تأليف: توفيق الحكيم
الناشر: مكتبة مصر
رافق الحمار أديبنا الكبير توفيق الحكيم في كل مغامراته تقريبا, كما ترافق الحيوانات في معظم الأحيان المتصوفين والرهبان, فنشأت بين راهب الفكر والحمار صداقة حميمة وألفة جعلته رفيق دربه علي صفحات كتبه يتحدث معه ويناقشه ويستلهم من صمته جميع كتاباته ومناقشاته السياسية والاجتماعية والثقافية النقدية, وقد يتساءل سائل: لماذا الحمار بالذات الذي رافق أديبنا الكبير توفيق الحكيم؟ وهنا يجيب الحكيم بنفسه قائلا: الحمار له في حياتي شأن.. إنه عندي كائن مقدس كما الجعران عند المصريين القدماء.. لقد سميت الحمار الفيلسوف.. إنه علمني أشياء كثيرة بمجرد صمته وارتفاعه عن لجج البحر الخضم.. بحر السخف الإنساني!. ولشدة تعلقه بالحمار كتب سلسلة من المقالات في واقع المجتمع المصري عام 1945 في كتابه حماري قال لي. ولعل ما يثير الدهشة إننا نشعر وكأن الحكيم يكتب عن واقعنا الآن, خاصة حين يتحدث عن الفساد, وعلو شأن المادة علي القيم والمبادئ. وتفشي النفاق في المجتمع. كما كتب حمار الحكيم عام 1940م وهي قصة تتميز ببساطة أسلوبها وتصويرها لأحداث واقعية بطريقة لا تخلو من الطرافة والمتعة, كما أنها قصة فكرية رمزية تدور بين الحكيم وحماره ويتحدث فيها بشكل رئيسي عن الدور الفعال الذي تقوم به المرأة في المجتمع, وواقع المرأة المصرية, والتباين بينها وبين المرأة في أوربا.
ونبدأ بتقديم بطاقة تعارف للحمار الذي تعرف عليه الحيكم في بداية روايته حمار الحكيم وشعر تجاهه للوهلة الأولي بأنهما سيكونان أصدقاء فنراه يتفنن في وصفه ويتعمق في وصف مشيته المطرقة سابغا عليها أبعادا فلسفية ومعاني نفسية أوحي له بها هدوء الجحش وجمال مظهره فنري الحكيم يقول: لقد كان صغير الحجم كأنه دمية.. أبيض كأنه قدم من رخام.. بديع التكوين كأنه من صنع فنان.. وكان يمشي مطرقا في إذعان كإنما يقول لصاحبه اذهب بي حيث شئت فكل ما في الأرض لا يستحق من راسي عناء الالتفاف.
وفي غفلة من الحكيم اختلط الهزل بالجد ووجد نفسه متورطا في شراء ذلك الجحش من صاحبه الفلاح, وأثناء حيرته في المكان الذي يستطيع وضعه فيه طرأت علي ذهنه فكرة لمعت كبريق الذهب وسط ذرات الثري وهي: أن يأخذه معه إلي غرفته في الفندق ريثما يحين وقت سفره إلي الريف في عصر ذلك اليوم, لذلك أمر الحكيم بائع الصحف الذي تطوع لإتمام الصفقة أن يسرع بالجحش أمامه علي أن يتبعه عن كثب فنراه يقول متأملا: فجذبه من رباطه الأحمر فمشي المسكين مشيته الرزينة في إطراقه وإذعانه.. دون أن يعني بتبدل الصاحب وتغير المصير.. وجعلت أتأمله من بعيد في مشيته.. إنها تشبه مشيتي أحيانا.. إذ يخيل لي في لحظات كأن راسي قد ارتفع عن لجة الوجود المنظور إلي قصة الوجود غير المنظور فأمر بالحياة مذعنا.. لا أحفل بمن معي ولا بمعرفة وجهتي.. نعم إن مشيتي كمشيته أحيانا ونظراتي أحيانا كنظراته الجامدة المشرفة علي عالم ساكن صاف مجهول, قد أغلقت دون الآدميين أبوابه السبعة المختومة بسبعة أختام.. اللهم اغفر لي هذا الغرور إذ أرفع نفسي إلي مقام التشبه بهذا الكائن العجيب!.
