رأي أبو الإصلاح القبطي أن المستوي العلمي لرجال الدين في زمانه قد هوي إلي درجة تنذر بالخطر,وأدرك أنه لا سبيل إلي الإصلاح إذا كانت القيادة معوجة جاهلة, والرعاية ضالة تائهة, وأن الإصلاح الشامل يجب أن يبدأ برجل الدين وينتهي بالطفل,كما يبدأ بالطفل وينتهي برجل الدين,فالإصلاح الحقيقي يجب أن يسير في الاتجاهين معا لا في اتجاه واحد.وكل محاولة لمحاربة أحد الاتجاهين للاكتفاء بالآخر, محاولة لإقامة إصلاح أعرج أبتر.
لقد انتصر أبو الإصلاح القبطي للعلم,العلم للولد والبنت,ثم العلم لرجال الدين.فكان جميلا ببطريرك روحاني أن يرفع من قدر العلم,وأن يعلي مناره.قال الوحي بفم الحكيم سليمان: النفس من دون علم غير صالحة,وقال الرب يخاطب الكهنة بفم هوشع النبي: قد هلك شعبي لعدم المعرفة.فبما أنك رفضت المعرفة,أرفضك أنا أيضا,فلا تكون لي كاهنا.وقديما نادي سقراط بأن الجهل رذيلة والعلم فضيلة,بل وذهب إلي أبعد من هذا فقال: إن الشر جهل وإن الخير علم, ولئن كان حقا أن هناك أشرارا بين العلماء,وأخيارا بين الجهال,لكن الحق أن يقال أيضا أن العلماء الأشرار ليسوا علماء علي الحقيقة, وأن الجهال الخيرين ليسوا جهالا علي الحقيقة.فالعلم الحقيقي خير كله وليس فيه شر,والجهل الحقيقي شر كله وليس فيه خير.وليس العلم هو العلم الذي يتلقونه في المدارس فحسب,فهناك العلم الذي يتلقنه الطفل من أبويه في أسرته,والعلم الذي يأخذه من مدرسة الحياة من تأملاته,وخبراته في المجتمع الذي يحيا فيه.وهناك العلم الذي يهبط علي قلب المؤمن ويشرق في نفسه بالإشراق الباطني فيلهمه إلهامات يسمو علي جميع مصادر المعرفة الفكرية والعقلية.
ولا شك أن مصادر العلم متعددة,ولكن الذي لا شك فيه أن المدرسة الناجحة طريق لابد منه في عصرنا هذا لتهيئة الطلاب لقبول المعرفة من جميع مصادرها.فالطالب يتلقي فيها خبرات السابقين,وعلومهم لتكون أساسا سليما يبني عليه ما يختاره لمستقبله. وكلما تقدمت الخبرات الفردية في حياة النابغين والنابهين من ذوي العقول الثاقبة والإشراق الباطني,تقدمت المدارس التي تضم كل يوم جديدا من تلك الخبرات التي اجتمعت للمبرزين والموهوبين والملهمين.
إذن فلابد من المدرسة بالمعني الذي نفهمه اليوم,والذي يقبل في كل يوم جديدا من التطور.
وكنيستنا القبطية المجيدة هي أولي من وعي هذا الدرس الثمين من المعلم الأعظم فأنشأ مارمرقس الرسول البطريرك الأول مدرسة دينية إلي جانب الكنيسة, اشتغلت بتفسير الكتب المقدسة وحل المشكلات القائمة بين الدين والعلم, وتطورت المدرسة تبعا لحالة البلاد وأدخلت إليها العلوم المدنية إلي جانب العلوم الروحية. ولم ينتصف القرن الثاني للميلاد حتي أصبحت المدرسة الناشئة جامعة لاهوتية كبيرة, شملت دراستها علوم الدين وعلوم الدنيا من فلسفة إلي طب إلي فلك إلي رياضيات إلي تاريخ وآثار,فضلا عن الموسيقي ومعرفة اللغات.
واشتهر أمر هذه الجامعة اللاهوتية الكبري في الشرق والغرب فقصد إليها طلاب المعرفة من جميع بلاد المعمورة,وصارت مرجعا أعلي للعلوم الدينية والعصرية في القرون الخمسة الأولي,وكان الباحثون وراء المعرفة العميقة من كل العالم يجيئون إليها يتتلمذون علي أساتذتها بعد أن تمموا علومهم في بلادهم, فصارت مدرسة الإسكندرية اللاهوتية قبلة الأنظار.وقد لعبت هذه المدرسة وخريجوها أكبر دور في القرون الأولي, ولم يقتصر دورها في حدود مصر والشرق بل امتد أثرها إلي الغرب أيضا.ولن تجد كتابا يتحدث عن القرون الخمسة الأولي إلا ويذكر باهتمام كبير دور تلك المدرسة اللاهوتية الأولي وخدمتها للعلم والدين والمجتمع المصري والإنساني.
