البرادعي شخص نبيل.. لكن الالتفاف حوله يذكرني بـفرح العمدة
مصر تتعرض لحملة تشكيك في رموزها.. وأحوالها تغري بالتهجم علي أولادها
محاولة مصادرة ألف ليلة أكدت أننا نعاني من ردة ثقافية
عبدالرحمن الأبنودي من أعظم شعراء العامية التي أنجبتهم مصر علي مدار تاريخها.
الخال فتح قلبه لـوطني التي حرصت علي لقائه.. هناك في منزله بالضبعة – في ريف الإسماعيلية حيث يستقر بعيدا عن قسوة القاهرة وصخبها وازدحامها باحثا عن أبنود جديدة تذكره بمسقط رأسه وأحلي أيام مشوار حياته وتعينه بهوائها النقي علي احتمال ومقاومة المرض الذي اعتلت به رئته.. واستقبلنا بابتسامته العذبة.. وكرم الصعايدة.. وبروح شابة منطلقة.. وبحكمة السنين والتجارب.. وبحب جارف لمصر.. الأرض والناس.. وكما كان شعره تعبيرا وتوصيفا حقيقيا لهموم وأوجاع وأحلام المجتمع المصري.. وكما جاءت مقالاته وحواراته متواصلة مع قضايا مجتمعه وما يدور فيه من أحداث بداية من العراك السياسي وظاهرة البرادعي والأزمات العمالية والاعتصامات والغلاء ولهيب الأسعار إلي نهب أراضي الدولة, والفتنة الطائفية وغيرها.. وجاء حواره معنا ليعبر عن كل تلك المعاني والقضايا.. يحمل في بعض ملامحه نبرة حزن تصل أحيانا إلي حد التشاؤم.. لكنه بوعيه وخبراته مازال علي ثقة في قدرات الشعب علي تجاوز المصاعب, لذا.. سرعان ما تعود بسمة الثقة لتغمر وجه الخال الأبنوي, وإلي نص الحوار…
* مصر ينقصها إيه لكي تصل إلي بر الأمان؟
** مصر ينقصها حزب جماهيري قوي ينطلق من إيمان النخبة المثقفة بالجماهير وحتمية الارتباط بها.. ودون حزب جماهيري كبير لا يمكن الوقوف أمام الحزب الوطني الديموقراطي المهيمن, فنحن في حاجة لعمل جماهيري.. منظم فدون ذلك سيظل كل ما نكتبه مجرد مهنة نأكل منها ونشرب وننال احترام الناس فقط, ولكن لا صلة له بالعمل السياسي الحقيقي فأنا رجل عمري كله أفنيته لهذا البلد والغناء لهذا الشعب ولم يحدث شيء مثمر ملموس حتي الآن.
* في هذا السياق, ما تقييمك لدخول د. البرادعي المعترك السياسي؟
** لن نستطيع أن نصنع التغيير السياسي بصورته الحقيقية إلا إذا أصبح البرادعي أو غيره يمثل حزبا يكون الشعب هو اللبنة الأساسية له, ولكن ما يحدث الآن مع البرادعي أو غيره من الشخصيات الراغبة في التغيير هو في حقيقية الأمر دوران في دوائر مغلقة.. وأنا أشبه ما يجري حول البرادعي بفرح العمدة.
* كيف تري أداء الحكومة خاصة بعد أن أثبتت فشلها في التصدي لكثير من الأزمات؟
** الأحوال المصرية بشكل عام شديدة السوء وذلك لأن هناك طبقة من الرأسمالية المتوحشة وغير المسئولة.. فهي طبقة لا تخشي أن تنهب مقدرات مصر دون إدراك العواقب.
فالمواطن المصري أصبح يقتل في طابور العيش وممكن أن ينتظر هو وأسرته 20 يوما لكي يحصل علي أنبوبة بوتاجاز وغيرها من الأزمات التي مر بها المواطن المصري الأصيل واستطاع أن يتغلب عليها هو وحده وليس الحكومة, وحتي نستطيع التغلب علي هذه المشاكل بشكل جذري يلزمنا تعليم قوي واقتصاد يري الشعب المصري ويشعر بآلامه.
والحكومة لابد أن تستيقظ قبل فوات الأوان خاصة أن الفساد يزيد ويتفشي وكأنه أصبح القاعدة الأساسية للحياة.
والغريب أنك إذا تأملت المواطن المصري الفقير تجده فقير بس ذكي وفاهم كل شيء ومدرك من أين أتي هؤلاء الأغنياء بهذا الثراءا الفاحش.