الحمار والمرآة
ظل الحكيم في تأملاته إلي أن بلغ الفندق وطلب من أحد الخدم أن يحمل الجحش بين ذراعيه ويصعد به سلم الخدم ويضعه خفية في حمام الغرفة التي يقيم فيها وقام الحكيم بدفع قطعة فضية للخادم لكي ينفذ ما طلب منه ثم توجه إلي غرفته وحاول إطعام الجحش لبنا في فنجان لكنه أبي, فذهب لشراء بزازه وعندما عاد الحكيم وصعد إلي غرفته وجد بابها مفتوحا وتذكر أنه تركه سهوا عند ذهابه وعندما اتجه إلي الحمام لم يجد الحمار لكنه سمع ضحكات رقيقة تنبعث من إحدي الحجرات فمشي نحو الصوت فوجد الحمار واقفا أمام مرآة طويلة لخزانة ملابس يتأمل نفسه إلي جانب فتاة شقراء تضحك وأخبرته كيف أن الحمار كان يتجول في الطابق ويدخل كل حجرة يجد بابها مفتوحا ويتوجه توا إلي كل مرآه يصادفها ويطيل النظر إلي نفسه إلي أن دخل حجرتها بدون استئذان وتأمل صورته في مرآتها دون أن يعيرها اهتماما, فضحك الحكيم واصفا الحمار بقوله: يا له من أحمق! شأن أكثر الفلاسفة يبحثون عن أنفسهم في كل مرآة ولا يعيرون الجميلات التفاتا!.
فأس من ذهب
أخذ الحكيم يفكر في المهمة التي تقتضي ذهابه إلي الريف, حيث تذكر مندوب الشركة السينمائية الفرنسية الذي استقبله منذ أسبوع وأوضح له رغبة شركته في تصوير فيلم تدور وقائعه في الريف المصري, وطلب منه كتابة الحوار لسيناريو يقوم به الفلاحون أنفسهم دون الالتجاء إلي ممثلين محترفين, وذلك إمعانا في المصداقية, وقابل الحكيم هذا الأمر بفتور بسبب قيظ شهر يونية وعمله المضني طوال العام الماضي الذي جعله منهك الأعصاب لا يصلح لشئ إلا للاسترخاء, ولكن عندما رأي الحكيم العقد والمبلغ الموضوع فيه قام بالتوقيع عليه دون أن يفكر في قدرته علي إتمام العمل المطلوب منه في الوقت المحدد, وعلي الرغم من أنه لم يكن في حاجة إلي المال إلا أنه يحدثنا عن سلطانه قائلا: عندئذ شعرت بسلطان المال.. وأدركت أن المال قديرا أحيانا علي تقرير مصير الأشياء.. حتي في مسائل الأدب والفكر والفن.. نعم ولم لا؟.. إن لم يكن الفنان محتاجا للمال ليعيش فهو محتاج إليه أحيانا لينتج.. فالفنان أحيانا كالغانية يجب أن يؤخذ بوسائل الإغراء!.. إن المرأة إذا لم تحب من قبلها فلابد من إغرائها ببريق الذهب.. والفنان إذا لم يتفجر ينبوع نفسه لغير شئ فلابد من طرقه بفأس من ذهب؟.
وطلب المخرج من الحكيم أن يأتي معه إلي القرية في البدرشين تم اختيارها كمكان للتصوير إلا أن الحكيم رفض لارتباطه بعمله في القاهرة فأخبره المخرج بتخصيص سيارة له تأتي وتذهب به إلي القاهرة كل يوم, ولكن رفض الحكيم بشدة كان وراءه ذكريات مزعجة عن أعوام لا تنسي من حياته قضاها في الريف, حيث مظاهر القبح والقذارة, وذلك علي الرغم من أنه يحب روح الريف البريئة ونفس الفلاح الكريمة, ولكن ناشده المخرج باسم الفن والصداقة التي بدأ يحس بأوصالها تدب في قلبه, فوافق الحكيم أخيرا علي قضاء ليلة الجمعة وصباحها من كل أسبوع في ذلك الريف, وكانت أول ليلة في ذلك اليوم الذي قابل فيه الحيكم هذا الحمار الذي فكر في اصطحابه معه, وعندما أتي المخرج لاصطحاب الحكيم إستأذنه أن يأخذه معه فوافق علي الفور وسأله عن اسمه فقال له إني أحب أن أدعوه الفيلسوف, وبدأت الرحلة إلي البدرشين وعند الوصول ندم الحكيم علي الذهاب فنراه يقول: إنه الريف القذر الذي أعرفه دائما.. ولا فائدة ترجي منه.. وندمت علي المجئ وغمرتني الكآبة.. والتفت إلي زملائي فوجدت البشر والسرور والإعجاب يطفح من وجوههم ثم رأي الحكيم صبيا شاحبا هزيلا فتذكر ما قاله أحد الأطباء الباحثين: ما من صبي في ريف مصر وإلا تنهش جسمه الإنكلستوما والبلهارسيا.. وهذه العلل بالذات لها فعل يصييب العقل أيضا.. فيهبط مستوي الإدراك.. وتنطفئ شعلة الذكاء.