وفي نهاية القرن الخامس أراد ملوك بيزنطة أن يفرضوا علي آبائنا مذهبا في الدين,أباه الأقباط في مصر فاضطهدوهم. وكان لابد للمدرسة اللاهوتية في الإسكندرية من أن تتأثر بهذا الاضطهاد فتشتت أساتذتها وطلابها,وعصفت بها أعاصير السياسة فأغلقتها.ولكن بعضا من أساتذتها وطلابها عشقوا حياة الهدوء في الأديرة,واستقروا خصوصا في دير أبو مقار بوادي النطرون.وهذا هو السر في أن ثمانية وعشرين بطريركا من باباوات الكرسي المرقسي قد اختيروا من هذا الدير بعد غلق المدرسة اللاهوتية في الإسكندرية.
إن كيرلس الرابع لم ينشئ للإكليريكية مبني,ولم يضع لها منهجا علميا منظما,ولكنه وضع اللبنة الأولي في الإكليريكية التي شيدها كيرلس الخامس,وباركها ودعمها كيرلس السادس.وتلك الصورة المبسطة التي أقامها كيرلس الرابع كانت ذات وجهين:
وجهها الأول هو الشبان الصغار الذين اختارهم البابا ليتلقوا دروسا قوية في الدين المسيحي وفي اللغة القبطية والموسيقي والألحان الكنسية,وعين عليهم القمص تكلا,وكان ضليعا في اللغة القبطية كما كان مشهورا في فن الموسيقي والتلحين,وعين لمعاونته في تدريس الدين القمص يوسف رزق,وفي تدريس الموسيقي الموسيقار الإيطالي المسمي بالكلارنيت,وقد تتلمذ علي القمص تكلا,وحمل معه العبء المعلم عريان جرجس مفتاح,والقمص فيلوثيئوس إبراهيم.
ولكي يشجع البابا الشباب علي دراستهم ويدلل لهم علي اهتمامه بهم,ورعايته لهم عمل لهم زيا خاصا يرتدونه أثناء الخدمة.ويقال إنه أنفق علي هذا الزي 17000بندقي.
أما الوجه الثاني للصورة فهو مجهوده بالنسبة لكهنة القاهرة وضواحيها,الذين كانوا مقامين خداما بالفعل.كان البابا يجمعهم بالبطريركية أسبوعيا في كل يوم سبت,وحدد لهم موعدا للمطالعة,والمذاكرة والبحث في المسائل الدينية والشرعية. وكان يحضر بنفسه هذه الاجتماعات,ويشرح للكهنة واجبهم ويفسر لهم ما أشكل عليهم فهمه ويجيبهم علي أسئلتهم,وكان يعاونه في مهمته هذه رجل تميز بينهم بالعلم الواسع هو القمص جرجس ضبيع..
لم يطل الأمر بأبي الإصلاح ليمتد بهذه المدرسة في صورتها المتواضعة ولكن شاء الله أن يحتضن البابا كيرلس الخامس هذه الفكرة الصالحة فأنشأ الإكليريكية في مهمشة,وكان يحنو علي مديرها وأساتذتها وطلابها,وكان يفتقدهم من وقت إلي آخر,بل لقد خصص له جناحا فيها ليقيم فيه أحيانا.
وجاء عهد صاحب القداسة البابا كيرلس السادس فأولي الإكليريكية اهتماما خاصا,وأصدر قرارا مجمعيا في أول مجمع انعقد برئاسته في 14ديسمبر1959 يقضي بمضاعفة الاهتمام بالنهوض بالإكليريكية ورسامة خريجيها كهنة,وقداسته حريص كل الحرص علي احترام هذا القرار والتزامه دائما مهما تكن الأسباب,وهو علي الدوام يحض الآباء المطارنة والأساقفة علي وجوب التزام هذا المبدأ اللازم لخير الكنيسة.
