بدون مقدمات نحن بصدد أهم تحد أوربي للولايات المتحدة بشأن توليها الزعامة علي قضية الشرق الأوسط… وفي القلب منها قضية فلسطين وتحديدا قضية الدولة الفلسطينية.
إنني أعني تحديدا الصيغة الأصلية للتقرير/القرار الأوربي بشأن القدس. ففي اعتقادي أنه يمثل الرأي السياسي والقرار الحقيقي لدول أوربا. إنه التحدي الأوربي الحقيقي في مواجهة التحدي الأمريكي. وبهذا المعني فإنه لن يموت نتيجة للضغط الأوربي والتغيير الذي أدي إليه هذا الضغط . فضلا عن أنه ضغط لم يسفر عن إلغاء الرأي الأوربي إنما أسفر عن إعادة صياغته.
والفرق ليس جوهريا بين وصف القدس الشرقية بأنها عاصمة الدولة الفلسطينية المنتظرة ووصف القدس كلها بأنها عاصمة للدولتين عندما تقوم الدولة الفلسطينية.
لم يسبق لأوربا أن دخلت ميدان القضية الشرق أوسطية بهذه الصورة المباشرة. وهي إما أن تأخذ الولايات المتحدة إلي الطريق الأوربي الجديد أو أن تزيح الولايات المتحدة عن عجلة القيادة التي بقيت فيها منذ حرب السويس عام 1956 ولم تقبل دورا أوربيا منذ ذلك الوقت.
بدون مقدمات, لأن تقرير الاتحاد الأوربي عن ممارسات إسرائيل كدولة احتلال في القدس هو نتيجة وليس مقدمة. هو نتيجة لسياسات إسرائيل ونتيجة لسياسات الولايات المتحدة التي انحازت لإسرائيل حتي في أخطائها ونتيجة لمراجعة موضوعية للسياسات الأوربية تجاه إسرائيل وفلسطين, بل نتيجة لإعادة نظر جدية إلي مسئوليات أوربا تجاه فلسطين, تلك المسئوليات التي لم يسبق أن راجعها الاتحاد الأوربي ككل, ولم يسبق أن راجعتها أي من الدول المكونة له كل علي حدة.
وما دمنا قد قلنا هذا بشكل مباشر يتعين علينا ـ للأمانة ـ أن نقول إن التقرير الأوربي ليس بأي حال نتيجة عمل عربي سياسي أو دبلوماسي أو حتي دعائي.
ومن المهم أن نلاحظ ـ قبل الدخول إلي رؤية تحليلية لهذا التقرير وما يمثله ـ أن الاتحاد الأوربي يملك 27 صوتا في الأمم المتحدة, واثنتان من دولة ـ هما فرنسا والمملكة المتحدة (بريطانيا) ـ تملكان حق الفيتو في مجلس الأمن, ويتعين علينا أن نستبعد احتمال أن تستخدم أيهما حق الفيتو ضد التقرير الأوربي إذا وجد طريقه إلي مجلس الأمن بصورة أو بأخري. إنما يفرض نفسه تساؤل مهم هنا, وهو إذا كانت الولايات المتحدة يمكن أن تستخدم حق الفيتو ضد مشروع قرار أوربي مبني علي هذا التقرير إذا سارت التطورات في هذا الاتجاه.
ولا نجازف بالوقوع في خطأ إذا ما قلنا إن هذه الفرضية المتعلقة باستخدام الفيتو الأمريكي ضد أوربا هي فرضية مستبعدة كليا, خاصة بعد أن استجابت أوربا لتغيير صيغة القرار الأوربي. إذ لا بد أن نتذكر أنه علي الرغم من كل التجاوزات الأمريكية في صدد تأييد إسرائيل إلا أن الموقف الرسمي الأمريكي فيما يتعلق بالقدس لا يزال موقف عدم اعتراف بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لدولة إسرائيل كما تذهب الصيغة الصهيونية المعروفة.
تدل هذه الملامح علي أننا بصدد تحول بالغ الأهمية دوليا في التعامل مع إسرائيل وفلسطين. ومن شأنه أن يجذب مجموعات دولية أخري ودولا غير مندمجة في مجموعات إلي هذا الموقف الأوربي … ولن يكون الشرط الأوحد لانضمام أي دولة الي هذا الطريق الجديد سوي استطلاع الموقف الأمريكي منه, بمعني أن تبني الموقف الأوربي لن يترتب عليه عقوبات تفرضها أمريكا ضد مؤيدي الموقف الأوربي.
