في بدايات الشهر الجاري نظمنا في مركز كارينجي للشرق الأوسط (بيروت) ورشة عمل مع مجموعة من قيادات وبرلمانيي الحركات الإسلامية الفاعلة في العالم العربي تناولت بالنقاش حصاد وأزمة مشاركتهم السياسية السلمية. تمثلت في الورشة أحزاب العدالة والتنمية المغربي و حركة مجتمع السلم الجزائرية وكذلك جماعة الإخوان المسلمين المصرية وحزب جبهة العمل الإسلامي الأردني و التجمع اليمني للإصلاح و جمعية الوفاق البحرينية و الحركة الدستورية الإسلامية بالكويت, ودارت نقاشاتها حول محورين, من جهة أولي تقييم خبرات المشاركة الانتخابية والعمل البرلماني للإسلاميين وتداعياتها علي الحياة السياسية وعلي علاقة أحزابهم وحركاتهم بنخب الحكم والمعارضات غير الدينية ومن جهة ثانية فهم طبيعة العلاقة بين العمل الدعوي والاجتماعي – الخيري للإسلاميين ومشاركتهم السياسية وتطور الأنماط التنظيمية لإدارة هذه العلاقة خلال الأعوام الأخيرة.
في المحور الأول, أظهرت نقاشات الورشة أن الأحزاب والحركات الإسلامية وعلي الرغم من إقرار قياداتها بفشلها من خلال الآليات الانتخابية والبرلمانية في دفع الحياة السياسية في بلدانها نحو إصلاحات ديموقراطية ناجعة ما زالت تري في المشاركة الخيار الوحيد للعمل السياسي وتلتزم بها استراتيجيا, وهو ما يعني أن البدائل الأخري المتداولة علي هوامش بعض هذه الأحزاب والحركات والتي كثر عنها الحديث في الآونة الأخيرة كالانسحاب من الحياة السياسية أو التخلي عن الطابع السلمي للمشاركة لا تحظي داخلها بقبول حقيقي. تتراوح هنا دوافع الالتزام بالمشاركة بين تشديد علي:
1- مركزية الدور الرقابي الذي تضطلع به الكتل البرلمانية للإسلاميين في مواجهة السلطات التنفيذية وأهمية إسهامها المحدود في مناقشة قضايا السياسات العامة في ظل الضعف البين لكل المعارضات الأخري.
2- ضرورة تواجد الإسلاميين الانتخابي علي المستويين الوطني والمحلي بغية التواصل مع قواعدهم الشعبية وخلق مساحة حركية للتعبير عن مطالبهم الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
3- حتمية الاستمرار في تنشئة كوادر الأحزاب والحركات الإسلامية علي الاشتغال بالشأن العام وصقل خبراتها عبر الآليات الانتخابية والبرلمانية.
بالقطع تختلف الأوزان النسبية لهذه الدوافع من بلد إلي آخر, فيبدو الدور الرقابي علي سبيل المثال حاضرا بقوة في مخيلة قيادات جمعية الوفاق البحرينية و التجمع اليمني للإصلاح, والحركتان تقفان من السلطة التنفيذية موقف المعارضة وكذلك بين صفوف الحركة الدستورية بالكويت علي رغم مشاركتها مؤخرا في بعض الحكومات قصيرة العمر. بالمقابل تتميز التجربتان المغربية والجزائرية بطغيان الاهتمام بالتأثير علي السياسات العامة, إن من موقع المعارضة علي المستوي الوطني والتسيير المباشر لعدد من المحليات, كما في حالة العدالة والتنمية المغربي أو من موقع شراكة حركة مجتمع السلم في ائتلاف حزب جبهة التحرير الحاكم بالجزائر كثالث أكبر الكتل البرلمانية (للحركة 51 مقعدا في المجلس الشعبي الوطني) وإدارتها لعدد من الدوائر التنفيذية. أما جماعة الإخوان في مصر وحزب جبهة العمل الإسلامي الأردني, ومع تفاوت وجودهما البرلماني من 88 مقعدا من إجمالي 454 في مصر إلي 6 مقاعد من 110 في الأردن, فيفرض عليهما ظرف المواجهة الصراعية مع نخب الحكم السعي المستمر لاستثمار الحد الأدني من الفاعلية الذي تتيحه لهما المشاركة الانتخابية والبرلمانية والمتمثل في التواصل مع القواعد الشعبية والتعبير المنظم عن مطالبهما.
