عندما يدعو الرئيس الأمريكي علي لسان وزيرة خارجيته السيدة هيلاري كلينتون إلي مفاوضات مباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين تحت رعاية الولايات المتحدة, وكذلك الرباعية الدولية الممثلة بالاتحاد الأوربي وروسيا والولايات المتحدة والأمم المتحدة, فهذا أمر جدير بالاهتمام والتحليل لما في طياته من معان ورسائل إن لم تفدنا في فهم هذه الجولة فقد تفيدنا في الجولات القادمة. دعوة الولايات المتحدة الأطراف للتفاوض المباشر علي أرضها في هذا التوقيت وتحديد سقف التوصل إلي اتفاق لمدة عام واحد, بعد مضي ثمانية عشر شهرا علي وجود باراك أوباما في البيت الأبيض, تعني أول ما تعني أن الرئيس الأمريكي متفائل باحتمالية التوصل إلي اتفاق يؤمن له دخول الانتخابات الرئاسية بطمأنينة, فبمرور عام من الآن ستكون الحملة الأمريكية للانتخابات الرئاسية في عزها.
دخول الرئيس الأمريكي إلي مثل هذه المقامرة السياسية يجعلنا نأخذ الأمر بجدية أكثر مما لو كان الأمر علي غرار مؤتمر أنابوليس أيام إدارة الرئيس جورج بوش الابن. هذا علي مستوي الرؤية الاستراتيجية الواسعة, أما علي المستوي التكتيكي للصراع العربي الإسرائيلي وما توصل إليه المفاوضون حتي اللحظة, فهناك إشارات إيجابية يجب أن تؤخذ في عين الاعتبار أيضا.
أولي هذه الإشارات هي أنه لا بد أن لدي الولايات المتحدة ثقة بنسبة ولو 70% بأن هذه المفاوضات قد تصل بالفعل إلي حل خلال السقف الزمني المحدد لها, وهو عام واحد من بدء انطلاقتها.
الإشارة الثانية هي أن رحلات ميتشل المكوكية للشرق الأوسط, مضافة إلي المفاوضات غير المباشرة, أقنعت الرئيس الأمريكي ووزيرة خارجيته, وربما مجلس الأمن القومي, بأن ثمة صفقة يمكن تحقيقها خلال عام واحد تساعد الرئيس الأمريكي علي دخول الانتخابات الرئاسية مسلحا بانتصار تاريخي. فالمعروف عن جورج ميتشل قدرته علي التوصل إلي اتفاق في النزاعات الممتدة, مثلما حدث في آيرلندا الشمالية والمصالحة التاريخية بين منظمة شين فين المتمردة والحكومتين البريطانية والآيرلندية.
الإشارة الثالثة هي أن لدي أوباما مسودة أو تصورا للحل النهائي يكاد يكون مقبولا لكل الأطراف, فمقابلات باراك أوباما مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبومازن) ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وكذلك بعض القادة العرب الذين التقاهم سواء في بلدانهم أو في البيت الأبيض, قد تكون جعلت التصور الأمريكي للحل أقرب إلي المتوسط الحسابي لمجموعة وجهات النظر التي تم تداولها في اللقاءات بين الرئيس الأمريكي والأطراف المؤيدة للفلسطينيين من ناحية, وإسرائيل ومؤيديها من ناحية أخري.
الإشارة الرابعة هي أن ثمة اتفاقا بين إسرائيل والولايات المتحدة علي مجموعة مصالح مشتركة في المنطقة, أهمها استقرار الخليج كمصدر للطاقة, ومنع إيران من الوصول إلي القنبلة النووية, وكذلك السلام مقابل أسواق الخليج, أي أن التوصل إلي سلام سيفتح أمام إسرائيل أسواق الخليج في العلن, ويقوض قدرة إيران النووية.
