من أعظم الهبات التي منحها الله الإنسان هبة اللغة التي يتكلمها ويتحدث بها , علاوة علي العقل الذي ميزه به علي سائر المخلوقات , واللغة هي الأداة التي من خلالها يستطيع التواصل مع بني جنسه من البشر .
واللغة في معناها الحسي هي ما يتفوه به الإنسان من كلمات للتعبير عما يدور في عقله وفكره وفي ذهنه لكي ينقل بالتالي هذه الأفكار إلي من يريد منهم أن يعرفوها . أما اللغة في معناها الأدبي فهي عبارة عن آفاق واسعة لا تحدها أية حدود من أي نوع , ذلك لأن المعرفة بالتالي لا تتوقف عند أية حدود من أي نوع أيضا !!
هناك مئات الآلاف من اللغات في العالم كله , علاوة علي اللهجات المختلفة التي تتباين حسب المناطق التي يعيش فيها من يتكلمونها , وبالإضافة إلي اللغات المنطوقة , هناك أيضا اللغات المحسوسة مثل لغة الموسيقي التي تعرف أيضا بلغة الملائكة ؟! ولغة الشعر ولغة العيون وغيرها من اللغات التي تتصل بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية عموما . ولقد ذهب بعض العلماء إلي التأكيد أن الحيوانات والطيور والحشرات بل وحتي النباتات لها لغات خاصة تتواصل هذه الكائنات من خلالها؟!
ذكرت هذه المقدمة الموجزة عن تعريف اللغة في المفهوم السائد والمتعارف عليه , بعد أن كنت قد تساءلت في مقالة سابقة عن من الذي كان في الاتجاه المعاكس في حلقة البرنامج الذي يحمل نفس العنوان وهو برنامج الاتجاه المعاكس الذي يقدمه السيد فيصل القاسم والذي استضاف فيه كلا من السيد مشعان الجبوري رئيس كتلة المصالحة الوطنية بالبرلمان العراقي وصاحب قناتين فضائيتين ؟! والأستاذ مجدي خليل الكاتب والباحث والناشط الحقوقي . كانت الحلقة لمناقشة مشروع أمريكي مقترح لوضع القواعد والنظم التي يجب علي القنوات الفضائية العربية أن تتبعها وذلك لمنع الدعوة للإرهاب بكل أنواعه , وللالتزام بالمواثيق الشرعية الدولية للحد من أساليب العنف والكراهية , ولاحترام حقوق الإنسان أيا كانت ديانته أو عقيدته ؟! وقد قام السيد فيصل القاسم بعرض بعض النقاط عن المشروع للمشاهدين لكي يحيطوا بها علما , وقال إن هذا القانون هو في غاية الخطورة , وهو قانون فريد من نوعه ؟! وهو يشمل أو يستهدف الكثير من الإعلام في الدول العربية مثل الجزائر والبحرين ومصر والعراق , الضفة الغربية وغزة الأردن , الكويت ولبنان وليبيا , المغرب وعمان وقطر والسعودية , سورية وتونس والإمارات واليمن.
تساءلت بيني وبين نفسي , تري لماذا لم يذكر السيد فيصل القاسم دول موريتانيا والصومال وجيبوتي وجزر القمر وأيضا دولة السودان ضمن الدول العربية التي يستهدفها القانون علي اعتبار أن هذه الدول هي أيضا من أعضاء جامعة الدول العربية ؟! وعلي الرغم من أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية لجمهورية موريتانيا حسب الدستور , إلا أن اللغة السائدة في الدوائر الرسمية والحكومية والأهلية هي اللغة الفرنسية ؟! كذلك الحال بالنسبة للصومال , حيث إن اللغة الصومالية هي اللغة الرسمية للدولة , وتنقسم اللغة الصومالية إلي ثلاث لهجات أساسية , وهذه اللغة هي إحدي اللغات الكوشية والتي هي فرع من فروع اللغات الأفروآسيوية التي من ضمنها اللغة العربية ؟! أيضا جمهورية جيبوتي فإن اللغة الرسمية فيها هي اللغة الفرنسية وكذلك الحال بالنسبة لجمهورية جزر القمر؟!!
وعلي ذلك أقول لنفسي ربما يكون موضوع اللغة هذا هو ما حدا بالسيد فيصل القاسم أن يحجم عن ذكر هذه الدول , وربما أيضا لأنها لا تشكل خطرا ضمنيا علي الأمن الدولي الذي تهدده هذه الفضائيات العربية طالما أن رؤساءها وبالتالي مواطنيها لا يتحدثون اللغة العربية بطلاقة؟!
لغة أخري جعلتني أكتب هذه المقدمة الموجزة عن تعريف اللغة في المفهوم السائد والمتعارف عليه , وهذه الأخيرة لم أسمعها من قبل وهي لغة التهديد بالرجم بالحذاء التي وجهها السيد مشعان الجبوري للأستاذ مجدي خليل في برنامج الاتجاه المعاكس ؟! كما كنت قد شاهدت أحد الصحفيين العراقيين وهو منتظر الزيدي عندما قام بقذف فردتي حذائه علي جورج دبليو بوش أثناء مؤتمر صحفي مع الرئيس العراقي؟!!