الحمام ملهم للحوار
وخطرت للمخرج فكرة وهي أن يستغل الفيلسوف في الدعاية والإعلان فقال الحكيم: آه.. هذا هو حقا الذي كان ينقص فيلسوفنا أن يستغله كما يصنع عادة بالفلاسفة.. ولكني لست أري مبادئه وآراءه التي يجوز أن تكون محل استغلال, إنه فيما أعلم فيلسوف صامت.. قد حبس في صدره إلي الأبد كل ما عنده من كلام.
ولكن أشار المخرج إلي أنه سيتم استغلال صورته مع الحمار للدعاية للفيلم معلنين أن هذا الحمار هو الملهم الفعلي لمؤلف الحوار, فرد الحكيم ساخرا: حقا ما أجملها دعاية لمؤلف الحوار.. أن يذاع أن وحيه لا يهبط عليه إلا من حمار. ولكن أشارت زوجة المصور أن هذا يفهم منه أنك تحب الحيوان فأومأ الحكيم مؤكدا علي حبه للحيوانات وبأسف لأن طبيعة حياته المتنقلة لا تجعله يقتنيها أو يعتني بها معربا عن أن في الحيوانات شيئا إنسانيا بالمعني السامي لهذه الكلمة فيعلي من قيمة الحيوان قائلا: إن فيها أحيانا من الإنسانية أكثر من الإنسان نفسه.. إن فكرة الشر غير موجودة عند الحيوان.. إن أغلب الحيوانات محبة للسلام والإخاء والصفاء.. والقليل الذي يطلق عليه اسم الضواري لم يعرف العدوان لمجرد الزهو بالعدوان.. الإنسان وحده من بين مخلوقات الأرض هو الذي يري الإعتداء علي أخيه الإنسان ما يسميه بالمجد والفخار.
واستطردت زوجة المصور قائلة: إن وحشية الإنسان قد بلغت حدا لم يبق معه إلا أن نرد اعتبارنا إلي الحيوان.. وأن نعدل نظرتنا إليه.. وأن نتخذه هو المثل الأعلي لما ينبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان.. إذا أراد إقرار الخير والسلام في الأرض ولعل ذلك الرقي لتلك المرأة جعلها تتمني أن تعيش في ذلك الريف لتحسين أوضاع الفلاحين وتعينهم علي تجميل حياتهم وتوسيع مداركهم ليتذوقوا ما وهبتهم إياه الطبيعة من جمال ولترفع من شأن الفلاح المسكين الذي لا تربطه بها شئ غير الإنسانية, وهذا استرعي انتباه الحكيم قائلا: ينبغي أن تكون هناك طبقة تتقدم طبقة في الثراء أو في المعرفة.. غير أن الذي شوهد في أوربا ومازال يشاهد فيها..هو أن كل طبقة أعلي السلم تمد يدها إلي كل طبقة أسفله.. هنالك تماسك بين الدرجات.. هناك نموذج يعطي ومثل يتبع من الطبقة العليا إلي الطبقة السفلي.
ربيبة الجواري
استمرت المناقشات بين المخرج والحكيم طوال الليل وتطرقا إلي مسألة الحب التي رفضها الحكيم معربا عن وجهة نظره قائلا: إن الحب الرفيع لا يظهر مطلقا في جو العبودية.. ولا ينبت إلا في أرض الحرية الروحية.. والمرأة المصرية ربيبة الجواري.. لم تكن تفهم من الحب إلا ما تفهمه الجارية المملوكة.. إن الحب الرفيع زهرة ينبغي أن تتساقط بذورها من السماء.. وليس في جو الحريم المغلق سماء.
وأشار المخرج إلي مسألة جواز الحكيم فرفضها بشدة قائلا: إني لست جوادا من هذه الجياد.. إنما أنا حمار وحشي من تلك الحمير الوحشية.. ما أجمل منظرها حقا لو شدت إلي عربات المدن.. ولكنها لا تطيق أن يمس رؤسها لجام.. إنها خلقت لتمرح في الغابات وتعيش في حرية الطبيعة المتوحشة.
