التناسق النفسي هو أساس الجمال…حقيقة قررها العلم والذوق الحساس عند تذوق الجمال الفني في النص الأدبي,وهو أنواع وأشكال تخضع لطبيعة الشكل الجميل,وفي الكتابة الشعرية يكون التناسق مثلا بين نوعية التجربة الشعورية ونوعية الإيقاع اللفظي الذي يلعب دورا مهما في الأداء الشعري….فالإيقاع اللفظي ليس حلية,وليس إضافة يستغني عنها فالكلمة لها وجهان وجه(المعني)ووجه الصوت الإيقاعي والشاعر الحق هو الذي يجعل صوت الألفاظ متناسقا ملائما لنوعية الإحساس الذي تدور حوله القصيدة وبذلك تتحقق وحدة مهمة يعتبرها النقاد من سمات التعبير الشعري الناجح.
وهناك وحدة أخري هي اتساق(المناخ)الذي يجب أن يرين علي القصيدة كلها,والذي يجب ألا يختل حتي في الجملة الشعرية مثل جملة التشبيه مثلا…يقول الأخطل الصغير:
وللجداول أنات مجرحة كأنها حمل في كف ناحره
من الممكن أن نتخيل للجداول أنات,فنحن نسبغ حالاتنا النفسية علي مظاهر الطبيعة من حولنا,وكل منا ينظر من خلال عينينه إلي(الغروب)فبعضنا يري-لأن نفسه غائمة-أن الغروب هو موت للنهار(كما قال مطران في قصيدته الشهيرةالمساء….)وهو عليل بضاحية(المكس) بالإسكندرية عام1902, بينما يري آخر أنه النهاية الطبيعية لتعب النهار,فالناس يعودون إلي بيوتهم مستبشرين وكذلك الطيور تعود إلي أعشاشها وفراخها وأن النجوم المتلألئة ستزين امتداد السماء,وهكذا نحن نتعامل مع الكون خارج ذواتنا من خلال حالاتنا النفسية الآنية التي نعيشها فرحا وحزنا,ضيقا وانطلاقا من هنا قد تكون نفس الأخطل الصغير ساعة سماعة خرير الجداول غائمة حزينة,متخيلة أنات يسمعها ولكن الذي لا يجوز هو أن يشبه أنات النهر المتخيلة بصوت الحمل وهو يصيح(ماء)في كف الذي سيذبحه!وشتان بين(الخرير)وبين (ماء)الحمل الصغير! وترجع سخافة التشبية هنا إلي عدم(التناسق),أو بعبارة أخري أكثر دلالة إلي اختلال(المناخ النفسي) ووحدته التي يجب أن ترين علي التعبير الشعري ولو في جملة تشبيه واحدة,وقد عابوا علي شوقي أبياته التي وصف فيها قصر(أنس الوجود)الفرعوني وهو قصر اندثر ولم تبق منه إلا بقايا أعمدة بارزة فوق سطح مياه النيل,وذلك لاختلال(المناخ النفسي) الذي يجب ألا يسود الأبيات…يقول شوقي:
قف بتلك القصور في اليم غرقي ممسكا بعضها في الذعر بعضا
كعذاري أخفين في الماء بضا سابحات به وأبدين بضا
فنحن نري أنفسنا أمام منظر يشيع فيه(الذعر)في البيت الأول,لأن بقايا القصر من الأعمدة الغائصة خوفا من الغرق تتماسك مذعورة,ولكن هذه الصورة القائمة علي التوتر والذعر(أشد من الخوف)لا تتجانس ولا تتناسق مع الصورة التي يقدمها البيت الثاني الذي يصور عذاري قد نزلن إلي الماء يسبحن فيه يخفين من أجسادهن بضا ويظهرن منها بضا,وهي صورة كما نري يحتدم فيها الجمال,والشباب والخفة والمرح,وهنا يقع التناقص أو اختلال المناخ النفسي بين صورتي التشبيه (المشبه والمشبه به).
إن تكامل العمل الشعري يعتمد اعتمادا كبيرا علي وجود التناسق بكل ما يحمل من المعاني,فهناك شروط يجب ألا يتخطاها الشاعر الناجح,ومنها التناسق الذي يلقي بروحه علي القصيدة وقد مرت بنا أبيات خلت من هذا التناسق فحملت عيبها ونقصها الواضح.