إن التقرير الأوربي ـ الذي تولت إصداره السويد بصفتها رئيسة الاتحاد الأوربي في الوقت الحاضر ـ يعيد الأوضاع والمواقف إلي أصولها التاريخية… علي الأقل إلي لحظة ما قبل استخدام القوة الإسرائيلية لتحقيق الاحتلال. فالتقرير يؤكد علي وجه التحديد الحقائق الثابتة التالية كما حددتها الصياغة الأوربية الأصلية للتقرير:
اولا: إن سياسة الاتحاد الأوربي تجاه القدس الشرقية تقوم علي أساس قرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر عام 1967 وخاصة عدم الاعتراف بأي ضم للأراضي بالقوة أو بالتهديد باستخدامها. وبالتالي فإن الاتحاد الأوربي لم يعترف أبدا بالاحتلال الإسرائيلي للقدس المحتلة ولا بالقانون الذي أصدرته إسرائيل عام 1980 بضم القدس الشرقية إليها… في المقابل أصدر مجلس الأمن عام 1980 القرار رقم 478, برفض الاعتراف بالقانون الإسرائيلي, وبأي تحرك إسرائيلي يهدف إلي تغيير الواقع في الأراضي المحتلة.
ثانيا: تتبني الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سياسة نقل السكان اليهود ليعيشوا في الأراضي الفلسطينية المحتلة في انتهاك واضح لمعاهدة جنيف الرابعة والقانون الدولي الإنساني. ونتيجة للسياسة الإسرائيلية تمت فعلا مصادرة أكثر من 30 في المئة من أراضي القدس الشرقية لصالح اليهود … واليوم يعيش حوالي 190 ألفا من المستوطنين في القدس الشرقية.
ثالثا: يعتمد أغلب النشاط الاستيطاني في القدس الشرقية علي تمويل المنظمات اليهودية المؤيدة للاستيطان, الأمر الذي يتم في إطار رؤية استراتيجية للحكومة التي تقدم التسهيلات الكبيرة لهذا النشاط … بهدف زرع المزيد من البؤر الاستيطانية في البلدة القديمة من القدس الشرقية وهو الجزء الذي يضم المقدسات الإسلامية والمسيحية.
رابعا: توسعت إسرائيل في إصدار قرارات إبعاد الفلسطينيين عن القدس وهدم منازلهم فيها, بدعوي عدم وجود تراخيص للبناء, علي الرغم من أن القانون الدولي يلزم اسرائيل كقوة احتلال بتوفير جميع الخدمات الأساسية لسكان الأراضي المحتلة. وفي حين يمثل الفلسطينيون حوالي 35 في المئة من سكان القدس فإنهم لا يحصلون إلا علي اقل من نسبة 10 في المئة من ميزانية الخدمات البلدية.
خامسا: توسعت إسرائيل في قرارات هدم منازل الفلسطينيين في القدس المحتلة وإبعادهم بمبررات واهية. ومنذ عام 2000 أصدرت السلطات الإسرائيلية أكثر من 600 قرار هدم منازل في القدس. كما شهد عام 2009 تشريد أكثر من 200 فلسطيني, أغلبهم من الأطفال, ويمكن أن يصل العدد إلي 3600 فلسطيني إذا نفذت قرارات الهدم الموجودة حاليا.
سادسا: أدي تشييد الجدار العازل في الضفة الغربية إلي مصادرة مساحات شاسعة من الأراضي التي يملكها فلسطينيون وعزل آلاف الفلسطينيين عن أماكن عملهم ومزارعهم.
سابعا: يؤدي فصل القدس المحتلة عن باقي مناطق الضفة الغربية إلي تداعيات خطيرة علي الاقتصاد الفلسطيني ويضعف الروابط الاجتماعية. وعلي الرغم من عدم اكتمال بناء الجدار العازل فإنه تسبب في صعوبات كثيرة لمئات الآلاف من الفلسطينيين.
وتكفي قراءة واحدة لمعطيات التقرير الأوربي للتوصل إلي استنتاج بأنه تقرير غير مسبوق من جهة رسمية غربية فضلا عن كون هذه الجهة الرسمية تتمثل في الاتحاد الأوربي الذي يحتل المكانة الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة ككتلة دولية مؤثرة. وتدل صياغته علي قراءة دقيقة للغاية للواقع القائم في الأرض الفلسطينية تحت الاحتلال الإسرائلي.. قراءة لم تتأثر ـ كما هي العادة ـ ببيانات اسرائيل ولا بقدرة الأجهزة الإسرائيلية والصهيونية علي صعيد عالمي علي شن الهجمات الدعائية المضادة… التي تستند في أساسها علي اتهام كل من ينتقد إسرائيل ويخالفها بالعداء للسامية. التقرير ينبئ بأن أوربا تسير في طريق الشفاء من عقدة الذنب التي تكونت نتيجة عوامل تاريخية قديمة لم يعد لها وجود أو أثر في الواقع.
