يعتقد المصريون الذين تأثروا بالتراث العبري , أن القومية المصرية تم دفنها في أحد الأهرامات منذ يوليو 1952, وبالتالي صدق المصريون الخطاب السياسي الأيديولوجي الذي روج لمقولة إننا نحن المصريين عرب , بهدف نزع وجداننا المصري. كذب هذا الظن مصريون (آخرون) مازالوا يؤمنون بمصريتهم , فنظموا فكرة الاحتفال كل عام بمناسبة بداية السنة المصرية التي تبدأ في شهر ( توت ) الذي يوافق عادة يوم 11 سبتمبر من كل عام . نفذوا هذه الفكرة في عام ماضي (2007) وفي العام الماضي (2008) كان الاحتفال يوم 1 توت من بداية السنة المصرية 6250 (4241 بداية التقويم المصري + 2008 سنوات التقويم العالي- الميلادي = 6249) وعلي هذا يكون العام 6250 بداية السنة المصرية الجديدة وجدير بالملاحظة أن الأول من توت هذا العام يوافق 11 سبتمبر.
وإذا كانت الثقافة السائدة تتهم دعاة القومية المصرية ب (الشوفينية) و(العنصرية)… إلخ, فهل قرأوا بعض كتب العالم الجليل أ. أحمد أمين الذي كتب (العرب أزالوا استقلال فارس. وحكموا مصروالشام والمغرب وأهلها ليسوا عربا) وعن وعيه بالخصوصية الثقافية ( = الثقافة القومية) لكل شعب كتب (واضح أن الأمم تختلف في ميزاتها اختلافا كالذي بين أفرادها. فهي تختلف في عاداتها وتجاربها وفي منهج تفكيرها وكفايتها ودرجة عقليتها ومقدارثقافتها وحدة عواطفها أو هدوئها) (ضحي الإسلام- ج 1 مكتبة الأسرة عام 97 ص 23 , 76) ؟
في هذا الاحتفال سيعرف المصريون أن جدودهم هم الذين وضعوا أسس أول تقويم علمي ( التقويم الشمسي ) الذي تتبعه كافة شعوب العالم المتحضر . وأن التقويم الميلادي العالمي مأخوذ من التقويم الجريجوري المأخوذ من التقويم الروماني المأخوذ من التقويم المصري (د. إسحق عبيد- حكمة المصريين- مركزالقاهرة لدراسات حقوق الإنسان- 2000 ص 35) .
والجدير بالملاحظة كذلك أن معظم شعوب العالم تمتلك تقويما خاصا بها. ولكن بالرغم من ذلك فإن التقويم الوحيد المعتمد والذي تتعامل به كل دول العالم وكل المنظمات والهيئات الدولية هو التقويم الميلادي المأخوذ عن التقويم الشمسي المصري. وإذا كان الفضل يعود إلي جدودنا المصريين القدماء , وإذا كان لنا نحن الأحفاد أن نفخربذلك ونعتز به , فإن الأهم هو أن نكون جديرين بهذا الانتساب إلي جدودنا. وأن تحقيق هذا لن يتم إلا بالتطلع إلي المستقبل الذي توضع بذرته في الحاضر, كما علمنا حكماء مصرالقديمة في أدبياتهم التي تركوها لنا لنتعلم منها. ودونوها علي الجداريات وفي الكتب مثل كتاب (الخروج إلي النهار) وعلي متون الأهرام وفي كتاب (الطريقين) إلخ ونظرا لأهمية هذه الكتب التي كتبوها علي ورق البردي , فقد جمعها علماء علم المصريات وعكفوا علي دراستها , لذلك فإن أغلبها محفوظ في معظم المتاحف الأوربية .
ومعني أن التقويم المصري تقويم شمسي , أنه مرتبط بالزراعة , حيث يتعذر تنظيم بدء البذر وجمع المحصول وفقا للتقويم القمري العبري _ بمراعاة أن العبرانيين والعرب يعتمدون علي الرعي وليس علي الزراعة . وهي حقيقة تتجاهلها الثقافة السائدة في مصر , والتي تصر علي أننا نحن المصريين عرب .
وقد نتج عن تجاهل خصوصيتنا الثقافية , أن معظم الكتاب ( المصريين ) يكتبون بجانب الشهر الميلادي الشهر السرياني , فيكتبون سبتمبر / أيلول إلخ . فإذا كان الكتاب العرب يفعلون هذا ( وهو حقهم . بل إنني أحترم وأقدر تمسكهم بتقويمهم ) فلماذا لايكتب المصريون شهورهم القومية ؟ فيكتبون توت بجانب سبتمبر(كمثال) فإذا كانوا لايعرفونها , أو يعرفونها ويستحون منها , فلماذا لايكتفون بالشهور الميلادية ؟ ويبدو غياب الحس القومي بالخصوصية الثقافية المصرية أن أغلب الصحف الخاصة تكتب في صفحتها الأولي التقويمين الميلادي والهجري وتتجاهل التقويم المصري. رغم أن أصحابها من المفترض أنهم (مصريون) .
لقد ذكر د. عبدالحميد يونس أستاذ الأدب الشعبي , أن والدته كانت تحفظ الشهور القبطيــــــة ( قبطي = مصري ) جيدا مع أنها كانت تعيش معه في القاهرة . وأن هذه الشهور دقيقة كل الدقة ومن هنا كان ارتباطها بالزراعة ( كتاب أبعاد الشخصية المصرية بين الماضي والحاضر _ هيئة الكتاب المصرية عام 1999 ص 116 ) .
