حقيقة أن هذا الأب لجميعنا أنه ظاهرة روحية قل أن يظهر مثلها. إن كنيستنا تتميز بأنها كنيسة الشهداء, لعلها أكثر كنيسة صدرت إلي السماء أكبر عدد من الشهداء. وأرضنا تخضبت بدماء الشهداء وبدموع العباد, ولعل الآلام التي رآها شعبنا علي مدي العصور التي ربما لا نجد لها نظيرا في بلد آخر, هذه الآلام بركة, هي التي جعلت أرضنا تثمر هذا النبات الروحاني الخصب الذي أغني ويغني العالم بأثره.
في بعض الأحيان يقول الإنسان بنوع من الألم, لماذا نحن في مصر نصيبنا من الألم كثير؟ هل هذه لعنة؟ هل هذا قضاء قديم علينا؟ هل هي خطيئة نحصد نتيجتها؟, لكن ما نلاحظه عمليا أن هذه الآلام هي التي جعلت أرضنا أفضل أرض, وشعبنا من أبقي شعوب العالم, وأعتقد أنه ليس هناك بلد آخر يتعامل في سهولة مع العالم غير المنظور كمثل ما نتعامل نحن.
كثير من الأمور التي تحدث معنا ببساطة, لو قلناها خارج بلادنا في بلاد أخري لما صدقوها واعتبروها دربا من الخرافات, لأنهم ربما ليسوا في حاجة إلي هذه المعونة الخفية كما نحتاجها نحن.
إن قوتي في الضعف تكمل هكذا شاء الله لنا أن يكون لنا نصيب غير قليل من الآلام, لكن هذا الألم عصمنا وعصم شعبنا من الانحراف, فما زالت كنيستنا كنيسة قويمة, ومازال إيماننا إيمانا سليما وإذا كان المسيح له المجد يقول: الذي عندكم تمسكوا به إلي أن آجئ.
فشكرا لله أن لدينا إمكانيات في شعبنا أن نحافظ علي وديعة الإيمان وأن نحفظه صافيا سليما علي صورته البسيطة بلا تعقيد وبلا تكلف. هناك من القصص الكثيرة التي تسمعونها في مختلف المناسبات كدليل علي شدة إيماننا بما لا يري, والإيمان بحسب تعريف الرسول الإيمان هو الثقة بما يرجي والإيقان بأمور لا تري.
فنحن لا نحتاج في مصر إلي الأدلة العقلية والبراهين الكثيرة التي يحتاج إليها غيرنا, أدلة علمية أو فكرية أو نصوص كثيرة, إنما هذه البساطة التي نتعامل بها في يقين كامل مع العالم غير المنظور, تجعلنا أكثر يقينا لحقائق الإيمان مما تجتمع له الأدلة العقلية والأدلة النقلية وما إليها من براهين علمية.
هذه البساطة, بساطة الإيمان تجعلنا علي يقين من أن شعبنا وقد اقتربنا إلي الأيام الأخيرة, اقتربنا من المجئ الثاني, تجعلنا علي يقين من أننا نطمئن, نطمئن علي شعبنا أنه في الضيقة العظيمة المقبلة التي يمتحن فيها الإيمان وسوف يمتحن, نطمئن أن شعبنا سيبقي بإذن الله راسخا وسيبقي ثابتا لا يتزعزع.
إن مصر هي التي هرب إليها المسيح من ألفي سنة. إن في هذه الأرض خصوبة وفي هذه الأرض ثروة, في كل شبر من أرضنا بركة نتيجة الدم الذي سفك من أجل المسيح, ونتيجة الدموع التي انهمرت من عيون القديسين, في عبادة صادقة. صدقوني إنني حينما أدخل إلي إحدي كنائس مصر القديمة, وأنظر إلي التراب أشعر في يقين أن هذا التراب مقدس, إن تراب هذه الكنائس القديمة سقطت عليه روحانية القديسين, دخلت فيه إشعاعات روحانية فجعلته مدشنا ومقدسا, ليس ترابا عاديا إنه تراب مكهرب, تراب ممغنط, دخلت فيه مغناطيسية روحانية غير منظورة ونحن نؤمن بغير المنظور. وشعبنا أكثر شعوب العالم قدرة علي أن يفهم معني المنظور ومعني غير المنظور.