لهذا يلفت النظر بشدة التحذير الذي وجهته السويد بصفتها الرئيسة الحالية للاتحاد الأوربي إلي إسرائيل من أن تحاول تطبيق طريقة فرق تسد مع أوربا في التعامل مع هذا التقرير.
وما يميز التقرير بعد هذا التوضيح لمخالفات اسرائيل ما تضمنه من توصيات اتفقت عليها الدول المكونة للاتحاد الأوربي:
* توصية بوجود دور أكثر فاعلية للاتحاد الأوربي من أجل التصدي للمارسات الإسرائيلية في القدس الشرقية, وضرورة العمل علي تطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة, وتوصيل رسالة أوربة واضحة إلي السلطات الإسرائيلية بشأن الموقف من القدس المحتلة.
* توصية بضرورة الاعتراف بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المنتظرة, وتأكيد عدم شرعية السيادة الإسرائيلية عليها. وتشجيع وجود ممثل لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس الشرقية, وإقامة الاحتفالات بالأعياد الوطنية للدول الأوربية في القدس الشرقية وفي مؤسسات فلسطينية بها, إذا ما اتيح ذلك باعتبارها عاصمة للفلسطينيين.
* توصية بإصدار تشريع أوربي يحظر عقد صفقات اقتصادية أو مالية مع أي جهات تدعم الاستيطان في القدس الشرقية, وإصدار دليل غير ملزم لشركات السياحة الأوربية التي ترسل أفواجا إلي القدس الشرقية حتي لا تدعم المستوطنات في المدينة.
نستطيع أن نستنتج, من دون تردد, أن هذه التوصيات تعني أن أوربا عازمة علي الخروج من الاكتفاء بالوقوف علي الخطوط الجانبية ودور المتفرج تاركة زمام القيادة للولايات المتحدة. الأمر الذي يعني أن التحدي الأوربي للتحدي الأمريكي قد بدأ وأن الولايات المتحدة في المرحلة الراهنة التي تتميز بالتردد والإحجام عن التغيير ستجد نفسها مطالبة علي الأقل بأن تطابق مواقفها الرسمية بمواقفها الفعلية. إنها فرصة لإدارة أوباما لتبرهن علي استعدادها للتغيير.
إن سكوت الولايات المتحدة لعدة أيام متوالية منذ صدور تقرير الاتحاد الأوربي في صياغته الجديدة, حتي كتابة هذه السطور, هو دليل علي أن واشنطن تؤثر أن تدرس قبل أن ترد. ومعني هذا أنها لا تفكر في الهجوم التلقائي. كذلك فإن رد الفعل الإسرائيلي اتسم حتي الآن بالحذر وآثر التعامل مع تقرير صادر عن الاتحاد الأوربي وكأنه تقرير سويدي, وهي حيلة لن يطول استخدامها خاصة أنها تقع تحت طائلة التحذير من أسلوب فرق تسد.
وأغلب الظن أن إسرائيل ستحاول أن تنتهج هذه الطريقة لا للتفرق بين الدول الأوربية فيما بينها إنما لتفرق بين الدول الأوربية والولايات المتحدة. إسرائيل لن تنتظر طويلا لتصل إلي استنتاج بأن الهدوء الأمريكي إزاء التقرير الأوربي هو تشجيع لأوربا في الوضع الجديد الذي وضعت نفسها فيه. فهو في تقدير إسرائيل ليس تحديا أوربيا للتحدي الأمريكي إنما هو التحدي الأوربي لاستفزاز أمريكا لتحدي إسرائيل.
بإمكاننا الآن ـ وعلي الرغم من الضغط الذي مورس علي الاتحاد الأوربي لإعادة صياغة تقريره ـ أن نقول إن القضية الفلسطينية في المحافل الدولية ستكون بعد تقرير الاتحاد الأوربي اقوي مما كانت قبله… مهما كانت ردود الأفعال الإسرائيلية والأمريكية.
نقلا عن جريدة
السفير اللبنانية