مفضلا وحدته عن المغامرة بحريته فنراه يستطرد قائلا: ورجعت إلي وحدتي تلك الوحدة الباردة التي تحيط بي من كل جانب.. فما أنا في الحقيقة سوي كوخ مقفر وسط صحراء من الجليد.. وضعت داخله يد المصادفة, إناء يغلي ويتصاعد منه بخار هو تلك الأفكار, التي تخرج من نافذتي إلي حيث تصل دائما إلي جموع الناس.. فإذا دخلت امرأة هذا الكوخ فمن يضمن لي ما سوف تلقيه في هذا الإناء وما يتصاعد من جوفه بعد ذلك.
نهاية محزنة للفيلسوف
وبعد انقضاء تلك الليلة في المناقشات تذكر الحكيم صديقه الحمار فأوفد من يطلبه من دار العمدة فجاءوا به وهم يؤكدون له أنه سيموت لأنه أبي يدنو من ثدي أي أتانه مفضلا هذا الصوم الصوفي, فطلب المخرج أن يصوره معه قبل أن توافيه المنية وتعجب الحكيم من أن منظر الكاميرا لن تثر اهتمام الحمار قائلا: إن منظر الكاميرا لم يثر استطلاعه ولا اهتمامه كما فعلت المرآة.. فالمرآة تجعله يعرف نفسه بنفسه.. وهو كل ما يسعي إليه.. وهو غرض الفلاسفة في كل زمان ومكان.. أما الكاميرا فهي الصورة التي يأخذها الناس عنه.. ماذا يهم الفيلسوف الحق أن يعرف رأي الناس فيه!.. وهنا سلم الحكيم الحمار إلي أهل القرية ليلقي مصيره.
ورجع الحكيم إلي القاهرة وبعد فترة دعاه المخرج إلي سهرة في خيمة بجوار الأهرام تقيمها الشركة المنتجة فحاول الاعتذار ولكن المخرج أصر فاستجاب الحكيم لطلبه وهناك عند الهرم جلس وحيدا متأملا الصحراء الممتدة يلاعب رمالها المتوجة ضوء القمر فخيل إليه إنه أمام بحر من الأمواج وفي أثناء غفوته سمع صوت امرأة تصفه بحب الوحدة فرد عليها مسترسلا قائلا عن نفسه: إني بناء قائم علي ماء جار.. وصرح مشيد فوق رمل.. لا شئ عندي قابل للبقاء أو صالح للاستمرار.. إني لا أقدس شيئا ولا أحترم أحدا ولا أنظر بعين الجد إلا إلي أمر واحد هو الفكر.. هذا النور اللامع في قمة هرم ذي أركان أربعة هم الجمال والحق والخير والحرية.. هذا الهرم هو وحده الشئ الثابت في وجودي.. إني كما ترين لست رجل مجتمع.. فأنا لست بارع الحديث ولا حاضر الذهن..!!.
جاهل بسيط.. وجاهل مركب
وقرر الحكيم السفر إلي أوربا وكتابة الحوار هناك هروبا من حر الصيف الذي لا يطاق وعند سفره نسي كل شئ وظل يستمتع بالطبيعة إلي أن عاد في شهر سبتمبر إلي مصر فوجد خطابين من المحامي بشأن تنفيذ العقد المبرم بينه وبين الشركة الفرنسية, فقام محاولا أن يضع حوارا للسيناريو لكنه لم يستطع قائلا: أشخاص القصة بعيدون عن مشاعري كل البعد.. فأنا لا أراهم ولا أعرفهم.. إنهم غرباء عني.. كيف يطلب مني أن أضع في أفواههم كلاما.
وقابل المخرج الحكيم وطلب إليه تأجيل العمل بعد الحرب فدعاه للعشاء وأخبره بأن حماره الفيلسوف مات يوم إبحاره فحزن الحكيم قائلا: إن هذا الشئ الصغير الذي سميناه جحشا هو في نظر الحقيقة العليا مخلوق يثير الاحترام.. في حين أن كثيرا ممن سميناهم زعماء وعظماء فركبوه.. هم في نظر الحقيقة العليا مخلوقات تثير السخرية.. نعم كنت أشعر دائما شعورا عاضبا. إن حبي لهذا الجحش هو حب مقترن بشئ آخر غير العطف والإشفاق.. إنه التقدير والتجميل.. أحمد الله أنه مات قبل أن يكبر فيركب.. إني كنت أخجل من ذلك ولا ريب.. لأني كنت أسمع في كل خطوة من خطواته المتزنة همسات تتصاعد من أعماق نفسه التي في عمق المحيط.. أيها الزمان!.. أيها الزمان!.. متي تنصف أيها الزمان فأركب.. فأنا جاهل بسيط أما صاحبي فجاهل مركب!.