لأن التشدد لا نهاية له, ولأن التشدد لا ينتج إلا تشددا أكبر, تتجرع حركة حماس اليوم من نفس الكأس التي جرعتها لمنظمة فتح وحكومة السلطة الفلسطينية بالأمس, عندما كانت حماس في شارع المعارضة قبل أن تجلس علي كرسي الحكم والسلطة.
حليفات حماس من الفصائل الجهادية الفلسطينية بغزة, انقلبت اليوم علي حماس بعد أن تغيرت حماس وبدأت بمهادنة إسرائيل والاستعداد لقبول فكرة الدولة الفلسطينية علي حدود 1967 إضافة إلي سعيها للحوار مع الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة أوباما الذي مد يده للعرب والمسلمين بهدف السعي نحو حل الدولتين, بالأمس رأينا حركة الجهاد الإسلامي تهاجم حماس وتتهمها بالتفريط في الثوابت الوطنية والدينية, واليوم جماعة جند أنصار الله تتمرد علي سلطة حماس ويعلن أميرها عبداللطيف موسي المعروف بـأبوالنور المقدسي من منبر مسجد ابن تيمية في رفح, قيام الإمارة الإسلامية في غزة لتحرير فلسطين التاريخية كاملة, وأيضا تطبيق الشريعة الإسلامية بحسب مفهومها, حيث تري أن حماس متساهلة بعد وصولها إلي السلطة في هذين الأمرين, ولم يتورع أمير الجماعة عن اتهام حكومة حماس بأنها إن بقيت علي ما هي عليه فهي بمنزلة حزب علماني ينتسب إلي الإسلام زورا مثل رئيس الوزراء التركي أردوغان.
لقد انقلب السحر علي الساحر, وها هي الفصائل السلفية الجهادية تنقلب تباعا علي سلطة حماس بعد أن كانت متحالفة معها ضد فتح, ومن يتذكر كيف كانت حماس وهي في المعارضة تكيل تهم الخيانة والعمالة والتفريط في الثوابت الوطنية والدينية لحكومة السلطة الفلسطينية والرئيس أبومازن.
لقد تسابقت عناصر حماس في تهديد عباس, حتي قال قائلهم دعني أدخل به الجنة! وكم اتهمت حماس فتح بأنها حزب علماني! وكيف اليوم تتهمها حليفاتها بنفس تلك التهم التي كالتها لأختها فتح بالأمس, يدرك تماما كيف أن اللعبة القديمة مازالت تتكرر, حماس كفرت وخونت فتح ثم انقلبت عليها واليوم أنصار حند الله تكفر وتخون حماس, وغدا حركة أخري تكفر سابقتها في مسلسل لا ينتهي وحكاية بلا نهاية.
وكل حركة تدعي أن فهمها هو الفهم الصحيح للإسلام وأن الفصيلة الأخري علي ضلالة, هي نفس الاسطوانة كلما جاءت أمة لعنت أختها الإخوان خونوا الأنظمة العربية واتهموا الشرفاء, بهدف الوصول إلي السلطة, وسبحان الله, جاءهم اليوم من يحاربهم بسلاحهم ومنطقهم وبضاعتهم, إنها حركات وفصائل وجماعات تعتقد أنها وحدها الوصية علي دين الله في الأرض, ولن تنتهي هذه اللعبة الدامية إلا بالانتهاء من توظيف الدين في سوق السياسة, ولكن هيهات!
تري ماذا تقول حماس عن تمرد جند أنصار الله ضدها؟! إنها تقول إنهم مرضي العقول, والضلاليون التكفيريون, كيف يكفرون المجتمع وحركة حماس التي تمتاز بالوسطية والاعتدال؟!, إنها نفس الشعارات التي يرددها الإخوان من أنهم أهل الوسطية والاعتدال, ويتناسي هؤلاء أن تكفير المجتمع والحكم بجاهليته من مبتدعات حركة الإخوان في فترات تاريخية سابقة.
