أدي الانهيار المالي في عام 2008 إلي توقف مفاجيء ومثير للصدمة للنمو الاقتصادي العالمي الذي دام ربع قرن بقيادة الولايات المتحدة. ولا تزال التداعيات النهائية لهذه الصدمة علي الاقتصاد الأمريكي والعالمي غير مؤكدة تماما حتي كتابة هذا المقال. ولكن في خضم الأزمة اختار الأمريكيون قيادة قومية جديدة في عملية انتقال سلمي للسلطة أظهرت مرة أخري قوة العملية الديموقراطية للبلاد وأكدت ثقة الناس بصلابة وقدرة الاقتصاد الأمريكي علي النهوض ثانية في المحصلة النهائية.
فمنذ انتخاب رونالد ريجان رئيسا للبلاد سنة 1980, دعت الولايات المتحدة إلي عولمة التجارة والمال, وشرعت الأبواب أمام دخول منتجات واستثمارات أجنبية بدرجة أكبر من أي اقتصاد رئيسي آخر. شكلت ثقافة المبدأ الأمريكي المتمثل في المبادرة التجارية الخاصة نموذجا عالميا. وبدا أن التمازج بين الحريات السياسية الأمريكية والأسواق الحرة شكل نموذجا برره انهيار الاتحاد السوفيتي عام .1991 وبرز في الوطن إجماع لدي الحزبين حول زيادة التحرير الإضافي للاقتصاد, مما حث بدوره علي التوسع المنطلق بحرية لأشكال جديدة من الاستثمارات والتي ساعدت في تغذية الزيادة الهائلة في التمويل الدولي والتجارة الدولية.
ولكن, أصبح النمو الأمريكي يعتمد بصورة متزايدة علي الدين. فالمستهلكون, وشركات الأعمال, ومشترو المنازل, والحكومة الأمريكية بذاتها, استدانوا مبالغ ضخمة اعتقادا منهم أن قيمة استثماراتهم, ومن ضمنها, ما تحول إلي استثمار مشؤوم للعديدين, منازلهم, قد تستمر في النمو. دفع الائتمان المتوفر بسهولة وبشروط ميسرة أسعار المنازل, بصورة خاصة, إلي مستويات أعلي.
وعندما انهارت طفرة نمو قطاع العقارات في نهاية المطاف سنة 2007, انكشف معه ذلك الجزء الهش من القروض المنزلية العالية المخاطر, التي منحت طوال فترة دامت عقدا, إلي أسر لم يكن باستطاعتها تحمل تكاليفها, وخاصة في حالة حدوث ضعف في الاقتصاد. اشتري بعض المقترضين منازل لم يكن باستطاعتهم تحمل ثمنها لثقتهم بأن استمرار ارتفاع السوق سوف يتيح لهم بيع ممتلكاتهم وتحقيق الأرباح. ولكن, مع هبوط أسعار المنازل, فإن اصحاب المنازل الذين لم يعودوا قادرين علي تسديد أقساط الرهونات ولم يتمكنوا من دفع ديونهم العقارية من خلال بيع منازلهم. وكذلك, شكلت هذه القروض المنزلية الأساس المتزعزع لمضاربات هائلة أكثرها غير مرئي, في سوق سندات الرهن العقاري والعقود المالية التي كانت تباع حول العالم.
انهار هذا الصرح بفعل انهيار قطاع الإسكان في عام 2008 فازدادت عمليات حبس الرهون العقارية وتبعها الهلع. شركات مالية عملاقة في وول ستريت سقطت أو أعيد تنظيمها او دمجت مع منافسين أكبر منها. وغاصت أسعار الأسهم وسارت الاقتصادات في العالم باتجاه أسوأ أزمة منذ فترة الكساد الكبير التي حصلت في الثلاثينيات من القرن العشرين.
كشفت الكارثة عن نقاط ضعف لم يتم التنبه إليها خلال فترة الازدهار الاقتصادي. كان الاستهلاك الأمريكي يتجاوز معدلات التوفير منذ فترة طويلة. وثقة منظمي الأسواق المالية بمدي فعالية الأسواق الاقتصادية قادتهم إلي التقليل من قيمة الأخطار المتصاعدة. وولد التفاؤل والطموح اللذان سادا بين العديد من الأمريكيين الإسراف والتهور. وأهملت الدروس المكتسبة من حالات الازدهار والانهيار الماضية بسبب توجه العديدين إلي تركيز اهتمامهم علي الحاضر فقط.
