أوتوبيس قديم .. متعطل وقت الظهيرة علي طريق دولي سريع .. مغلق الأبواب .. نوافذه مغطاة بستائر سميكة سوداء تحجب الرؤية عمن بداخله من ركاب .. فيظنونه – وهما – يسير ….!
وراء ظلمة الستائر.. في داخل الأتوبيس .. حشد هائل من البشر المحشورين , أنهكهم الحر وتضاغط الزحام والضوضاء و قلة الأكسجين …
هذه هي مصر الآن!
الملايين من البشر المحشورين في شريط ضيق من الأرض لم يتسع – إلا قليلا – عما كان عليه منذ حكم الدولة الرومانية حينما كان عدد سكان مصر ستة ملايين!
يضاف إلي ذلك تغير جوهري حدث في وعي وثقافة المصريين .. سمحت به الدولة و أرادته – بكل ما تعنيه كلمة إرادة – منذ الخمسينيات .. في لحظة سياسية قصيرة النظر أعطت الأولوية لتثبيت قواعد نظام سياسي جديد عن طريق تصفية كل أوجه المعارضة والاختلاف الفكري والاجتماعي علي حساب قيمة مصرية عريقة .. هي التسامح مع الاختلاف وقبول التنوع والتعددية .
دعمت الدولة سياسات تلخيص المجتمع وتعليبه في شعار و فكرة و تيار وتوجه سياسي ولغة ودين ومذهب واحد.
فحدث – نتيجة التفاعلات الداخلية والخارجية .. السياسية والعسكرية والاقتصادية طوال النصف القرن الذي مضي – أن صمد الدين بأحد أكثر وجوهه تشوها وأكثرها بدائية وعدوانية وطقوسية من بين كل قوالب الاستنساخ التي انهارت , فأصبح أحد أهم مصوغات الاندماج الوطني وأهم مؤهلات المشاركة في سياسات توزيع الأرض والثروة وفي اتخاذ القرار.
إضافة إلي مشهد إعلامي إقليمي رئيسي اختارته حصرا نوافذ إعلام الدولة .. يصب و يرسخ في وعي المصريين صورة المغالبة الدامية بين الأديان والمذاهب والرؤي الدينية السياسية في مناطق الصراع الطائفي الانتهازي علي السلطة في أفغانستان ويوغوسلافيا والعراق وفلسطين ولبنان والصومال , متجاهلا تقديم الصور الإيجابية من التعايش والتسامح والتفاعل والتعاون الناشئة عن السيولة البشرية الحادثة في مناطق العالم الأخري التي تعيش فعليا في الزمن الحالي .. الحاضر .. في عصر وزمن ثورة الاتصالات والمعلومات!
في هذه الأجواء المغلقة الضاغطة العدائية تصبح طاقات الاحتكاكات المحلية الناشئة عن الصراع علي إيجاد مساحات ضئيلة للتنفس الديني وسط هذا التزاحم الضاغط أكبر من كل سلطة محلية ومن كل ما تبقي من القواعد الأخلاقية والتقاليد العرفية القديمة التي تأسس عليها وتحقق – بنجاح نسبي – السلام الاجتماعي لفترة كانت فيها الطاقات والقدرات السيادية للدولة وهيبة القانون أقوي وأكثر قدرة علي توفير الغطاء والدعم لسياسات السلام المحلي بل وفرضها في بعض الأحيان.
سياسات الدولة منذ الخمسينيات لم تنجح لا في تنمية البيئة المحلية ولا في تنمية القيم الإنسانية وثقافة الحداثة في وعي المصريين , وفشلت فيما عدا خلق طاقات هائلة من العدوانية الداخلية بين أفراد المجتمع , فأصبحت أخيرا مضطرة – من أجل الإبقاء علي هذه الطاقات خامدة في حدها الأدني _ إلي أن تساير هذه العدوانية .
تعرقل إصدار قانون موحد عادل لإنشاء دور العبادة , لأنه سيكون عليها مواجهة طاقات العداء التي قد تنشأ عن محاولة فرضه في أرض الواقع حال تنفيذه , وترفض الاعتراف بالبهائيين , وترفض الاعتراف بحق المسيحيين العائدين , وتعطل ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الدستور في كل ما يخص حرية العقيدة , بل وتمارس التخويف والقمع علي من يختار عدم قراءة الفاتحة في الركعة الثالثة من صلاته , وتحجم عن مواجهة أنصار الطائفية والمروجي لها , لأنها تريد الإبقاء علي طاقات العدوان الهائلة خامدة في حدها الأدني , وتخشي الذين يشتهون ويسعون – منذ زمن – إلي لحظة الانفجار!
يمكن للدولة أن تمهد لمواجهة المشكلة – قبل الاعتراف الرسمي والبدء في العلاج – بالتوقف عن الإنكار الهستيري وتكرار رفض تقارير الحريات الدينية التي تدين مصر مع قلة غيرها من دول العالم المتخلف بانتهاك الحقوق الدينية , والسماح بالمناقشات العلنية الحرة الصريحة للمشكلة داخليا , وفتح أبواب الإعلام القومي لعرض تجارب الدول الأخري التي تجاوزتنا بسنوات طويلة وتفوقت في دمج الحريات الدينية في برامج السلام الاجتماعي كدولة الإمارات العربية المتحدة التي أشاد بها تقرير الحريات الدينية الصادر من وزارة الخارجية الأمريكية لعام 2007 والذي اعترف بها كواحدة من الدول التي تحترم الحريات الدينية وتساهم بسياساتها الحكومية العادلة في تحقيق الممارسة الحرة للدين عموما التي عجزت كل التقارير الدولية في عام 2007 عن اكتشاف حالة واحدة من حالات الإساءة أو التمييز تحدث علي أرضها بسبب الاعتقادات أو الممارسات الدينية , بل وذكر التقرير حقيقة أنها أصبحت واحدة من الدول التي تتبني بانفتاح وجرأة مناقشة قضايا الحريات الدينية مع غيرها من الحكومات الأخري كجزء من سياسات تعزيز حقوق الإنسان , رغم حداثة هذه الدولة التي تأسست في 2 ديسمبر من عام 1971!
بفضل السياسات الراشدة لهذه الدولة الحديثة استطاعت إمارة كدبي أن تصبح جنة عالمية للتسامح الديني تحترم فيها كل الأديان والعقائد والمذاهب والأفكار والمعتقدات وتجمع علي أرضها إلي جانب مساجد السنة مساجد الشيعة التي تعمل باستقلال وحرية كاملة وتتلقي دعما من حكومة الإمارة , والكنائس المسيحية التي تتلقي نفس الدعم والرعاية بمختلف طوائفها الأرثوذكسية والإنجيلية والكاثوليكية وغيرها , بالإضافة إلي معبد رئيسي ومحرقة تحت الإشراف الصحي للهندوس ومعبد لطائفة السيخ إلي جانب العشرات من المعابد الهندوسية الخاصة التي يبنيها العمال الهنود بين مساكنهم , والمعابد البوذية , ودور العبادة الخاصة بالدروز والبهرة ومقابر البهائيين , إلي جانب التسامح والاحترام الكامل لطقوس العبادات الشخصية الخاصة ابتداء من عبادة الفئران إلي عبادة الشمس في الشوارع بشرط عدم إعاقة المرور … وهو ما مكن دبي من الحصول علي الإعجاب … حتي من السويسريين!