الإشارة الخامسة تخص دعوة كل من الرئيس المصري حسني مبارك والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني, فهي دعوة يمكن تسميتها بالتطعيم أو اللقاح المضاد ضد فشل اتفاق كلينتون – عرفات عام 1998, حيث توصل الراحل ياسر عرفات والإسرائيليون إلي اتفاق برعاية الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون, ولكن ما إن وصل عرفات إلي غزة وعلي مدرج الطائرة حتي رفض الاتفاق. التفسير الأمريكي لهذا التغير المفاجئ في موقف عرفات كان هو أن بعض القادة العرب أقنعوا عرفات بأنه لن يكون قادرا علي تسويق ما اتفق عليه, وبالتالي من الأفضل له أن يرفض الاتفاق ويدعو إلي انتفاضة تجعله زعيما, وبالفعل فعل عرفات ذلك. لذلك تعلم الأمريكيون الدرس جيدا, فهم اليوم يريدون مصر والأردن ومن خلفهما الدول العربية التي لم توقع اتفاقات مع إسرائيل أن تكون ضامنة للسلوك الفلسطيني وكذلك للتوقيع الفلسطيني علي أي مسودة اتفاق, أي تريد الولايات المتحدة من هذه الدول العربية أن تكون شاهدة وضامنة. فإذا ما توصل الإسرائيليون والفلسطينيون إلي اتفاق فإن أمريكا تضمن توقيع إسرائيل وسلوكها, بينما تكون مصر والأردن الضامنتين للتوقيع الفلسطيني, أي تضمنان بأن الفلسطينيين لن يخلوا بمبادئ الاتفاق.
الإشارة السادسة موجهة إلي إسرائيل, وهي تقول إن العالم كله بما فيه الاتحاد الأوربي وروسيا سيذهب إلي مجلس الأمن من أجل إعلان الدولة الفلسطينية, وإنه من الأفضل لإسرائيل التوصل إلي حل مع الفلسطينيين ولو علي اتفاق منقوص, كبديل لما يراه الأوربيون تعنتا في السلوك الإسرائيلي, وأن المكاسب التي ستتحقق لإسرائيل من خلال اتفاق ترعاه أمريكا ستكون أكبر من أي مكاسب يمكن أن تتحقق لها تحت رعاية الأمم المتحدة.
رغم كل هذه الإشارات الجديرة بالاعتبار, والتي توحي بأمل كبير في نجاح المفاوضات, فإن تاريخ التفاوض من أوسلو حتي واي ريفرز وأنابوليس لم ينجز شيئا ملموسا يجعل القادة العرب, والفلسطينيين منهم, قادرين علي تسويق مسألة الصلح الشامل مع إسرائيل لشعوبهم. وقد شرحت وجهة نظري فيما يخص هذا التشاؤم, في مقال عنوانه من سلام الشجعان إلي سلام فياض, قلت فيه إنه منذ الثالث عشر من ديسمبر 1988, عندما أطلق عرفات مبادرته المعروفة بـسلام الشجعان, مضي الفلسطينيون والعرب لمدة أكثر من عشرين عاما في مسلسل مكسيكي ممل لينتقلوا من سلام الشجعان إلي المحادثات غير المباشرة والمباشرة, من دون تحقيق نتيجة تذكر.
لن يكون هناك اتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلا إذا كانت هناك قوة حقيقية تحمي ظهر الفلسطينيين بدلا من المنافسة علي لعب دور بين الدول العربية الصغيرة منها والكبيرة.
يستطيع الفلسطينيون تحقيق اختراق في المباحثات القادمة لو كان العرب علي قلب رجل واحد فيما يخص دعم الرئيس الفلسطيني محمود عباس بدلا من انقسامهم إلي فريق يدعم حماس وآخر يدعم فتح. الانقسام الفلسطيني, بصراحة, ليس انقساما داخليا كما يتصور البعض, ولكنه انقسام عربي في المقام الأول وإقليمي في المقام الثاني. الموقف الفلسطيني المفاوض سيختلف تماما لو أن المفاوض الإسرائيلي متأكد, ومعه الولايات المتحدة, من أن العرب يقفون وراء محمود عباس, يقاطعون إذا قاطع ويكافئون إذا لقي ترحيبا. ولكن مع الأسف, إسرائيل اليوم لديها علاقات مع معظم الدول العربية, البعض منها سلام رسمي معلن كما في حالتي مصر والأردن, والباقي تحت الطاولة حيث تدخل البضائع الإسرائيلية إلي السوق العربية تحت مسميات مختلفة. وأكبر التجار مع إسرائيل هم الدعاة ضد التطبيع علي الهواء. حتي هذه اللحظة لا يأخذنا العالم مأخذ الجد, فلنتخذ موقفا مثل الذي اتخذه الملك الراحل فيصل بن عبد العزيز, رحمه الله, موقفا جادا يجعل العدو قبل الصديق يفكر جديا في ما يريده العرب. أما الآن فلدينا وضع يجعل الفلسطينيين يدخلون المفاوضات ضعفاء, وحتي إذا ما توصلوا بعد جهد جهيد إلي حل مقبول, فستجد من الدول العربية من ينصحهم بعدم قبوله لأن الشعب الفلسطيني والعربي والمسلم لا يريد سلاما أقل من سلام الشجعان.