تواجه الأحزاب والحركات الإسلامية المعتدلة الفاعلة في العالم العربي والتي تبنت المشاركة في الحياة السياسية الرسمية كخيار استراتيجي رئيسي سلسلة من الإشكاليات الأيديولوجية والتكتيكية المرتبطة من جهة بمدي كون هذه الأحزاب والحركات في خطاباتها وبناها التنظيمية ديموقراطية حقا, ومن جهة أخري بحدود التزامها بالمعايير والإجراءات الديموقراطية حين ممارستها العمل السياسي.
علي الصعيد الأيديولوجي ثمة تنازع حقيقي في الأحزاب والحركات الإسلامية بين الإيمان بأن التشريع الناظم لترابطات الدولة والمجتمع والمواطن ينبغي أن يستند إلي كلمة الله, أي أن يلتزم بالشريعة, وبين الفكرة المدنية الذاهبة إلي أن القوانين في النظم السياسية الديموقراطية أو تلك التي تسعي إلي التطور في هذا الاتجاه تسن علي أساس حكم الغالبية من قبل برلمانات ينتخبها المواطنون بحرية. وواقع الأمر أنه لا يمكن لأحزاب أو حركات تصف ذاتها بالإسلامية أن تتخلي عن الشريعة كأساس للتشريع إن هي أرادت الاحتفاظ بدرجة من المصدقية في الفضاء العام وبين قواعدها الشعبية. وفي الوقت نفسه لا يمكن لحزب أن يسمي نفسه ديموقراطيا ويجهد لإيصال مرشحيه إلي البرلمان ويضغط مع آخرين في المعارضة لإقامة نظم سياسية منفتحة من دون قبول منطق التعددية والاعتراف بحكم الغالبية وآلياته بوصفه قاعدة ملزمة.
يرتب مثل هذا التوتر بين الرؤية الدينية والفكرة الديموقراطية, وهو إلي اليوم لم يجد حلا شاملا لدي أي حزب أو حركة إسلامية في العالم العربي, تبلور واستمرار صراع أيديولوجي وسياسي متواصل داخل هذه الأحزاب والحركات بين العقائديين الذين يحاولون باستمرار توسيع المساحة المخصصة للشريعة في النظم القانونية والقضائية لبلدانهم وبين البراجماتيين الذين يفضلون تأويلات أكثر ليبرالية لما تعنيه الدولة القائمة علي الشريعة. بيد أن التنازع بين الرؤية الدينية والفكرة الديموقراطية لا يقتصر فقط علي مسألة الشريعة, بل يتعداه إلي حدود دور الدين في الفضاء العام ومعضلة القبول بمبدأ التعددية خارج السياق السياسي وبخاصة في مجالات حرية المعتقد والفكر والتداخل بين العمل الدعوي والعمل السياسي في التشكيلات التنظيمية للإسلاميين وما يترتب عليه من خلط جلي بين خطاب الهوية وخطاب التدبير (أي المعني بأجندات السياسات العامة) في ممارساتهم.
علي الصعيد التكتيكي – الحركي تجد الأحزاب والحركات الإسلامية نفسها مرغمة علي إعادة النظر في التزامها المشاركة في العملية السياسية الرسمية بشكل دوري. فهي تعمل في دول لا تلتزم نخبها الحاكمة بالمعايير والإجراءات الديموقراطية بل توظف كل الوسائل السلطوية الممكنة كي لا يتنامي الوزن الانتخابي ودور المعارضات. ولذا فإن علي الإسلاميين, علي غرار كل حركات المعارضة الأخري, أن يقرروا ما إذا كانت المشاركة في الانتخابات علي تنوع مستوياتها, رئاسية وتشريعية ومحلية, ذات جدوي أو أن احتمالية التلاعب بإداراتها ونتائجها ومن ثم تزييف إرادة الناخبين حاضرة إلي درجة لا تعود معها المنافسة الانتخابية خيارا عمليا. وتتفاقم هذه الإشكالية في حالة الإسلاميين لأن النخب الحاكمة تخشاهم أكثر من خشيتها لخصومها الليبراليين واليساريين وهو ما يعني وضع قيودا وعقبات إضافية علي طريق الأحزاب والحركات الإسلامية.