والإكليريكية التي افتتحت اليوم في الساعة الرابعة والنصف من مساء يوم الثلاثاء الموافق 31يناير سنة 1961 الموافق 23من طوبة 1677 والتي تفضل قداسة البابا فارتضي أن تحمل اسمه المبارك وسميت كلية البابا كيرلس السادس اللاهوتية هي الكلية اللاهوتية الكبري في جميع الأقطار والبلاد التابعة للكرازة المرقسية في أفريقيا والشرق,يقصد إليها طلاب هذه البلاد بعد أن تمموا علومهم المدنية والدينية في بلادهم.يقبل فيها الحاصلون علي الثانوية العامة أو ما يعادلها علي الأقل,يقيمون في مبناها نهارا وليلا يحيون معا حياة اشتراكية مسيحية تعاونية,ويتهيأون فيها لتكون مجتمع ديموقراطي متماسك.
وتضم بين أقسامها قسما ليليا يقبل الحاصلين علي الليسانس والبكالوريوس من إحدي الجامعات المصرية أو ما يعادلها.ونرجو أن يتحول هذا القسم إلي قسم نهاري ينقطع طلابه للدراسة اللاهوتية انقطاعا تاما.
ولقد أعد لهذه الكلية اللاهوتية منهجا ضخما يتألف من ست مجموعات من المواد الدينية والعلمية واللغات الحية والقديمة.
المجموعة الأولي: دراسة الكتاب المقدس بعهديه وتفسير نصوصه.
المجموعة الثانية: العلوم اللاهوتية ذات المباحث المتنوعة التي تتصل بحقيقة الله,وإثبات وجوده ووحدانيته وسائر صفاته,والحي والنفس الإنسانية وروحانيتها وخلودها,ومصير الإنسان بعد الموت والثواب,والمعتقدات الدينية المسيحية,كالتثليث والتوحيد والتجسد والفداء.أما العلم المتصل بإثبات هذه الحقائق إثباتا منطقيا عقليا من دون حاجة إلي نصوص فيسمي باللاهوت النظري,وهو كذلك يناقش المعتقدات الدينية من حيث علاقتها بالعلوم والنظريات العلمية الحديثة.
أما العلم الذي يناقش إثبات العقائد,والذي يعتمد علي نصوص الكتب المقدسة,فهو اللاهوت العقيدي.والذي يختص بالآدات المسيحية,فهو اللاهوت الأدبي والذي يختص بتركيبات العبادة وطقوسها,فهو اللاهوت الطقسي.
المجموعة الثالثة: العلوم الكنسية وهي علوم الكنيسة وقوانينها والموسيقي القبطية والألحان.
المجموعة الرابعة: العلوم الفلسفية والتربوية,تاريخ الفلسفة والفلسفة,والمنطق,وعلم النفس وأصول التربية.
المجموعة الخامسة: العلوم التاريخية والطبيعية,تاريخ مصر وسورية وشعوب الشرق وأفريقيا وآسيا وجغرافيتها والمجتمع المصري. وكذلك العلوم العامة (من طبيعة وفلك وأحياء) ثم الثقافة الطبية والصحية.
المجموعة السادسة: اللغات الحية والقديمة,فمن اللغات الحية: العربية والخطابة ثم الإنجليزية,ومن اللغات القديمة: القبطية ولغات الكتاب المقدس العبرانية والسريانية واليونانية.
هذه المواد منها ما يدرس أربع سنوات ومنها ما يدرس في ثلاث سنوات أو سنتين ولكن مجموع سنين الدراسة أربع سنوات ينال بعدها الطالب بكالوريوس في العلوم اللاهوتية بشرط حصوله علي 60% علي الأقل من المجموع الكلي.
وللكلية مجلس أساتذة يتألف من أعضاء هيئة التدريس فيها,ومجلس إدارة يتألف من وكيل المجلس الملي العام,وثلاثة أعضاء من لجنة التعليم بالمجلس الملي العام,ثم مدير الكلية ووكيلها ورؤساء الأقسام وأربعة من كبار الأساتذة في جامعاتنا المصرية.
ولا يعيين مساعد مدرس بالكلية إلا إذا كان حاصلا علي درجة البكالوريوس علي الأقل ومن بين أعضاء التدريس عدد من الحاصلين علي درجة الماجستير والدكتوراه في مواد تخصصهم وإجازات أخري جامعية من الجامعات المصرية أو من جامعات أخري أجنبية.
تلك كلمة عاجلة سريعة,ولا يفوتنا في هذا المقام أن نشكر جميع الذين ساهموا في إقامة هذا الصرح اللاهوتي من الأحياء,ونترحم علي الذين ساندوه من الراحلين,ومازلنا نحتاج إلي مضاعفة الجهود وإلي معاونة الكل في سبيل ازدهار هذه الكلية اللاهوتية لعلنا نلاحق الزمن الذي نعيش فيه اليوم وحتي نحقق جميع الآمال المعقودة علي أكبر معهد لاهوتي للكرازة المرقسية.