وكنت قد ذكرت أنني استطعت متابعة حلقة برنامج الاتجاه المعاكس لمدة ثلاثين دقيقة فقط من الخمسين دقيقة التي استغرقتها , ذلك لأن الجزء الأخير منها كان عبارة عن صراخ وزعيق ومقاطعة لمجدي خليل من مضيف البرنامج فيصل القاسم وضيفه مشعان الجبوري !! ولكن – والشهادة لله – فقد حاول فيصل القاسم أن يسكت ضيفه لدرجة أنه قام بحركة بهلوانية عندما قفز فوق المكتب ليتمكن من أن يسد فمه , ولكن هيهات !! فلقد انتابت الرجل نوبة من نوبات الهتافات الهيستيرية , وصرخ الرجل وأعلنها وقالها صراحة علي الملأ إنه في مقدمة الإرهابيين في العالم !! و ( طـظ ) في أمريكا و ( طـظ ) في ألـ CIA و ألـ FBI الذين لن يستطيعوا أن ينالوا منه !! وهدد بأنه سيقاتلهم حيث يتواجدون , كما قال إنه يتشرف ويتسابق مع الإرهابيين لكي يدكوا الاحتلال بأجسادهم وبأرواحهم وبفضائياتهم وأنهم سوف يفجرون أنفسهم في مواقع هؤلاء المجرمين وسيطردوهم وسيجعلونهم يجرون أذيال الهزيمة وسيعودون من حيث أتوا بقوة هذه المقاومة ولكي يبرهن علي هذا التحدي , فقد طلب من مجدي خليل أن يقوم بإبلاغ أمريكا و ألـ CIA و ألـ FBI بهذا التهديد!!
وقرب نهاية البرنامج قال السيد الجبوري موجها كلامه لمجدي خليل :
أنا متأكد أنت لا تستطيع أن تأتي إلي هنا لأنهم سيطبقون عليك …… ( سكت ولم يقل شيئا ؟! ) أعتقد سيعاقبونك رجما بأحذية الشهداء والأطفال الذين قتلوا بقنابل أمريكية , أنا أعتقد بأنك سوف ترجم بأحذية الأطفال الذين فقدوا آباءهم في معارك الأمريكان التي تدافع عنها , ولذلك فأنت لا تستطيع أن تأتي إلي الدوحة ولا إلي دمشق عاصمة المقاومة لأن الناس سيرجمونك بأحذية الأطفال وبأحذية الأرامل , لهذا السبب أنت لا تستطيع أن تأتي إلي هنا , نحن هنا في الاستديو أما أنت هناك مختبئ عندك أسيادك الأمريكان !!
وكان رد مجدي خليل عليه هو : أنا لا أرد علي البذاءات.
ويا عزيزي الأستاذ مجدي خليل , أولا أشكرك ومعي كل العالم المتحضر علي عدم ردك علي مثل هكذا بذاءات !! ثانيا أنا أيضا مثلك لا أرد علي البذاءات ؟! ولكني أتساءل عن مدي فعالية هذا السلاح الجديد ألا وهو سلاح لغة الحذاء الذي ظهر مؤخرا وفجأة في الآونة الأخيرة في الساحة العربية؟!
وفي الحقيقة لا أدري لماذا أجد نفسي متعاطفا مع هذا الحذاء ( المسكين ) !! الذي زج به في عقول وأفكار أمثال منتظر الزيدي ومشعان الجبوري وكل من هم علي شاكلتهم ؟! هذا الحذاء الذي هو بحق معيار من معايير الحضارة والرقي , لماذا يفتري عليه هكذا ويصبح أداة من أدوات الحرب والقتال والدمار , علاوة علي أنه قد أصبح أيضا وسيلة وأسلوبا من وسائل وأساليب الشجب والتنديد والاستنكار؟!
هذا الحذاء المفتري عليه نتيجة للمفاهيم الخاطئة التي يتم تفسيرها علي أساس بعض المعاني الدونية التافهة التي تدل علي أن الحذاء ليست له أية قيمة علي الإطلاق ؟! وهذا غير صحيح …. أيضا علي الإطلاق !!
الحذاء مثله مثل أي قطعة من الملابس التي يرتديها الإنسان ليس فقط لستر عريه منذ أن صنع الله أقمصة من جلد لآدم وحواء , ولكن أيضا لكي تحميه من العوامل الجوية والبيئية المحيطة به , ومنذ أن كان علي آدم أن يأكل بعرق وجهه , لذلك فقد كان عليه أن يتسلح في مواجهة هذه العوامل بكل ما يتاح له من أدوات وملابس , ونظرا لطبيعة الأرض الصخرية التي يمشي عليها , ولوعورة الطرق التي كان يسلكها , وأيضا لوجود الجبال والمرتفعات التي كان عليه أن يتسلقها , لذا فقد كان عليه أن يجد ويبتكر وسيلة أو أداة ما يغطي بها قدميه , ومن هنا كانت فكرة الحذاء منذ الأيام الأولي لخلقة الإنسان علي الأرض؟!
