في يوم 16 مارس استضافتني المذيعة اللبنانية ماريا معلوف في برنامج عن محاكمة البشير, وظهر في البرنامج رضوان المصمودي, رئيس مركز الإسلام والديموقراطية في واشنطن, مدافعا عن البشير ومبررا ذلك بوجود ازدواجية في المعايير الدولية بعدم محاكمة الإسرائيليين, وقال ## أين محكمة الجنايات الدولية مما حدث في غزة…الذي أغضب العرب والمسلمين هي العدالة المزدوجة##. العجيب أن رضوان المصمودي الذي دافع عن مجرم هارب من العدالة هو نفسه كان أحد الرعاة الرسميين للخطاب الذي وقعه أكثر من 80 مثقفا في أمريكا, وأرسل للرئيس أوباما يوم 4 مارس مطالبا إياه بدعم الديموقراطية في الشرق الأوسط وعدم الهلع من فوز الإسلاميين بالحكم هناك.
الإسلاميون ضميرهم حساس جدا لما يقع علي المسلمين من مظالم في العالم كله بينما يغضون البصر عما يقع علي غير المسلمين من اضطهادات في الدول الإسلامية. ولهذا لم أستغرب مساندة كافة المنظمات الإسلامية للبشير, ولم يشذ من الإسلاميين سوي حسن الترابي لثأر شخصي من البشير شريكه السابق في الحكم والظلم والإرهاب.
بمجرد تقديم المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مذكرته للمحكمة في 14 يوليو 2008 مطالبا بمحاكمة البشير , هاجت المنظمات الإسلامية وماجت وولولت واتهمت المدعي العام والمحكمة بل والعدالة الدولية بكل نقيصة , بل ويا للعجب زارت وفود من هذه المنظمات السودان لا لتضميد آلام الضحايا , كما تفعل المنظمات التي يتهمونها بالكفر, بل لتبرئة البشير.وقال تقرير منظمة المؤتمر الإسلامي وتقرير الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين , إن حكومة البشير لم ترتكب جرائم في دارفور, أي أن 300 ألف شخص قتلوا أنفسهم بأنفسهم في دارفور وحوالي 2 مليون ونصف المليون مشردين في مخيمات اللاجئين هم الذين شردوا انفسهم… يا لها من تقارير ظالمة وكاذبة!!.
لم تكتف المنظمات الإسلامية والشخصيات الإسلامية المعروفة بتبرئة البشير , وإنما نشرت بيانات نارية ضد المحكمة والعدالة الدولية ومارست هوايتها المفضلة في الحديث عن المؤامرة الصليبية الصهيونية ضد العالم الإسلامي. في خطبة الجمعة يوم 7 مارس قال الشيخ يوسف القرضاوي ## إن اتهام الرئيس السوداني بارتكاب جرائم حرب في دارفور من الأكاذيب##, مذكرا بأنه ترأس وفدا من اتحاد علماء المسلمين سافر إلي دارفور لتقصي الحقائق فيما حدث علي أرض الواقع, وقال إنه لم يجد ما زعمه الغرب من جرائم في الإقليم. واتهم القرضاوي ما وصفه بأطراف يهودية وصليبية بتعمد إشعال النار بين السودانيين, بل ووصف القرضاوي قرار المحكمة باعتقال البشير بالجريمة, مطالبا المسلمين بالوقوف ضد القرار.
أما رابطة العالم الإسلامي فقد نشرت بيانا يطالب المسلمين بالتضامن مع السودان بإلغاء قرار المحكمة الجنائية بشأن توقيف الرئيس البشير, وقال عبدالله بن عبد المحسن التركي, الأمين العام للرابطة ## إن رابطة العالم الإسلامي تدعو المسلمين في العالم للتضامن مع هذا البلد الإسلامي الذي تحاك المؤامرات لتمزيق وحدته##.
ولم تكتف منظمة العالم الإسلامي بتبرئة البشير في تقريرها وإنما أصدرت بيانا يدين قرار المحكمة الجنائية الدولية ويتهمها بتبني المعايير المزدوجة فيما يتعلق بمسالة إحقاق العدالة, وزار الأمين العام للمنظمة أكمل الدين إحسان أوغلو السودان لمساندة البشير ضد التهم الموجهة إليه.
أما اتحاد علماء المسلمين فلم يبرئ البشير فقط في تقريره ولكن أدان بشدة قرار المحكمة معتبرا إياه ##عدوان علي القانون الدولي تمليه أهواء سياسية##.
