أي حب هذا الذي نحيا باسمه ونقسو باسمه ونحنو باسمه تجاه أبنائنا ونحن في حقيقة الأمر لا نحب إلا أنفسنا من خلالهم إذ يمنحونا لقب بابا .. ماما.. المآسي كثيرة لكن واحدة هي موضوع اليوم .. واحدة لكنها موجعة لابن ما زال في ريعان الشباب .. مؤلمة قدر قسوة الليالي السوداء التي عاشها أبطالها بتفاصيل يصعب سردها في كلامات ومساحات لن تتسع لها .. وها هو صاحب المأساة يروي يقول في أسي: عمري 42 سنة أعمل عملا بسيطا في إحدي الهيئات الحكومية وأتقاضي راتبا شهريا 510 جنيهات .. زوجتي ربة منزل عمرها 40 سنة.. كنا نحيا في رضا تام لا يؤرقنا المستقبل فالرزق من عند الله .. الحياة تسير عادية .. متعبة لكنها آمنة .. مرهقة لكنها تمضي .. لنا ثلاث بنات أكبرهم 21 سنة ..إذ تزوجن صغيرين .. بناتي لسن متمردات لكنهن من بنات هذا الجيل الذي يختلف تماما عن جيلنا .. الجرأة والاندفاع من سماته .. لا أعرف كيف أو من أين أبدأ روايتي لكن لا مفر .. أعترف أنني لم أكن الأب الحنون الراعي لبنات في مثل هذا العمر .. فالحياة واللهث وراء لقمة العيش يطغي علي أي شيء آخر ..ذات يوم أجريت جراحة دقيقة واضطرت زوجتي لمصاحبتي في المستشفي طول فترة مرضي حتي تماثلت للشفاء .. في تلك الفترة كانت الفتيات يمكثن بمفردهن في المنزل .. لاحظت زوجتي تغير علي الكبري فلم تبد قلقا من ذلك وتابعتها .. ثم إكتشفت أنها علي علاقة بإبن الجيران شاب في مثل عمرها مسلم الديانة ونحن مسيحيون .. فالأمر معقد ولا طائل من ورائه..
حاولت زوجتي أن تنصح ابنتنا كثيرا مرة باللين ومرة بالقسوة .. وبعد فترة وجيزة تقدم لها عريس فوافقت وتمت خطبتها .. لكنها لم تستطع أن تكمل معه وتعللت أنها غير مرتاحة له ولسلوكه .. وافقنا علي فسخ الخطوبة حتي لا نجني فيما بعد عواقب وخيمة .. ومرت الأيام وأنا أظن أنها امتنعت عن علاقتها بالشاب المسلم .. عشت في هذا الوهم أياما وأياما ويبدو أن العلاقة كانت تزداد قوة في غفلة مني ومن والدتها .. ثم تقدم ابن خالها إلي خطبتها ..وافقت وارتبطت به ولم تبد أي نفور منه .. لكن والدتها لاحظت استمرار المكالمات التليفونية مع الجار .. فعنفتها وبدأت تشكوها إلي أحد الآباء الكهنة الذي وللأسف أشار علينا بإيداعها إحدي دور رعاية المرتدين عن الإيمان.