وهذا الغضب والاحتجاج والخروج إلي رصيف مجلس الشعب ومجلس الوزراء تلك الظاهرة ظاهرة الاعتصامات التي لم يكن الشعب المصري يعرفها من قبل ما هي إلا تعبير عن حجم المعاناة والأزمات في المجتمع ولكني آمل ألا يظل الحال علي هذا المنوال.
* المنظومة التعليمية في مصر الآن.. ما رأيك؟
** التعليم في مصر هو أسوأ تعليم ويزداد سوءا والناس من شدة هذا السوء فقدت الرغبة في العلام ونري تلاميذ وصلوا للمرحلة الإعدادية والثانوية ولا يعرفون كتابة سطرا واحدا, والغريب أن كل رموز مصر تعلمت في مدارس الحكومة وأصبحت رموزا للعالم كله في كافة المجالات, رموز جيل الستينيات أمثال صلاح عيسي وجمال الغيطاني وأنا وخيري شلبي وإبراهيم أصلان كلنا جميعا تعلمنا في مدارس عادية فما الذي حدث للتعليم حتي أصبح غير قادر علي تخريج كفاءات مثل هؤلاء؟
* كان ديوان الأرض والعيال من أوائل دواوينك.. هل تري أن الأرض مازالت هي الأرض والعيال هم العيال؟
** لم تعد الأرض هي الأرض ولا العيال هم العيال فالأرض أصيبت في مقتل والعيال أحوالهم تغيرت للأسوأ حتي صارت شديدة السوء والتعاسة. للأسف التربة المصرية تم تخريبها من خلال أسمدة ومبيدات فاسدة, فهناك نباتات لم تعد تزرع ونباتات تم تغيير جيناتها الوراثية حتي وصلنا لاستيراد علب فول من أمريكا بالإضافة إلي مشاكل القطن الذي كانت مصر تتميز به لأن هناك مؤامرة لإفساد زراعته وتربته وغيرها من المشاكل الزراعية في مصر.
هذه المنطقة مثلا الضبعة بالإسماعيلية تعيش علي زراعة المانجو وبيعه وتصديره فإذا بهم يقطعون أشجار المانجو ويزرعون بدلا منها نباتات أخري ويبيعونها للمشاتل ولم يعد فلاحو الإسماعيلية ينتظرون موسم المانجو الذي كان يطرح ويزوج البنات ويدخل العيال المدارس مثل محاصيل القمح والقطن بالنسبة للصعيد.
وبالمناسبة, أنا في ديوان الأرض والعيال كنت قد تحدثت عن واقع مرير للقرية الصعيدية ولكن الآن حين نري الواقع الحالي أعتقد أن الفلاح كان في نعيم وأن هذه الأحوال التي يعيشها الآن المواطن المصري أو العيال في الديوان هي أسوأ بكثير مما كان عليه الحال في الماضي.
* بعد أن عاش الأبنودي حياة العمال وكتب عنهم ديوانه عماليات, كيف يري عمال مصر وهم معتصمون علي الأرصفة ويدفعون ثمن الخصخصة غاليا؟
** قضية العمال والفلاحين من القضايا التي تشغلني منذ بداية كتاباتي الشعرية, وإلمامي بقضايا الفلاحين والعمال أكثر من إلمامي بكثير من القضايا الأخري, فهي القوي الرئيسية التي تصنع اقتصاد مصر وعمارها وهي في أسوأ حال الآن.. الفلاحون والعمال يشتركون في نفس الظروف الصعبة, فهم يعيشون الآن أحلك الفترات خاصة بعد عهد عبدالناصر الذي أغدق عليهم وبعد أن أحسوا بقيمة الحياة.
لأن عبدالناصر أعاد لهم كرامتهم وكرامة الإنسان عموما ولكنهم الآن عادوا ليقفوا في طابور الهوان والذل, فأصبحت حياتهم في منتهي القسوة. فكيف لفلاح ونحن في بلد زراعي أن يعاني من غلاء ثمن التقاوي والمبيدات والأسمدة وأن يتعرض لمعاملة سيئة ويصبح مطاردا من البنوك بسبب الديون, وكذلك العمال وما يعانونه من نتائج الخصخصة, فكلاهما – الفلاح والعامل – ضحايا الحكومة.
* تغنت شادية بكلماتك والله إن ما / اسمريت يا عنب بلدنا لأجري وأندهلك عيال بلدنا والآن العنب مش عايز يسمر ولا عايز يطيب علي الشجر تفتكر لسه فيه أمل في شباب بلدنا؟!
** الغنوة كانت رمزية وكانت تحمل في ثناياها الكثير من المعاني والأحاسيس التي كان يشعر بها المواطن المصري وقتها فكانت تعني أنه إذا لم يأت عن كل ما نفعله من بطولات وتضحيات من أجل الوطن شيء طيب نلمسه ونعيشه فسوف يأتي أبناء الوطن وبسواعدهم يقتلعون كل ما هو فاسد علي الشجر.