لقد أصبحت الوسطية والاعتدال شعارا تدعيه كل الجماعات الدينية ولكل مفهومه الخاص! إنه الصراع علي السلطة, المرض المزمن المتجذر في التربة العربية, وفي كتب الملل والنحل فإن أول ما يقابلك هو قولهم: إن أول اختلاف شجر بين الأمة بعد نبيها هو اختلافهم علي الإمامة واستمر إلي اليوم من دون أن تتوصل هذه الأمة إلي حل سلمي لإدارة الخلاف السياسي, كما توصلت الأمم الأخري! لقد كان الحل دائما قمعيا دمويا مدمرا, وهذا ما حصل عقب إعلان جند أنصار الإسلام قيام الإمارة الإسلامية في غزة, لقد كان رد حماس ساحقا مدمرا أدي إلي مقتل الأمير و28 قتيلا ومئة جريح, وبلغ عنف الهجوم أن المسجد لم يسلم من آثار القذائف النارية التي اخترقت المئذنة والجدران, كيف تجرأ هؤلاء علي انتهاك حرمة بيت الله؟! وأين المشايخ الذين ولولوا علي مساجد الفلوجة عندما تعرضت للنيران الأمريكية؟! كيف سكتوا اليوم؟!
لقد قضت حماس علي إمارة أنصار جند الله, لكن الثمن كان فادحا وتعرضت حماس لانتقادات واسعة من قبل الفصائل الجهادية التي اعتبرت ما حدث مصيبة حقيقية أساءت إلي المشروع الإسلامي, وطالبت مؤسسة حقوقية بفتح تحقيق شامل وظروف استخدام القوة المسلحة المفرطة, لقد كان أكثر الناس فرحا بما حصل, إسرائيل وكانت فرحتها الكبري بقتل أبوعبدالله السوري وهو قائد قسامي سابق, انقلب علي حماس بسبب قبولها هدنة طويلة مع إسرائيل, وقد حرصت وسائل الإعلام الإسرائيلية علي إبراز نسف عمارة من أربعة طوابق تحوي بيت عبداللطيف موسي وبيت الجيران الذي كان موسي مختبئا فيه.
العنف لا يولد إلا عنفا أعظم, إذ أصدرت جند أنصار الله بيانا قالت فيه إن المعركة بدأت من أجل إقامة الشريعة, ولن تنتهي حتي إقامتها كاملة كما أنزلها الله, أو أن نهلك دونها ونلقي رسول الله مسربلين بالدماء من أجلها.
يعلل محللون فلسطينيون الرد الحمساوي العنيف بأن حماس أرادت أن تثبت لأهالي غزة أنها السلطة الوحيدة المسئولة, كما أرادت أن توضح للغرب أن بإمكانها قمع الجماعات المتشددة إن أرادت, ولعلنا لا ننسي أن هذه ليست السابقة الأولي, فقد قضت حماس من قبل علي جيش الإسلام بقيادة ممتاز دغمش الذي كان مقربا من حماس ونفذ اختطاف شاليط عام 2006 ثم تحول إلي واحد من أعداء حماس التي قضت علي عدد كبير من مجموعته.
لقد أصبح قطاع غزة وبسبب عوامل عديدة منها: البؤس واليأس والبطالة والحصار, بيئة خصبة للعديد من الجماعات الجهادية تحت مسميات كثيرة منها: ##جند أنصار الله, وجلجلت, وجيش الإسلام, والتوحيد, وجند محمد, وأنصار بيت المقدس##, وهي جميعا تعتنق فكر السلفية الجهادية, وكانت فيما مضي متحالفة مع حماس عندما كانت خارج السلطة, لكن هذه الجماعات اليوم تتهم حماس بشن حرب عليها وعلي الدعوة السلفية في غزة, وتناشد في أحد بياناتها الأمة العربية والإسلامية بوقف الدعم المالي عن حماس بحجة أنها منعت الكثير من السلفيين من الخطابة والإمامة والدروس الدينية في المساجد, فضلا عن التضييق عليهم وتعذيب بعض طلاب العلم السلفيين ومصادرة أجهزة الحاسوب منهم, وإرسال تهديدات إليهم… إلخ.
إن بأس الإسلاميين بينهم شديد, وليس الأمر مقتصرا علي غزة, انظر إلي ما يحصل في الصومال من مذابح وقتل وتدمير بين الإسلاميين بسبب الصراع علي السلطة, وقد كانوا بالأمس إخوة متحابين ومتحالفين, ومن قبل هؤلاء كيف فتكت حركة طالبان بجماعة المجاهدين القدماء في أفغانستان؟! وقس علي ذلك ما يحصل اليوم في إيران بين أبناء الثورة الإسلامية في ظل نظام ولاية الفقيه.
لنتساءل: ما دلالة ما حصل في غزة بين حماس وجند أنصار الله؟ إذا كانت حماس لم تتورع عن التنكيل بكل هذه الشدة بحليفتها الإسلامية حين تعرضت سلطتها لأدني خطر, فكيف يكون تنكيلها بخصومها من غير الإسلاميين؟! الويل لمجتمع يحكمه حزب ديني!
*أستاذ الشريعة بجامعة قطر