إن البابا كيرلس السادس ظاهرة روحية, في أوائل عهده كنت أحس أن هذا الرجل غامض, وأن فيه كنوزا مخبوءة, وهذا أسلوب روحانية الآباء. إنه كان لا يتكلم كثيرا, ما أقل ما كان يتكلم الرجل, ما أقل ما كان يعظ, لا لأنه يجهل الوعظ فقد كان في حياته الأولي واعظا, وحينما كان في مدرسة الرهبان اللاهوتية أعلم أنه كان يعظ, وكانت عظاته تتميز أحيانا بالطول, لكن الأمر العجيب أنه بعد أن صار بطريركا صمت عن الوعظ وصارت كلماته قليلة, لكن كل إنسان يعرف أن البابا إذا تكلم فكل كلمة منه تحمل رسالة لها فاعليات وقوة نافذة. وقد تعلم الأقباط في عهد البابا كيرلس أن لا يستهينوا بكلمة واحدة يقولها البابا, حتي لو لم يفهموها في حينها, إنما تعودوا أن هذه الكلمة التي في وقت ما سمعها الإنسان ولم يعرها اهتماما, مضت الأيام وجرت السنون وإذا بهذه الكلمة يثبت أنها كلمة لها معناها. فاتعظ الناس بعد ذلك ولم يعد واحد أبدا يقول له البابا كيرلس كلمة إلا أصبح يلوكها ويحركها في فمه وفي فكره ويجترها, لأنه يعلم أنها ليست كلمة بسيطة, إنها أحيانا ليست رسالة فقط إنما أحيانا كثيرة قد تكون نبوءة أيضا.
والرجل كانت له روح النبوءة, هذه واحدة من مواهب الرجل, مواهب الشفاء عنده كثيرة, وأنتم علي بينة من عشرات ومئات المعجزات التي أجراها الله علي يديه, لكن الرجل فوق ذلك كانت له روح النبوءة, ولذلك يمكن أن يحسب البابا كيرلس بين الأنبياء من دون أن يكون في هذا مبالغة, كانت له نظرات وكانت له رؤية مستقبلية, وكان الرجل أحيانا يقبل أن ينتقد وأن يلام وأن يظن به سوء حتي تمضي الأيام ويتبين أن ما قاله كان نبوءة.
إني أشعر أن ما قاله البابا لأي فرد منا ينبغي أن يجمع وأن يحتفظ به, وأن يدخر لمستقبل الأيام. كانت لهذا الرجل نبوءات فردية ونبوءات عامة.
نبوءات لكل فرد, كان يقابل إنسانا فيقول له كلمة وتكون هذه الكلمة نبوءة ويتبينها ويتبين صدقها بعد وقت, وأحيانا يتولاه حزن لأنه لم يعر هذه الكلمة انتباها في وقتها. أو فات عليه أن يتصرف التصرف الملائم فيعود نادما.
تقابلت مع كثيرين بعد حياته أكثر مما سمعته في حياته, في مصر وفي الخارج أناس كثيرون, في كل يوم يسمع الإنسان قصة جديدة من إنسان جديد يلتقي به ويسمع منه قصة, كلمة قالها له البابا كيرلس وتحققت, أحيانا تتحقق بعد وقت قصير, وأحيانا تتحقق بعد سنوات. أؤمن تماما أن هذا الرجل كانت له روح النبوءة, وهي من مواهب الروح القدس كما تعلمون, كما نقول في صلاة الساعة الثالثة روح النبوءة والعفة, روح القداسة والعدالة, روح النبوءة وهي من ثمرات سر الميرون, من ثمرات الروح القدس, ومسحة الروح القدس, لكنها في بعض الناس تلمع هذه الموهبة أكثر من غيرهم, لأنهم استطاعوا أن ينموا موهبة الروح القدس بالعبادات.
والبابا كيرلس كان رجل عبادة, بل حياته عبادة ولعل أقصر جملة يمكن أن تلخص فيها حياة الرجل ما قاله النبي داود: أما أنا فصلاة رجل غرق في الصلاة, دخل إلي أعماق الصلاة, غاص فيها, صارت حياته كلها صلاة, صلوات يومية من ساعة مبكرة إلي ساعة متأخرة من اليوم. وإذا قابل أشخاصا في مقابلاته يصلي من أجل إنسان أو علي إنسان وبكلماته القليلة التي يقولها تجدها إجابة عن سؤال وأكثرها صلاة لأنه غرق في الصلاة.
