وصف الكثيرون في واشنطن هجوم روسيا علي جورجيا بأنه نقطة تحول في الشئون الدولية. يقول الخبراء إننا نعود إلي عصر صراعات القوي العظمي, وأن العولمة والدمج زائفان, وأن روسيا تلعب هذه اللعبة الكبيرة الجديدة بذكاء ماكر, ونحن ـــ الولايات المتحدة وأوروبا ـــ نتخبط. لكن فيما تتبلور الأمور, سيتبين أن هذه التحليلات الآنية تضخم الأمور ومضللة ومغلوطة. لا شك في أن عالم اليوم يتميز ببروز قوي جديدة مثل الصين وروسيا والهند (وهي ظاهرة أطلقت عليها اسم ##بروز البقية##). وهذا ليس مناقضا للعولمة بل هو متأت منها. فالنمو الاقتصادي يؤدي إلي نشوء مراكز جديدة للنفوذ. وهذا بدوره يؤدي إلي تنامي مشاعر الفخر الوطني والثقة والحزم. لكن هناك أيضا قوي مضادة فعالة وجديدة, نعم, متأتية من العولمة والدمج, تعمل علي تقويض القومية والأحادية.
لن يتم تذكر الهجوم علي جورجيا علي أنه بداية حقبة جديدة من النفوذ الروسي بل علي أنه خطأ استراتيجي فادح. انظروا إلي ما حدث. لقد أرعبت روسيا الدول المجاورة لها, ودفعتها إلي أحضان الغرب. طوال سنتين, كانت بولندا تتلكأ في اتخاذ قرار بشأن اقتراح أمريكا نشر مضادات للصواريخ في ذلك البلد لتشكل جزءا من الدرع الذي يمتد في أنحاء القارة (قبل بضعة أشهر, تراوحت نسبة التأييد الشعبي للدرع بين 15 و25 بالمائة). لكن بعد أيام من الهجوم الروسي, وافقت وارسو علي نشر المضادات. ولطالما كانت أوكرانيا منقسمة حول ما إذا كان عليها توطيد علاقاتها مع الغرب. فقبل بضع سنوات, كان 60 بالمائة من سكان البلد يفضلون إقامة نوع من الفيدرالية مع روسيا بدلا من ذلك. الآن تطالب حكومة كييف بلا تردد بأن يتم تمهيد السبيل لكي تصبح من أعضاء حلف شمال الأطلسي.
لقد وحد فلاديمير بوتين أوروبا وأمريكا أكثر مما كان باراك أوباما سيفعل إذا انتخب رئيسا. فالولايات المتحدة وأوروبا متفقتان الآن استراتيجيا أكثر من أي وقت مضي خلال العقدين الماضيين. حتي الأنظمة الأوتوقراطية في القوقاز كانت ردة فعلها سلبية إزاء الهجوم, رافضة تأييد الأعمال الروسية وتشريع الوقائع الجديدة علي الأرض. كما أن الصين رفضت دعمها. ما الذي كسبته روسيا من كل هذا؟ 70 ألفا من سكان أوسيتيا الجنوبية.
لقد شبه عدة دبلوماسيين ومعلقين الهجوم علي جورجيا باجتياح الاتحاد السوفييتي لهنجاريا عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا عام .1968 أظن أن التشبيه التاريخي الأصح قد يكون اجتياح أفغانستان عام .1979 حينها, كما الآن, تمادت نخبة الكرملين المنتشية من أرباحها النفطية إلي حد كبير وتسببت بردة فعل معاكسة في المنطقة وأنحاء العالم.
الحقيقة هي أننا لسنا في القرن الـ19, حيث كان التدخل الروسي سيعتبر طبيعيا بالنسبة إلي قوة عظمي. في الواقع, قبل 50 عاما فقط, تشبثت بريطانيا وفرنسا بمستعمراتهما, في الجزائر وفيتنام وكينيا وقبرص, بحزم وعنف أكبر مما فعلت موسكو. في المقابل, هذه هي المرة الأولي منذ تفكك الاتحاد السوفييتي التي ترسل فيها روسيا قواتها إلي بلد مجاور (وهو بلد كانت قد حكمته منذ عام 1801). أفعالها مستنكرة لكن ردة الفعل عليها, عالميا, دليل علي أن قواعد اللعبة تغيرت. وقد بدا أن الرئيس جورج دبليو بوش يفهم ذلك عنـدما وصف الأفعال الروسية بأنها غير مقبولة ##في القرن الـ21##.
إن الدبلوماسيين يبحثون الآن عن طرق لجعل موسكو تدفع ثمن أفعالها, وإضعاف مكانتها في الهيئات الدولية, وتعليق بعض الاتفاقيات, وتفكيك بعض المؤسسات المشتركة. كل هذه الاحتمالات جديرة بالنظر فيها لكن تجدر الإشارة أيضا إلي أن وسيلة الضغط علي الروس هذه متاحة أمامنا فقط لأننا أمضينا العقدين الماضيين في توثيق علاقاتنا معهم. في الواقع, التحدي الحقيقي الذي نواجهه في التعامل مع موسكو هو أن هذه العلاقات قليلة جدا, ونتيجة لذلك, فإن وسائل الضغط قليلة أيضا.
المشكلة ليست في أنه تم دمج روسيا في نظام عالمي فشل في ردعها, بل في البلد الذي لايزال غير مندمج إلي حد كبير, وبالتالي يشعر أنه لن يخسر الكثير إذا خرق القواعد. قد تكون عزلة موسكو ناتجة جزئيا عن السياسة الخارجية الغربية, ولا شك في أن هذا هو الرأي الروسي, لكن السبب الأهم يتعلق بالنفط. فمع ارتفاع سعر النفط وغيره من الموارد الطبيعية خلال العقد الماضي, أصبحت روسيا أكثر اختلالا وفسادا وديكتاتورية وعنادا. كما أن الأرباح النفطية في مختلف البلدان, بدءا بفنزويلا ووصولا إلي إيران وروسيا, تؤدي إلي المزيد من الاستقلالية وعدم الاكتراث بالقواعد والأسواق والقوانين الدولية.
الاستراتيجية المفضلة لإعادة روسيا إلي كنف العالم المتحضر تقضي بتخفيض أسعار النفط إلي حد كبير, مما سيجبر موسكو علي الاندماج أو الركود. إلي أن يحصل ذلك, علينا أن ندعم جورجيا ونساعد بلدانا مثل بولندا وأوكرانيا. وفي الوقت نفسه, علينا أن نبقي التواصل قائما مع روسيا كي نستمر في العمل علي مخاوف مشتركة, مثل انتشار الأسلحة النووية, ويكون لنا وسائل للضغط عليهم. من شأن استراتيجية عزل موسكو أن تحد من وسائل الضغط المتاحة أمامنا للتأثير علي تصرفاتها.
تصوروا لو أننا طردنا روسيا من مجموعة الدول الصناعية الكبري الثماني وقطعنا معظم علاقاتنا مع موسكو, مثلما يطالب المرشح الجمهوري جون ماكين والكثير من المحافظين الجدد. حينها, عندما يهاجم الروس جورجيا, لن يكون لدينا سوي خيارين, إما التهدئة أو الحرب.
نيوزويك