بيد أن المهم في هذا السياق أيضا هو تواكب الالتزام بالمشاركة كخيار لا رجوع عنه مع بحث الأحزاب والحركات الإسلامية, وإن بصياغات واستجابات متنوعة, عن سبل لإضفاء المزيد من الفاعلية عليها إدراكا منها لأزمتها المرتبطة بمحدودية حصادها لجهة الدفع نحو إصلاح ديموقراطي. العدالة والتنمية المغربي, وبعد تعثره في الانتخابات التشريعية عام 2007 وفيها فقد الحزب 100 ألف صوت انتخابي مقارنة بانتخابات 2002 وإن حصل علي مقاعد برلمانية إضافية (4 مقاعد رفعت عدد مقاعده إلي 46 من إجمالي 324 مقعدا بمجلس النواب) واستبعد مجددا من الائتلاف الحاكم الذي يقوده حزب الاستقلال, يعمل علي الانفتاح علي قطاعات شعبية جديدة أبرزها الطبقة الوسطي المدنية الهوي وعلي سكان المناطق الريفية والتي ظلت تقليديا خارج نطاق جذب الإسلاميين وعلي التقارب مع أحزاب اليسار وفي مقدمها الاتحاد الاشتراكي الشريك في الائتلاف الحاكم. ويمكن هنا التمييز بين ثلاث استراتيجيات يتحرك العدالة والتنمية وفقا لها, هي النزوع نحو إعطاء أولوية مطلقة للسياسات الاقتصادية والاجتماعية في صياغة برامج الحزب علي حساب قضايا الدين والهوية المرتبطة بالمرجعية الإسلامية, وتكثيف اهتمام الفريق البرلماني للحزب بمسألة الإصلاح الدستوري للحد التدريجي من الصلاحيات الواسعة للمؤسسة الملكية وتحقيق التوازن بين السلطات, وبناء الثقة والتحالفات الجزئية مع اليسار استنادا إلي هذين التحولين وعبر الشراكة معه علي مستوي تسيير بعض المحليات.
وتتشابه الحركة الدستورية الكويتية وتيار الوسط في جبهة العمل الإسلامي في الأردن و التجمع اليمني للإصلاح مع إسلاميي المغرب لجهة الرغبة في التركيز علي قضايا الإصلاح الدستوري والتوازن بين السلطات علي النحو الذي برز أخيرا في الخطاب العلني والأداء البرلماني للحركات الثلاث. بينما يستند فعل جماعة الإخوان المصرية و جمعية الوفاق البحرينية, علي الأقل في جزء منه, إلي التأسيس لتوافق مع نخبة الحكم حول شروط وحدود المشاركة السياسية للإسلاميين قد يرتب الخروج من ظرف المواجهة الراهن في مصر أو يضمن المزيد من فاعلية المشاركة البرلمانية لـ الوفاق المعتدلة ويعمق من حال الاستقرار في البحرين بالخصم من رصيد المعارضات الشيعية الرافضة للالتزام بالترتيبات السياسية الحالية. علي النقيض من هذه الاستجابات ذات القراءة الاستراتيجية (شبه الواضحة) وإن تنوعت الوجهة, تعاني حركة مجتمع السلم الجزائرية من صراعات متصاعدة بين قياداتها دفعت خلال الأيام القليلة الماضية إلي انشقاقات داخلية وترتب حالة مستمرة من الجمود الاستراتيجي تكلف الحركة الكثير من وزنها السياسي وتواجدها الشعبي.