وتتجاهل الثقافة السائدة أن الفلاحين المصريين ( الأميين ) يحفظون هذه الشهور , رغم أنهم لم يدخلوا المدارس . بل إنهم أبدعوا مثلا شعبيا لكل شهر . ولأن شهر طوبة شديد البرودة قالـــوا ( طوبة تخلي الصبية كركوبة ) ولأن شهر أمشير تكثر فيه العواصف الترابية قالوا (أمشير أبو الزعابير) ولأن شهر برمهات بداية حصاد معظم المزروعات قالوا (برمهات روح الغيط وهات) ولأن النهار يكون قصيرا مع بداية شهر كيهك قالوا (كيهك حضر غداك مع عشاك) وهكذا تجد مثلا شعبيا لكل شهر مصري . ومع ملاحظة أن أسماء الشهور مستمدة من أسماء الآلهة المصرية .
وتتجاهل الثقافة السائدة أن الأميين يعلمون أن شدة البرودة تكون في شهري طوبة وأمشير . وأن شدة الحر تكون في شهري بؤونة وأبيب إلخ . وتتجاهل أيضأ أن التقويم الميلادي العالمي يتواكب دائما مع التقويم المصري . فتجد أن شهر طوبة يلازمه شهر يناير . وأن شهر أمشير يلازمه شهر فبراير ( مع فروق في بعض الأيام ) وهي ظاهرة يجب أن يعتز بها كل مصري . وفي زيارة لمعبد آمون اكتشفت عالمة المصريات الفرنسية كريستين نوبلكورأن العين اليمني للتمثال هي الشمس والعين اليسري هي القمر. ومكتوب علي التمثال أن العين اليسري (القمر) تستمد نورها من العين اليمني (الشمس) وتقول هذه العالمة إن هذه حقيقة علمية فلكية ولم يكتشفها العلماء إلا في نهاية القرن العشرين , فكيف توصل المصريون القدماء إليها ولم يكن لديهم آلات فلكية مثل آلات العصرالحديث ؟ وقد اعترف العالم الكبير إسحاق نيوتن أن المصريين القدماء هم أول من رصدوا النجوم .أما العالم الكبير كوبرنيكوس فقد اعترف بفضل العالمة والفيلسوفة المصرية هيباتيا عليه في علم الفلك. وهي التي قتلها المسيحيون المتعصبون عام 415 لأنها كانت تعتز بديانة جدودها ولم تعتنق المسيحية. مع أنها كانت تؤمن بحق كل إنسان أن يعتقد ما يشاء. وجاء في معجم الحضارة المصرية الذي وضعه ستة علماء أوروبيين متخصصين في علم المصريات أن علماء الفلك في العصرالحديث قالوا عن التقويم المصري أنه هوالتقويم الوحيد الذي عمل بذكاء في التاريخ البشري كله. خاصة وأنهم لم يمتلكوا المنظارالفلكي الذي اخترعه جاليليو عام 1609 ولم يمتلكوا المرصد الضخم الذي اخترعه العالم الأمريكي إدوين باول هابل في القرن العشرين الذي رصد المجرات الخارجية ومجموعات النجوم .
أعتقد أن الاحتفال بالتقويم المصري أبلغ رد علي العروبيين من المصريين . ولكنني أعتقد أيضا أن إحياء فكرة التقويم المصري لن يكون مؤثرا إلا اذا تبنت الثقافة السائدة المنهج العلمي لترسيخ خصوصيتنا المصرية . وهو الدور الذي كان يجب أن يقوم به الكتاب المصريون , ولكنهم لم يكتفوا بالتقصير , وإنما تعمدوا تشويه الحضارة المصرية , وأنها حضارة موت وبطش وطغيان وعبودية . في ترديد ببغاوي لأكاذيب بني إسرائيل المعادية لجدودنا المصريين . كجزء أصيل ضمن تراجيديا الصراع الحضاري بين الزراعة والصحراء , كما ذكرت النصوص المصرية القديمة (قصة سنوحي كمثال) وكما يصوره الواقع الذي نعيشه الآن في كل دول العالم.
كما أن الاحتفال بالتقويم المصري لابد أن تتبعه احتفالات أخري . مثل عيد الربيع المصري ( شم النسيم ) وفيضان النيل الخ . كما أري أن من الاحتفالات المهمة , الاحتفال الذي اقترحه الكاتب أ. محمد صالح الذي كتب (لست أعرف لماذا لم نفكر حتي الآن في أن يكون يوم اكتشاف سر اللغة الهيروغليفية وحل رموزها عيدا قوميا لمصر . باعتبار أن ذلك هو الحدث الذي كشف حقيقة الحضارة المصرية ووضعها في مرتبة أعلي عن سواها ) ( أهرام – 21 / 9 / 2002 ص 10 ) إن اقتراح أ. محمد صالح يؤكد أن ما يكبس ويغطي علي ( القومية المصرية ) قشرة رقيقة يسهل إزالتها . ولكن هذه المهمة ( أي إزالة القشرة ) تتطلب إعادة النظر في مناهج التعليم وفي برامج الإعلام , لخلق جيل جديد من المصريين يعرفون جذورهم وتراثهم, وبالتالي يتمكنون من الرد العلمي علي لغة الخطابة السياسية التي روجت لمقولة (تعريب مصر) كما يتمكنون من الرد علي أكاذيب بني إسرائيل الذين يزعمون أنهم بناة الحضارة المصرية.
E.mail: [email protected]