وكنت أظن أن هذه الغنوة كانت لوقتها والظروف المحيطة بها ولكن مع مرور الزمن وجدتها تعبر عن كل عصر وكل لحظة نعيشها.
كذلك موال عدي النهار كان له تأثيره علي النفوس فأيقظ الأمل في مصر والأمة العربية في زمن لم تكن تري فيه إلا السواد بعد نكسة يونية 1967.
* هل انتهي الدور النضالي للأغنية الوطنية؟
** في ستينيات القرن الماضي كانت هناك ضرورة للتعامل مع الأغنية الوطنية النضالية بصفتها أحد أهم أسلحة التنوير والإعلام بهموم الأمة.. ولذلك تعتبر هذه الفترة هي الفترة الذهبية للأغنية الوطنية التي انتعشت في ظل العظماء أمثال عبدالحليم حافظ ونجاح سلام وسعاد محمد, فكانت الأمة العربية كلها متحفزة للنضال وكان الهم الأكبر لكل الفنانين العرب اليقظة العربية وقضايا الوطن العربي فكنا كيانا واحدا وهما واحدا وقضية واحدة, أما الآن فالقضية العربية تفتتت وأصبح كل يبكي علي ليلاه.
* أين دور المثقفين في الحفاظ علي التراث الثقافي والحضاري المصري والحفاظ علي تقاليد المجتمع؟
** النخبة هي الرمز, فإذا ضاع الرمز ضاع الأمل, للأسف مصر تنتحر والغزو العقلي لمصر يأتي بالتشكيك في الرموز فمثلا ساءتني بشدة الاتهامات التي وجهت إلي طه حسين بسبب اشتراكه في إصدار مجلة الفكر الجديد واتهامه بأنه كان عميلا للصهاينة لأن شركاءه في الشركة التي كانت تصدر المجلة يهود, ورفاعة الطهطاوي وأحمد لطفي السيد وغيرهم اتهموا في وطنيتهم, فنحن الآن أصبحنا نعيش فترة شديدة التعقيد ومليئة بالتيارات الفكرية والسياسية وتيارات متناقضة جدا, فقوة المثقفين مشتتة ما بين الاتجاه المتطرف والاتجاه الديني المعتدل واليسار الممزق والليبرالية.
* ماذا يعيب النخبة المصرية؟
** النخبة المثقفة لديها عيب أساسي وخطير, هو أنها لا تعرف الطريق للشعب أو للشارع, والشعب يعاني من البطالة ومن الجوع وشبابه يمشي بلا مستقبل دون أمل في زواج أو تكوين أسرة أو بيت أو وظيفة, فالأمل يقتل في الشباب ونحن في موقف المتفرج.. أو نخاطب بعضنا البعض في المقالات الثورية النارية التي نكتبها والأشعار الرائعة, ولكننا كلنا بعيدون كل البعد عن الناس في الشارع, الناس الذين لا يملكون حتي ثمن رغيف العيش لا يملكون ثمن الجريدة التي نكتب فيها المقالات والأشعار!!
* لماذا لا يوجد لدينا جيل ثان من الشعراء مثل فؤاد حداد والأبنودي وصلاح جاهين وسيد حجاب؟
** لأننا كنا من نتاج الجيل الذي تشكلت فيه تجربة مصر القادمة من أربعينيات القرن الماضي بمظاهراتها وسجنها ومحاولاتها لمقاومة الاحتلال والبحث عن الحرية والنضال للتحرر الوطني, فهي التي أخرجت فؤاد حداد وغيره من المبدعين, لذلك أتي هذا الجيل في الستينيات وكأنه علي موعد مع القدر ليحمل عبء الثقافة والفن علي أكتافه حتي الآن.
* ما رأيك في الأصوات التي طالبت خلال الشهور الماضية بمصادرة ألف ليلة وليلة؟
** نحن الآن نعاني من ردة ثقافية, أنا قرأت النسخة الأصلية من ألف ليلة وليلة مع أمل دنقل من سنوات طويلة وكان عمرنا آنذاك 12 عاما فهل فسدت أخلاقنا هل أثرت فينا تأثيرا سيئا أم أنها وهبتنا الخيال الذي جعل منا شعراء؟!
لكن دعاة الظلام والتكفير يسعون إلي جر المجتمع دائما للبدائية والبداوة القديمة, فهم متربصون دائما بالفكر وحرية الرأي والإبداع, فنري مجموعة القضايا التي دفعت للمحاكم من غير ذي مصلحة والتي مثلت بالفعل هجمة علي الكثير من المثقفين والمبدعين لإرهابهم وابتزازهم.