دلل المحور الثاني لنقاشات ورشة بيروت مع الإسلاميين, وقد تناول العلاقة بين عملهم الدعوي والاجتماعي – الخيري ومشاركتهم السياسية, علي عمق تباين الخبرات الراهنة للأحزاب والحركات الممثلة ومن ثم مساراتها التطورية في المستقبل. ففي حين تعتمد جماعة الإخوان المسلمين في مصر علي التداخل بين الدعوي والخيري والسياسي لإدارة مشاركتها الانتخابية والبرلمانية ويتماهي معها التجمع اليمني للإصلاح, تنزع الأحزاب والحركات الأخري إلي الفصل الوظيفي بينها. والحقيقة أن التباين هنا لا يعود فقط إلي اختلاف اختيارات الإسلاميين, بل يرتبط بخصائص السياق القانوني والسياسي والمجتمعي الذي ينظم مشاركتهم في الدول المعنية. غياب شرعية الوجود القانوني عن جماعة الإخوان ما زال يباعد بينها وبين البحث بجدية في إمكانات فصل الدعوي والخيري عن السياسي, بل رتبت الطفرة النوعية في مشاركتها السياسية بعد انتخابات مصر التشريعية الأخيرة عام 2005 تعميق التداخل بين المكونات الثلاثة إلي الحد الذي أضحت معه كوادر الجماعة ذات الخلفية الدعوية تشكل الشريحة الأكبر من برلمانييها في مجلس الشعب وباتت الأطر التنظيمية للجمعيات الخيرية التابعة لـ الإخوان والمرخص قانونا لها تلعب الدور الأهم في تحقيق التواصل بين الجماعة وبرلمانييها والقواعد الشعبية. كما أن قوة المكونين الدعوي والاجتماعي في خبرة إخوان مصر وعمقهما الزمني في مقابل الحداثة النسبية للعمل السياسي (يعود لثمانينيات القرن المنصرم) تمثل عوامل إضافية تحول دون المضي في طريق الفصل الوظيفي الذي سار عليه الإسلاميون في الدول الأخري. حصل هؤلاء في المغرب والجزائر والأردن والبحرين والكويت علي الحق القانوني في تأسيس أحزاب وجمعيات تشارك في الحياة السياسية مكنهم بدرجات متفاوتة من إنجاز فصل وظيفي بين الدعوي والخيري والسياسي حرر بالتبعية الدعاة من دنيوية السياسي وساعد ممارسي الأخير علي إعطاء الأولوية لقضايا السياسات العامة وتوظيفها لتغيير مناط ارتكاز مشاركتهم الانتخابية والبرلمانية. بيد أن في النمطين الدامج والفاصل يبقي الإسلاميون, شأنهم في ذلك شأن كل الحركات ذات المرجعيات الأيديولوجية, أسري لتحدي تحقيق التوازن بين ضرورات الإبقاء علي مصداقية اليافطة الدينية كمصدر رئيس لحضورهم الجماهيري وشعبيتهم ولتميز برامجهم من جهة وحتمية الانفتاح علي القطاعات الشعبية غير المهمومة بالشأن الديني والهوياتي إن أرادوا تجاوز حاجز العشرين في المئة الذي وقفت عنده مكاسبهم الانتخابية من جهة أخري.
علي الرغم من أزماتها الكبري ومحدودية حصادها الإصلاحي, تظل النتيجة الأهم لمشاركة الإسلاميين في الحياة السياسية العربية هي النضج التدريجي لأحزابهم وحركاتهم وتطور مساراتها الاستراتيجية والتنظيمية بصورة تضمن التزامها العمل السلمي وتحمي الاستقرار المجتمعي الهش في عالمنا.
* نقلا عن جريدة الحياة اللندنية