لكن الأزمة كشفت أيضا عن قدرة الحكومة الأمريكية علي الاستجابة بسرعة وحزم لهذا التحدي. حتي وفي ذروة الأزمة التي حصلت خلال الشهرين الأخيرين من عام 2008, ظل ينظر الأجانب إلي الولايات المتحدة علي أنها من بين أكثر ميادين الاستثمار الآمنة اقتصاديا والمستقرة سياسيا. بلغ توقهم إلي شراء سندات الخزينة الأمريكية درجة أدت إلي وصول العوائد علي هذه الاستثمارات إلي الصفر تقريبا, ومرة اخري كان الدولار الملجأ الآمن عند هبوب العواصف المالية.
استجاب المسئولون في واشنطن باتخاذ إجراءات لم يسبقها مثيل لمنع حصول انهيار عالمي في سوق القروض. تولت الحكومة الفيدرالية ومجلس الاحتياط المركزي الفدرالي إدارة أكبر شركتين أمريكيتين للرهونات العقارية وساعدت مصارف رئيسية وشركة تأمين رئيسية علي النجاة من المأزق بتقديم عون مالي لها, كما اتخذت إجراءات كان من غير الممكن سياسيا اتخاذها قبل حصول الأزمة. وحصلت خطة الإنقاذ الأولية للمصارف بقيمة 700 بليون دولار علي دعم الحزبين في الكونجرس الأمريكي.
منذ بداية الأزمة العالمية سنة 2008, تعهدت الوكالات الحكومية الأمريكية ومجلس الاحتياط الفيدرالي بدفع مبلغ مذهل بلغ 12.8 تريليون دولار, الذي يعادل تقريبا الناتج الاقتصادي السنوي الأمريكي بكامله, وكان ذلك علي شكل قروض, وشراء قروض, وضمانات ائتمان, وذلك سعيا منها لوقف استمرار الانهيار المالي غير المنضبط. وعد بنك الاحتياط الفدرالي أيضا بشراء سندات تزيد قيمتها عن تريليون دولار مدعومة برهونات علي المنازل كانت قد انخفضت قيمتها. ولاحظ عالم اقتصادي بارز انه ##لا أحد غير أمريكا _ ولا حتي الصين- يملك ميزانية بهذه القيمة الكبيرة## لتنفيذ مثل هذه الاستجابة.
انفجرت الأزمة في منتصف عام 2008, عام الانتخابات الرئاسية وساعدت السيناتور باراك أوباما, المرشح عن الحزب الديموقراطي حينئذ, علي الانتصار. فسر العديدون النصر الانتخابي لأول رئيس أمريكي أفريقي للولايات المتحدة, الرجل الذي ارتقي بسرعة من أصول متواضعة, كتأكيد لميزات التفاؤل والثقة لدي الناس بهذه البلاد. وكما قالت وزيرة خارجية أمريكا خلال فترة رئاسة جورج دبليو بوش, كوندوليزا رايس, ##يستطيع المرء ان ينطلق من ظروف متواضعة لتحقيق إنجاز استثنائي##.
هذه الطبعة من مطبوعة ##موجز الاقتصاد الأمريكي## هي كتاب تمهيدي يشرح كيف برز النظام الاقتصادي الأمريكي, وكيف يعمل, وكيف تتم صياغته من جانب القيم الاجتماعية والمؤسسات السياسية الأمريكية. يوجد دائما, خلال الأوقات الصعبة التي قارب خلالها اكتمال هذا العدد, شعور بكيف تستطيع جميع هذه العوامل توجيه استجابات الدولة نحو التحديات الاقتصادية الاستثنائية الماثلة في الأمام.
يقدم هذا الفصل نظرة إجمالية موجزة للاقتصاد الأمريكي اليوم. ويتبعه الفصل الثاني الذي يعرض التطور التاريخي للاقتصاد منذ فترات الاستعمار حتي الوقت الحاضر. يبحث الفصل الثالث في المعتقدات, والتقاليد, والقيم التي تقوم عليها الديموقراطية التمثيلية في الولايات المتحدة واقتصادها. يقدم الفصل الرابع صورة عن تكوين الاقتصاد الأمريكي, ماذا ينتج, ويصدر ويستورد. يركز الفصل الخامس الاهتمام علي المناطق الرئيسية في البلاد التي كانت ثقافاتها مسئولة عن الكثير من أشكال التنوع في أمريكا كما الروابط بين البني التحتية والتعليم التي ربطت أقسام البلاد مع بعضها البعض. ويصف الفصل السادس المناظرات الجارية حول دور الحكومة في الحقل الاقتصادي, ويبحث الفصل السابع في تأثير العولمة والتجارة علي الاقتصاد الأمريكي وشركاته وعماله. أما الفصل الثامن فيوجز العقبات التي تواجه الاقتصاد الأمريكي في عالم يتغير بسرعة بحيث تقل إمكانية التكهن به.
* مقدمة كتاب## موجز الاقتصاد الامريكي## : الناشر الخارجية الأمريكية