ووافقنا و ذهبت لتحيا هناك حيث لا نعلم شيئا عن المكان .. واثقين في مشورة القس الذي قدم النصح غير مبال أنها لم تكن مرتدة, ونحن أناس فقراء جهلاء ليس لدينا من الوعي ما يفرز لنا المشورة القبيحة من الطيبة .. وليس لدينا ما نستشعر به أن بعض رجال الدين يريدون إلقاء الأحمال من فوق أكتافهم بغض النظر عن النتائج والثمار السوداء التي قد تنبت في أرض المشورة المظلمة .. وعاشت ابنتي هناك بضعة أسابيع كانت تأتي خلالها إلي المنزل لتتقابل مع خطيبها أو لنراها حتي لا يشك الجيران في عدم وجودها معنا بشكل دائم .. وذات صباح تلقينا إتصالا هاتفيا من فتاة تقول لنا : بنتكم راحت هي وواحدة تانية النهارده يشهروا إسلامهم .. لم أعرف كيف انهالت دموعي .. لم أعرف كم من المرات ارتطمت رأسي بالجدار المقابل للتليفون وتمزق الأب بداخلي .. وتمزق الرجل الساكن في أعماقي .. وتمزقت ابنتاي من الفضيحة والعار الذي لحق بنا .. إنهارت أمها وظلت تصرخ : ليه يا بنتي كده ليه تحطي راسنا في الطين ليه ..النهارده بنتي ماتت .. بنتي ماتت .. بنتي ماتت.
صرنا نصرخ لكن مكتومي الآهات خشية أن يعلم المحيطون بنا .. هرعنا إلي أقرب قسم من منزلنا .. تقدمنا ببلاغ وللأسف هناك قالوا لنا لابد أن نبلغ في مكان إقامة الشاب ومسقط رأسه وهو البحيرة .. أعادونا إلي القسم الذي نتبعه وفي دورة طويلة عدنا إلي البحيرة وهناك تعرفنا علي رجل له نفوذ تعاون معنا وكشف علي شهادة ميلادها ثم قال : نفذ الأمر من بين أيدينا بنتك أسلمت .. واحسرتاه علي ابنتي .. عدنا نجر خيبة الأمل في أذيالنا .. لم يطرق تفكيري سوي سؤال واحد .. : إزاي هنت عليها تكسرني وسط الناس ؟ إزاي هان عليها دينها علشان شاب مثل أي شاب بكره ممكن يرميها ؟ إزاي هان عليها أهلها؟؟ ويا تري أنا غلطت لما قسيت عليها؟ وياتري وجودها في بيت مرتدين وهي مش منهم هو السبب ؟؟. أسئلة حائرة عصفت بذهني بعد أن عصفت ابنتي بمستقبلنا جميعا .
قررنا ترك سكننا بعدما ذاع الخبر وسط الجيران وانتقلنا للعيش في حجرة واحدة جميعا لأننا لم نعد نقوي علي رفع بصرنا تجاه أي من المحيطين بنا رغم أن معاملة كل والأقارب والجيران خاصة من المسلمين كانت في منتهي الرفق والرقة والحميمية .. لكن الكسر كان أكبر, ومرت الأيام ثم فوجئنا بتمرد الابنتين الأخرتين .. وكلما حدثت مشادة بيننا وبينهما يقومان بمعايرتنا بأختهم إنها لم تطق العيش معنا ورحلت بسبب قسوتنا وإهمالنا .. لكننا احتملنا رغم دموع أمهن التي لا تنقطع ورغم انحنائي أمام الجميع في موقف الذليل إلا أننا حاولنا ألا نكرر أخطاءنا معهما .. ومرت الأيام في دورة جديدة ليتقدم للفتاتين شابان .. وافقنا علي الفور .. وليس في أذهاننا سوي أن الذي يقبل فتاة قامت أختها بإشهار إسلامها فله تحية .. لكن يبدو أننا كنا مخطئين إذ أن هذين الشابين استغلا الموقف لنقوم بتجهيز الابنتين جهازا كاملا بدلا من أن تسير الأمور بشكل طبيعي .. رفضنا الإنصياع لتلك الانتهازية فانفسخت الخطبتان …
ودارت الحياة دورة ثالثة لتتكرر نفس التجربة وها هما مقدمتان علي الزواج يوم 4 سبتمبر القادم و حتي الآن لم أتمكن من توفير الأساسيات التي تسمح لهما بالدخول في حياة جديدة غير محملتين بآلام جديدة وانكسار جديد مضافا إلي انكسار ما فعلته أختاهما دون أن أستدين أو أخذلهما أمام رجليهما.