* ما أكثر القضايا التي تشغلك الآن وتثير همك؟
** قضايا كثيرة أهمها تردي الخلق العام وهو ناتج للظروف المعاكسة والزحام في كل مكان في مصر حتي أصبح ذلك طابعا عاما, علاوة علي انتشار القمامة والعوز والفقر والجهل الثقافي الإعلامي, وهذا الذبول والاضمحلال العقلي الذي يفسره الإعلام الاستهلاكي.. الحقيقة أن الأوضاع عموما لا تحتمل.
* هناك أزمة في الانتماء المصري تعكس اللامبالاة وعدم المشاركة والهجرة المعنوية وهذا يعد ناقوس خطر يدق أبواب المجتمع, فكيف نتصدي لهذه المشكلة؟
** أخطر هذه الظواهر عدم مشاركة الشباب في جميع نواحي الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية, وهناك قصور من جانب الدولة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني لاستقطاب الشباب للمشاركة الإيجابية الفعالة سعيا نحو ترسيخ مفاهيم المواطنة والانتماء في أعلي درجاتها.
* ولكن لماذا هذا العزوف من الشباب عن المشاركة الإيجابية ولماذا الإحساس بعدم الانتماء يزداد بداخله؟
** لأن المواطن مستفز باستمرار سواء من الحكومة أو من وسائل الإعلام وما تعرضه من إعلانات, فالمواطن الفقير البسيط كيف بعد أن يري هذه الإعلانات الاستفزازية نطالبه بعد ذلك بالانتماء وانتماء لإيه فالانتماء يكون للوطن والوطن هو كم الأشياء التي نمتلكها وننتمي إليها.. فهذا الفقير في هذا البلد ماذا يملك وإلي ماذا ينتمي؟ وذلك الشاب الذي تخرج ولا يجد عملا ولا وظيفة ولا أمل ولا أسرة وبعد ذلك أقول له انتمي لبلدك!
* وماذا عن الأعمال الفنية الدرامية والسينمائية التي تعرض حاليا.. وهل تساعد علي ترسيخ معاني الانتماء في نفوس الشباب أم العكس؟
** الأعمال الدرامية والتي كانت تمثل الأمل الوحيد للرقي بالذوق العام والنهوض بالأخلاق العامة أصبحت تخدم علي الإعلان بدلا من أن يخدم الإعلان عليها, فأصبح المشاهد لكي يري حلقة درامية لابد أن يجبر ويستفز من خلال مشاهدته لـ50 إعلانا متواصلا وملحا ومستفزا لقوته الشرائية كمستهلك دخله محدود, وهذه كلها أمور قد تقلل من شأن الزوج والأب داخل أسرته حين يواجه بكل هذا الكم الإعلاني ويقف عاجزا عن الشراء, فأصبحنا نري مسلسلا إعلانيا تتخلله فقرات درامية, وليس مسلسلا دراميا, تتخلله فقرات إعلانية!! وأصبحنا نعيش معاناة زمن الفن والسينما والمسرح الهابط والسلع الاستهلاكية والأغاني التافهة الأشبه بالسيجارة ولكن أغانينا مازالت علي قيد الحياة حتي الآن, وكم كنت أتمني أن يكون عبدالحليم عايش حتي يري هذا الزمان الذي انقلبت موازينه.
* شايف مصر رايحة لفين؟
** قالها هيكل من قبل: مصر رايحة في داهية, وسنقولها بعده, فمصر في حالة خراب بسبب الحكومة.. فنحن كنا في مرحلة كان يعز علينا أن يقال عنا إننا بلاد العالم الثالث وكنا علي وشك أن نأخذ دورنا للأمام مثل ماليزيا والصين واليابان ولكن الآن أصبح المصري مكروها في كل مكان وذلك لأننا هنا علي أنفسنا فهنا علي الآخرين وسمحنا بالإهانة في الداخل فهنا علي أهل الخارج, وأصبح المبدأ لما انت تحترم في بلدك أبقي أنا أحترمك في بلدي.
* هل تعتقد أن تصدي الصحافة لمشاكلنا في الداخل ونشرها, هذا أنقص من مكانتنا في الخارج؟
** لا أعتقد ذلك ولا يجب أن يأخذنا التفكير في هذا الاتجاه فنحن نتميز عن العالم العربي كله بأننا نملك أن نعبر عن بلاوينا, فنحن ننشر مشاكلنا ونوصل أصواتنا للمسئولين ولا يحدث تغير, فما بالك إذا لم ننشر ونعبر عن هذا الفساد فماذا يحدث, يضحك الأبنودي ويجيب ساخرا: هيعبونا في علب ويصدرونا للخارج بشكاوينا ولا حد هايحس!!