وفي أيامنا هذه فإنك إذا دلفت إلي أي متجر لبيع الأحذية الحديثة فقط لكي تلقي نظرة علي الأنماط المعروضة فإنك ستجد مجموعة من الأشكال والموديلات المثيرة للانتباه والتي لا أول لها ولا آخر من حيث التصميم والألوان والأحجام والأسعار !! كما ستجد أنماطا أخري من عائلة الحذاء مثل الصندل والخف والقبقاب ؟!! ولك أن تعرف أيضا أن كلا من هذه النماذج والأنماط قد عرفت منذ عشرات الآلاف من السنين وقد تطورت إلي أن أصبحت علي شكلها الحالي الذي تراها عليه الآن!!
في الواقع فإن تاريخ الحذاء هو تاريخ ضارب في أعماق الزمن ومنذ بدء الخليقة , ونجد أن الرب عندما تكلم مع موسي النبي قال له : اخلع حذاءك من رجليك , لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة خروج 3 : 5 وفي تفسير هذه الآية يقول القمص تادرس يعقوب ملطي : ( كانت الأحذية في القديم تصنع من جلد الحيوان الميت , وكأن الله بوصيته هذه يطلب منا أن نخلع عنا محبة الأمور الزمنية الميتة . ولأن الحذاء أيضا كان يدل علي العظمة والكبرياء , لذلك فإن خلع الحذاء قبل الدخول إلي الهيكل في الكنيسة يعني الاتضاع والانسحاق أمام الرب . )
وقد وجدت بعض الوثائق الهندوسية التي يرجع تاريخها إلي آلاف السنين تنبه علي المصلين أن يخلعوا أحذيتهم قبل الدخول إلي المعبد وذلك لإظهار التواضع والتقوي . ومن المعروف أن المسلمين أيضا يخلعون أحذيتهم قبل الدخول إلي المسجد لأداء الصلاة .
والحذاء له مدلولات كثيرة تنم عن الوضع الاجتماعي للأفراد علي مختلف مستوياتهم , ففي أيام الفراعنة كان الصندل يدل علي رتبة ومقام الذي يرتديه , كما كان العبيد لا يرتدون الصنادل ذلك لأن سادتهم كانوا يفرضون عليهم أن يسيروا وهم حفاة الأقدام حتي لا يبدو وكأنهم مساويين لهم !! وكانت المرأة الأرستقراطية في اليونان القديمة تمتلك ما لا يقل عن عشرين زوجا من الأحذية ترتدي منها ما يتلائم مع كل مناسبة , وكان هناك عبيد وظيفتهم فقط هي حمل الأحذية الخاصة بسيدات الأسر الأرستقراطية !!
في الصين جرت العادة منذ قرون بعيدة علي ربط قدمي المرأة وذلك لإبقاء حجمهما صغيرا !! كما أن قدمي المرأة المربوطتان كانت علامة علي إخلاصها لزوجها ذلك لأنها لم تكن تستطيع أن تتركه وترحل بعيدا بمفردها أما في الغرب فإن الأحذية لها مكانها المميز في احتفالات الزواج في المجتمعات المختلفة منذ قرون عديدة . أيضا فقد كان علي والد العروس أن يلقي بحذائه علي العروسين للدلالة علي نقل السلطة من الأب إلي الزوج !!
وفي الاحتفالات الأنجلوساكسونية كانت الأحذية لا غني عنها في مراسم الزواج كما أن خاتم الزواج هو اليوم لا غني عنه , فبدلا من تبادل خاتمي الزواج بين العريس وعروسته , فقد كانت العروس تعطي حذائها لزوجها علامة علي موافقتها علي الزواج منه !!!!
هذا قليل جدا من الكثير جدا عن تاريخ الحذاء الذي يمكن أن تكتب عنه كتب بأكملها ولا أبالغ عندما أقول مجلدات !! لأن رحلة الحذاء عبر القرون والأزمان وبين مختلف الشعوب والحضارات هي رحلة طويلة جدا حفلت ومازالت تحفل بكل ما هو يدعو للدهشة والاستغراب !! هذا الحذاء المسكين الذي ظلمه كل من السيدين منتظر الزيدي ومشعان الجبوري , الأول عندما قذف به الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش , والثاني عندما هدد به مجدي خليل علي الهواء مباشرة في برنامج الاتجاه المعاكس ؟!
وللأسف فإن كلا منهما قد ظلم الحذاء باعتباره من المعاني الدونية التافهة التي تدل علي أن الحذاء ليست له أية قيمة علي الإطلاق ؟! وهذا غير صحيح أيضا علي الإطلاق!!