رد المحررة :
لا تحمل هم جهاز الابنتين فالله قادر أن يدبر ما عجزتم عن تدبيره .. ولكن دعنا نأخذ من روايتك عبرة .. فصدقا تحدثت .. نعم إنها الثمار السوداء .. ثمار القسوة والاندفاع وراء توفير الحاجات الأساسية للأبناء من مأكل ومشرب دون النظر إلي بنائهم الروحي أو ما يحتاجونه من حنان ورعاية .. إنها ثمار الانسياق غير الواعي وراء مشورة غير حكيمة وكأن رجال الدين منزلون من السماء لا يخطئون .. بينما هم بشر مثلنا قد يصيبون او لا يصيبون .. نعم إنها ثمار التعامل مع الموقف وليس مع كيان بشري حتي وإن كان هذا لكيان إبنة لم تتعد العشرين من عمرها.
لاحظت في تساؤلاتك لنفسك حينما علمت أن ابنتك أشهرت إسلامها أن جميعها تساؤلات ذاتية .. وها أنا أعيدها عليك مرة أخري لتقرأها بروية : إزاي هنت عليها تكسرني وسط الناس؟ إزاي هان عليها دينها علشان شاب زيه زي أي شاب بكرة ممكن يرميها؟ إزاي هان عليها أهلها؟؟ ويا تري أنا غلطت لما قسيت عليها ؟ وياتري وجودها في بيت مرتدين وهي مش منهم هو السبب ؟؟. أسئلة حائرة عصفت بذهني بعد أن عصفت ابنتي بمستقبلنا جميعا . كلها تساؤلات عن الذي أصابك وأصاب الأسرة من نكبة بسبب فعلتها .. وكنت أود أن أسمع تساؤلا عن كيف تحيا الآن؟؟ وهل هي نادمة أم سعيدة؟؟ وماذا سيفعل بها هذا الشاب الذي تركت دينها من أجله مع أول خلاف بينهما .. وكيف ستواجه أبديتها ؟؟ وهل ستموت وهي علي دين دخلت فيه من أجل شهوتها مع رجل بعينه أم ستعود إلي أحضان أسرتها وأحضان عقيدتها بعدما تفيق؟؟.
هناك فارق كبير أن نحب الخير لأبنائنا لأنهم ينتسبون إلينا فيشرفوننا أو يكسروننا أمام الآخرين وبين أن نحب لهم الخير لأنهم بشر من حقهم أن يحيوا في سعادة وأمان ونحوطهم بالرعاية والحب .. صدقني لو كانت ابنتك رأت دموعك تلك قبل أن تفعل ما فعلته لتغير الأمر كثرا .. لو شعرت لحظة بأنها محل اهتمامك لو احتضنتها دون حرج أو خجل وربت علي كتفها لما كان ما حدث قد حدث .. للأسف تبدو الأسر حازمة من الخارج متماسكة لكنها هيكل خاو ..وهي في واقع الأمر مفككة .. مضروبة بعصا والقسوة والإهمال .. كل في طريق والحجة أكل العيش .. كلنا نهمل أبناءنا بحجة لقمة العيش كلنا تنوء أكتافنا بحمل همومهم فنلقيهم إلي الكنيسة ربما تحمل معنا أو عنا لأننا لسنا متفرغين سوي لأكل العيش والنتيجة الثمار السوداء التي نجنيها عندما يهربون منا فتارة يهرب الأبناء خارج حظيرة المسيح وتارة أخري يهربون للإدمان ومنهم من يهرب للمرض النفسي أيضا والمحصلة ليست مختلفة جميعها تصب في إيذاء فلذات أكبادنا .. صرخة أطلقها لكل من تقع عيناه علي هذه السطور .. لا تلفظوا الخراف خارج الحظيرة لأنها لن تعود إن لم تجد دفئا وحنانا وحبا.