وكتب رئيس المنظمة الإسلامية للعلوم والثقافة, عبد العزيز بن عثمان التويجري , في صحيفة الحياة مقالا جاء فيه ## إن قرار المحكمة بحق الرئيس البشير هو ثمرة لتدخلات وضغوط استعمارية واضحة, كانت لإسرائيل ومناصريها, اليد الطولي فيها, والهدف منها لم يعد خافيا, فهو تقسيم السودان وإضعافه في مسلسل التآمر علي العالم الإسلامي وتفتييت دوله إلي دويلات صغيرة علي أساس عرقي وطائفي وديني..إن استهداف القوي الاستعمارية الصهيونية للسودان, يخدم مصلحة إسرائيل في المقام الأول…فهل تتحرك منظمة المؤتمر الإسلامي لإجهاض هذه المؤامرة الصهيونية قبل فوات الأوان؟##.
وأرسلت جماعة الإخوان المسلمين اثنين من أعضائها بمجلس الشعب المصري وهما مصطفي عوض الله والشيخ سيد عسكر لإعلان تضامنها مع البشير ضد المحكمة, ووجه المرشد العام مهدي عاكف نداء للدول العربية والإسلامية لكي تنسحب من المحكمة الجنائية الدولية دفاعا عن الإرادة العربية والإسلامية في مواجهة تركيع الأمة وابتزاز الحكومات والأنظمة علي حد قوله. وقال محمد مرسي عضو مكتب الإرشاد إن القرار موجه ضد الشعوب العربية والإسلامية , وأن العدو الصهيوني يقف وراءه. ووصف عصام العريان القرار بأنه من الأدوات الاستعمارية للمنطقة, وأن الأدوات الاستعمارية زاد عليها بالإضافة إلي القوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية والحصار الدبلوماسي , مذكرات الاعتقال خاصة في الدول التي تنتهج أو تقترب إلي النهج الإسلامي.
أما الجماعة الإسلامية فقد قالت عن القرار علي موقعها ## هذا القرار الفاجر الظالم مثالا علي البلطجة الدولية##, ودعت مسلمي العالم لكي يتحدوا لإنقاذ البشير من الإخطبوط الصليبي الصهيوني.
وخاطب أيمن الظواهري الشعب السوداني قائلا ##أنتم مستهدفون لكي يتم القضاء علي الإسلام في السودان…فاستعدوا لحرب شوارع طويلة لأن الحرب الصليبية المعاصرة أظهرت مخالبها وكشرت عن أنيابها لكم##.
ووصف محمد سليم العوا, الكاتب الإسلامي والأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين, ما جاء بتقرير المدعي العام بأنه أكاذيب , حيث لا يوجد دليل علي اتهام حكومة السودان أو البشير. ووصف القضاء الأجنبي بأنه الحلقة الأولي لعودة الاحتلال لبلادنا.
أما أغرب ما قرأت فهي تصريحات رئيس جهاز المخابرات السوداني صلاح عبد الله قوش الذي هدد بأن الخرطوم ستعود إلي نهجها المتطرف السابق في حالة توقيف البشير, وقال ## كنا إسلاميين متطرفين وصرنا معتدلين متحضرين نؤمن بالسلام والحياة للجميع, ولكننا إذا دعت الضرورة فسنعود لما كنا عليه, وما أيسر ذلك علينا##!!, ولم يقل لنا وماذا عن الجرائم التي ارتكبوها عندما كانوا متطرفين أو بالأحري إرهابيين؟ وهل تسقط هذه الجرائم الفظيعة بالتقادم؟
هذه عينات من كم هائل من الكتابات الإسلامية التي تلعن الغرب والعدالة الدولية وتتحدث كالعادة عن مؤامرة صليبية صهيونية ضد العالم الإسلامي وضد البشير, وفي نفس الوقت تصور البشير علي أنه قديس يصوم الاثنين والخميس ويحفظ القرآن ويصلي الفجر حاضرا… ويحيا حياة المتصوفين والنساك!!.
وليس لي تعليق سوي القول بأن هناك أزمة أخلاقية وضميرية وإنسانية خطيرة في التفكير العربي تجعل تحقيق العدل في هذه الدول ضربا من الخيال, وتسهل مهمة الحكام الطغاة الظلمة, وتحتقر الروح الإنسانية.
[email protected]