الهند أمة تزخر بتنوع ديني وثقافي ولغوي غير عادي, غير أنها للأسف تعاني من عدم التسامح منذ زمن بعيد. فالمهاتما غاندي لقي مصرعه بيدي هندوسي متعصب عام 1948, ومنذ ذلك الحين ظلت الاضطرابات الدينية تلقي بظلالها القاتمة علي التزام الهند بالعلمانية والتعددية الدينية. ولسوء الحظ أنه في الوقت الذي وجدت الهند نفسها ضحية لأعمال إرهابية ذات صبغة دينية تأتيها من الخارج, وبصفة خاصة من جارتها باكستان التي تواجه متاعب هائلة, أصبحت هي نفسها تواجه فيضانا متزايدا من العنف الديني وعدم التسامح الديني من الداخل, وفي الماضي كان الترويج للتنافر الطائفي والعنف يقتصر فقط علي الأحزاب القومية اليمينية المتشددة, غير أن الأحزاب السياسية بمختلف ألوان الطيف السياسي أظهرت رغبة مزعجة في إثارة التعصب الديني والثقافي والتشجيع عليه.
ومما يبعث علي السخرية, أن الهجمات الإرهابية الوحشية في مومباي في أواخر نوفمبر الماضي ساهمت فيما يبدو في تقويض المواقف السياسية المثيرة للشقاق التي تتبناها أسوأ الأحزاب السياسية القومية في البلاد, فحزب مهاراشترا نيرمان سينا, وهو حزب محلي في مومباي حرض زبانيته العام الماضي علي الاعتداء علي أكثر الفئات المستضعفة من الطبقة العاملة الفقيرة في المدينة, بدا لبعض الوقت وكأنه قد خرج من الساحة السياسية.
والآن يبدو أن الإحساس بالوحدة الذي اكتشفه سكان هذه المدينة في أعقاب الهجمات الوحشية لم يكن أكثر من إحساس مؤقت, فالعنف الديني وضيق الأفق الثقافي في تزايد مستمر, ويبدو أن الكثير من هذه المشاكل تتفاقم نتيجة للانكماش الاقتصادي العالمي الذي تسبب في ظهور أسوأ أنواع الممارسات السياسية, ففي مثل هذا المناخ الاقتصادي المضطرب, قد لا يستطيع الراغبون في صرف الأنظار عن المشاكل الكبيرة المتعلقة بالبطالة والتباين المتزايد في الأوضاع الاقتصادية مقاومة الرغبة في جعل الأقليات العرقية والدينية أكباش فداء لتلك المشاكل, وقد يزداد الوضع تفاقما مع اقتراب موعد الانتخابات العامة في مايو المقبل, ولتعزيز قواعدها السياسية, قد تبدأ الأحزاب السياسية, بغض النظر عن توجهاتها العقائدية, في التقرب إلي المتعصبين الدينيين والثقافيين, وتؤكد التطورات العديدة التي طرأت في الآونة الأخيرة الخطر الذي يشكله هذا السلوك علي المجتمع الهندي ونظام حكمه التعددي.
في يناير الماضي تحرشت مجموعة من النشطاء الهندوس المنتمين لجماعة سري رام سينا (جيش اللورد رام) في مدينة مانجالور بعدد من الفتيات ومرافقيهن من الشباب في إحدي الحانات, ولم يكتف قادة هذه الجماعة بتحمل المسئولية عن ذلك التحرش, بل دافعوا عنه علنا بحجة أنهم يدافعون عن شرف المرأة الهندية, وهم يعتقدون أن تردد النساء علي الحانات يمثل انتهاكا للأعراف الهندية, ولم يفعل الساسة المحليون شيئا يذكر لمساعدة الفتيات اللواتي تعرضن للتحرش, وعلي المستوي القومي كانت وزيرة الدولة لشئون تنمية المرأة والطفل رينوكا شودري من التحالف الحاكم بقيادة حزب المؤتمر هي الشخص الوحيد الذي انتقد المتحرشين بصورة صريحة, وقالت إن المدينة أصبحت مدينة ##طالبانية##.
لم يكتف هؤلاء الأوغاد بالتحرش بالفتيات والشبان, بل هددوا بتعريض المحتفلين بعيد الحب من غير المتزوجين من الجنسين في مانجالور للإهانة علي رؤوس الأشهاد بحجة أن هذه العادة, التي يعتبرونها عادة دخيلة, تقوض الأعراف الهندية التقليدية, غير أن هؤلاء المصابين بكره الأجانب وجدوا أندادهم في هذه المرة, فقد أقامت مجموعة من النساء العاملات اتحادا أطلقن عليه اسم ##اتحاد مرتادات الحانات المتحررات الوقحات##, وتوجهن إلي مكاتب جماعة سري رام سينا وغمرنها بأعداد هائلة من الملابس الداخلية وردية اللون, وقد أخذت هذه المظاهرة السلمية وغير التقليدية كارهي الأجانب علي حين غرة, وجعلتهم يدركون أن أساليبهم الفجة الفاسدة جاءت بنتائج عكسية.
ومرة أخري أظهر المتعصبون الدينيون خلال الشهر الماضي سلطتهم في مدينة كالكتا عاصمة ولاية غرب البنغال. وقد حدث هذا بعد أن قامت صحيفة ستيتسمان الموقرة التي تصدر باللغة الإنجليزية بإعادة نشر مقالة بقلم جوهان هاري الكاتب في صحيفة إندبندانت البريطانية بعنوان ##لماذا يتعين علي احترام الديانات المستبدة؟## فبعد نشر المقالة حاولت مجموعة من المسلمين في المنطقة تخويف محرري الصحيفة بتنظيم عدة مظاهرات تنذر بالخطر قاموا خلالها بمحاصرة موظفي الصحيفة في مكاتبهم التي تقع قرب أحد المساجد الكبيرة, وفي محاولة لتهدئة مشاعر هؤلاء المنتقدين المتعنتين, لجأت حكومة الولاية التي يسيطر عليها الشيوعيون إلي تشريع في قانون العقوبات الهندي يحظر ##الإساءة الكيدية لديانات أية طبقة##, واعتقلت محرري الصحيفة. وتحت الإكراه, نشر المحررون اعتذارا وصفوا فيه نشر المقالة بأنه كان ##خطأ في التقدير من جانب أسرة التحرير##.
فهل أصبحت موجات عدم التسامح التي تجتاح الهند أمرا لا مفر منه؟ ليست هناك إجابة واضحة عن هذا السؤال. غير أنه ما لم تقم منظمات المجتمع المدني الكثيرة وعناصر من قياداتها السياسية بتشكيل معارضة قوية لهذه التطورات, فإن الهند ستجد نفسها أمام خطر متزايد, وربما تستفيد القيادة السياسية العلمانية في الهند من استراتيجية فتيات نيو دلهي ومانجالور اللواتي استطعن بتحركهن المبتكر, رغم شذوذه, توجيه ضربة جعلت أوغاد سري رام سينا يترنحون, وهؤلاء النسوة, ومعهن وزيرة حزب المؤتمر الشجاعة التي انتقدت بحدة تصرفات عصابات الشوارع في مانغالور, ربما أثبتن أنه ليس هناك مكان لعدم التسامح الثقافي والديني الحافل بالاستهتار في المجتمع الهندي ذي الصبغة التعددية..
* غانجولاي يرأس كرسي رابندرانات طاغور في الثقافات والحضارات الهندية في جامعة إنديانا بمدينة بلومنجتون, وهو عضو كبير مساعد في المجلس الباسيفيكي للسياسة الدولية في لوس أنجلوس.
لوس أنجلوس تايمز