم نعد نسمع الكثير عن “المخاطر الأخلاقية”. قد نضع حدا مؤقتا للأفعال التي تؤدي إلى تفاقم الانهيار، مثل “تخفيض أسعار الأصول لتلائم السوق”، مما يجبر البنوك على الاستمرار في تخفيض أسعار أسهمها (حتى وإن كانت لا تعتزم بيعها)، وهذا يحتم عليها في النهاية جمع المزيد من الأموال للاستمرار. بشكل عام، على الحكومة أن ترسل إشارة واضحة للأسواق: من غير المجدي المراهنة على أننا سنفشل» فالأدوات التي نملكها لامتناهية وسنستغلها وفي النهاية سننتصر.
حل مشكلة البنوك لن ينهي هذه المشاكل. وكما أشار الرئيس أوباما مرارا، فإن الأزمة ستستمر إن لم تستقر سوق العقارات السكنية. العقارات السكنية هي في صلب الكثير من هذه الأصول المؤذية. وإذا استمرت الأسعار بالانخفاض، فستصبح الأصول أكثر ضررا. لقد تقدم الوكيل الاستثماري المحنك توماس باتريك باقتراح مبتكر يجبر مؤسستي “فاني ماي” و”فريدي ماك” على إلغاء كل الأسهم المضمونة بعقارات سكنية ومن ثم تعديل كل القروض المتعلقة بها، مما يؤدي إلى التخلص من الاستثمارات المؤذية ويعيد الاستقرار إلى سوق القروض السكنية في الوقت نفسه. مهما كان المسار المتبع، سيبلغ عجز الميزانية الأمريكية تريليونات الدولارات طوال سنين، وسيشتري بنك الاحتياطي الفيدرالي أصولا بتريليونات الدولارات، وبالتالي سيكون النظام المالي ونظام القروض السكنية قد خضعا لعملية تأميم جزئية في أمريكا، مهما كانت العبارات المستخدمة لتمويه ذلك.
لقد أدت الأزمة الحالية إلى تضاؤل نفوذ أمريكا بشكل لم نفهمه بالكامل. حتى في أسوأ مراحل حرب العراق، عندما كانت معظم بلدان العالم تستشيط غيظا بسبب قرارات إدارة جورج دبليو بوش الأحادية، كان الناس في كل أنحاء العالم يعتقدون أن الولايات المتحدة تملك الاقتصاد الأكثر تقدما وأن أسواقها المالية بالأخص هي الأكثر تطورا وتعقيدا. كان المسؤولون ورجال الأعمال وعلماء الاقتصاد الأمريكيون يلقون خطابات في شتى أنحاء العالم بشأن ضرورة تقليد النظام الأمريكي. الآن يُنظر إلى هذا النظام على أنه خدعة، ولعبة قمار حيث أساء المشاركون الذين يتقاضون أجورا عالية إدارة المخاطر وقام المشرعون الذين يحظون باحترام كبير بالتهليل لهم. خلال الأشهر الثلاثة الماضية، سافرت إلى أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، وأنا أكتب هذا المقال من كندا. مواقف المسؤولين ورجال الأعمال تتراوح بين الصدمة والغضب إزاء ما يرونه في الولايات المتحدة.
عندما بدأ باراك أوباما حملته الانتخابية للوصول إلى البيت الأبيض، ظن أنه يستطيع استعادة نفوذ أمريكا ودورها الريادي من خلال إصلاح سياستنا الخارجية، وإنهاء حرب العراق تدريجيا، وإغلاق معتقل جوانتانامو، ووضع حد للتعذيب. هذه كلها سياسات مهمة، وأنا سعيد لأنه يركز عليها. لكن في الوقت الراهن، الوسيلة الأهم لكي يعيد مصداقية أمريكا ونفوذها في العالم هي إنقاذ النموذج الأمريكي.
كلام أوباما يوحي بأنه يفهم ذلك. لكن هل يعي الكونجرس ذلك أيضا؟ هل يمكن للنظام السياسي الأمريكي أن ينهض بمتطلبات هذا التحدي؟ سيتعين على الولايات المتحدة أن تتخذ إجراءات غير اعتيادية، وقد يكون الكثير منها غير شعبي، وسيزداد عجز الخزينة إلى حد كبير، ومن ثم سيتعين عليها أن تتوقف بسرعة عن تقديم الضمانات والتعهدات وأن تتوخى الحذر والصرامة المالية، وتصلح النظام القائم على اعتقاد الكثيرين بأن من حقهم الحصول على معاملة خاصة، وتعيد تقويم نظامنا المالي. وإذا لم نفعل ذلك، فسيتحدث العالم عن ضعف أمريكا وليس عن قوتها. وستصبح أمريكا نموذجا بالفعل، لكنه سيكون نموذجا للغرور وتداعياته.
نيوزوييك