وحقيقة الأمر أن قرار المشاركة في الانتخابات في ظل هيمنة نخب حاكمة سلطوية وشبه سلطوية ينطوي علي العديد من المخاطر التكتيكية. إذ عبر المشاركة في ظل ظروف لا توفر سوي الحصول علي نتائج انتخابية ضعيفة, تخاطر الأحزاب والحركات الإسلامية بإضعاف مواقعها لأن النتائج ستقدمها كونها قوي هامشية وغير نافذة. كما تخاطر أيضا بتنفير مجموعات واسعة من قواعدها الشعبية تشكك في جدوي الانتخابات والمشاركة في الحياة السياسية الرسمية استنادا إلي حجج أيديولوجية وتري في القيود المفروضة علي الحركات الإسلامية دليلا بينا علي أن المشاركة استراتيجية خاسرة. ويتواكب مع ذلك كون التحولات الداخلية التي حدت بالكثير من الإسلاميين إلي تفضيل المشاركة في الحياة السياسية الرسمية لم تتم من دون خلافات وصراعات كبري بين قياداتهم وكوادرهم وبقيت في معظم الأحزاب والحركات قطاعات من القيادة وبين الكوادر متحفظة علي المشاركة ومتحسبة لمخاطرها. هؤلاء يتعاظم نفوذهم التنظيمي وترتفع أصواتهم الناقدة كلما تبدت محدودية حصاد المشاركة. بيد أن الانتخابات تمنح الإسلاميين فرصة فعلية للتأكيد علي أنهم ملتزمون بالمعايير والإجراءات الديموقراطية, علي رغم تعسف النخب الحاكمة وأنهم ليسوا مجرد ديموقراطيين مخلصين فقط حين يمكنهم تحقيق مكاسب. كذلك تهدد مقاطعة الانتخابات الإسلاميين بحرمانهم من الوجود في بعض ساحات الفعل السياسي المرتبطة بالمجالس التشريعية والمحلية ومن ثم فقدان إمكانية التأثير وإن علي نحو محدود في الشأن العام وكيفية إدارته.
ثمة معضلة تكتيكية أخري يواجهها الإسلاميون المشاركون في الحياة السياسية الرسمية تتعلق بعدد المرشحين الذين يدفعون بهم لخوض الانتخابات. نظريا وعلي غرار كل أحزاب وحركات المعارضة, يتعين علي الإسلاميين السعي للفوز بأكبر عدد ممكن من مقاعد المجالس المنتخبة. بيد أن واقع السياسة العربية ينبئ بأن عليهم ألا يحصدوا عددا كبيرا من المقاعد وبكل تأكيد ألا يفوزوا بالانتخابات. وقد قدمت خبرة الجزائر سنة 1991 والتجربة الفلسطينية في 2006 مثالين تحذيريين لما يمكن أن تسفر عنه نجاحات الإسلاميين الانتخابية. ففي حين أدي انتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر إلي إلغاء الانتخابات واستيلاء الجيش علي السلطة, رتب نجاح حماس المفاجئ في الانتخابات الفلسطينية سلسلة من ردود الأفعال السلبية توجت بمقاطعة دولية وبمواجهات مستمرة حتي اليوم بين فتح و حماس. ونتيجة لذلك, تتسم مشاركة الإسلاميين في الانتخابات بالحذر الشديد وبنزوع نحو قبول حتمية تقليص عدد مرشحيهم ومن ثم إبعاد شبح الحكومات الإسلامية القادمة عن طريق صناديق الاقتراع.
فعلي سبيل المثال, قدم الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين الأردنية, (جبهة العمل الإسلامي), 36 مرشحا لـ80 مقعدا في انتخابات البرلمان الأردني سنة 1993 و30 مرشحا لـ110 من المقاعد في سنة 2003 و22 مرشحا لذات العدد في .2007 وقلصت جماعة الإخوان المسلمين المصرية في الانتخابات التشريعية سنة 2005 عدد مرشحيها أيضا وقدمت مرشحين مستقلين في 144 من أصل 444 دائرة انتخابية, في حين خاضت الجماعة انتخابات مجلس الشوري في 2007 بتسعة عشر مرشحا لـ88 مقعدا. أما في المغرب, فقد دفع حزب العدالة والتنمية في انتخابات برلمان 2002 بمرشحين في أكثر من نصف الدوائر الانتخابية بقليل, قبل أن يعود ويقدم مرشحين في 94 دائرة انتخابية من أصل 95 في انتخابات .2007 ورغم هذه القيود التي تفرضها الأحزاب والحركات الإسلامية ذاتيا علي مشاركتها الانتخابية, تظل مخاوف وهواجس النخب الحاكمة وبعض المعارضات الليبرالية واليسارية من الإسلاميين, وكأن عليهم أن يجعلوا من خسارة الانتخابات عنوانا رئيسا لدورهم في الحياة السياسية.
* باحث بمعهد كارنيجي للسلام