وهذه العبادات المستمرة من صوم طويل ومن عبادة مستمرة ومن عكوف طويل سابق علي اختياره بطريركا, سواء في حياته الأولي قبل أن يترهبن أو بعد أن ترهب في الدير أو بعد أن دخل المغارة أو بعد أن ترك المغارة إلي طاحونة الهواء في جبل المقطم, وبعد أن ترك طاحونة الهواء تحت ضرورات الحرب العالمية الثانية عندما ذهب إلي عدد من الكنائس في مصر القديمة, تردد إليها وفي كلها كان دائما رجل الصلاة. أعطي نفسه لحياة الصلاة.
هذه الصلوات أكسبته روحانية فصار في الروح, وهو التعبير الذي استخدمه القديس يوحنا اللاهوتي عندما قال: كنت في الروح أو صرت في الروح كأنه نسي وجوده المادي وغرق في الروح, امتص في الروح, هذه الروحانية التي دخل إليها جعلته موعبا من الروح القدس, فصار الروح القدس يوحي إليه ويكلمه, وصار يمكنه أن يتنبأ دون أن يشعر, وكأنه يري ما لا يري, كان البابا كيرلس رجلا مفتوح العينين, وهذا يذكرنا بما كان عليه أليشع.
البابا كيرلس كل من يتطلع إليه كان يراه أنه يري, كان يتصرف كشخص يري ما لا تراه العين المجردة, ولذلك فإن الرجل كان في غير حاجة إلي وعظ كثير ولا إلي كلام, إنما تحولت عباراته القصيرة إلي عظات عميقة, وصار بها محصنا ومحميا من حروب الشيطان وسهامه الملتهبة نارا.
أؤكد لكم أن البابا كيرلس مازال يخدم بقوة حتي الآن, لأنه يظهر بعد حياته ليس في صورة إنسان كما كنا نراه, إنما بطريقة نشعر معها أن الرجل حي, كأوضح ما تكون الحياة, يتحرك ويعمل خدمات متواصلة في كل العالم, في مصر وخارج مصر للمسيحيين وغير المسيحيين, في حياته علي الأرض كانت روحه تخرج, وكان يذهب إلي أشخاص في أماكنهم وفي منازلهم, وكان عندما يقابلهم يعرفهم أنه يعلم مشاكلهم, هذه حالة شبيهة بحالات السواح, فكان ينتقل إلي بعض البيوت وإلي بعض الناس في أماكن معينة لكي ينقذهم أو يساعدهم أو يشددهم.
وأيضا بعد حياته, قبل وبعد لا يوجد فرق بالنسبة له, اليوم يتحرك في كل شبر, وأسمع قصصا مختلفة في مصر وفي ألمانيا وفي إنجلترا وفي أمريكا وفي أستراليا, وفي كل البلاد, ينتقل بسهولة لا يوجد عنده مشكلة مواصلات, الروح تنتقل بسرعة.
الحقيقة أن هذا الرجل ظاهرة, وأنه بركة لنا خصوصا ونحن نستقبل أياما صعبة وستزداد صعوبة فيما بعد, جميل جدا أن يكون عندنا في فترة معينة أمثال هذا الرجل, البابا كيرلس. هو الذي عمل لمحة ولمسة روحية ويقظة روحية غير عادية وليس عن طريق الوعظ أو التعليم, إنما عن طريق سيرته. كون أن البابا كيرلس يعمل له تذكار حتي اليوم هذا وحده شهادة, فالرجل علي الرغم من أنه تنيح وأخوه الكبير تنيح, والناس تأتي لمن؟! هذا الشعب كله, هذه المحبة الكبيرة, إكليروسا وشعبا لمن يأتون, هم حضروا لا لكي يجاملوا إنسانا أو يجاملوا العائلة, إنما هذا تعبير عن علاقة روحية غير عادية بالرجل. هذا وحده ظاهرة تدل علي شئ غير عادي. لنا مدة طويلة لم يكن عندنا هذه العينة من الروحانية التي تؤثر في نفوس الناس وتجذبهم.
حقيقة إنه مكسب لنا أن يكون البابا كيرلس في كنيستنا, هذا الإنسان كانت له ولاتزال رسالة عبر الزمان, سيرته وروحانيته وصلت إلي بلاد كثيرة في العالم, فله في بلاد الغرب الاحترام العظيم, والإحساس بقداسته وروحانيته. وأن له روحانية الآباء الأولين, وتأكدوا تماما وأنا علي يقين جدا من هذا الكلام, أن هذا الرجل لن يموت, سيرته ستظل باقية عطرة وستظل هذه السيرة العطرة تزداد كل يوم, بركة صلواته وشفاعاته فلتشملنا جميعا, ولإلهنا المجد والإكرام.