ودعت الولايات المتحدة سياسيا محنكا ورجل دولة عاش حياته كلها تحت دائرة الضوء السياسية, فهو الابن الأصغر لأسرة يصفها الكثيرون بأنها العائلة المالكة في أمريكا.
والتعبير الأصح والأدق هو أن نطلق علي أفراد عائلة كنيدي ديمقراطيي أمريكيا _ حذف أداة التعريف هنا متعمد – وذلك نظرا للكيفية التي لعبت بها حياتهم العامة وخسائرهم علي الساحة الكبري من التاريخ الأمريكي وكيف ساعدوا في تشكيل الديمقراطية الأمريكية التي لا تزال تواصل تطورها.
ورغم أن الثروة الشخصية كانت تتيح لأفراد عائلة كنيدي أن يعيشوا حياة مميزة ومترفة, إلا أنهم بدلا من ذلك فضلوا خدمة بلدهم. وبات في الوقت الحاضر اسم كنيدي مرتبط ارتباطا وثيقا ومتلازما لا ينفصم بالتشريعات القوية التي تعزز أوضاع المستضعفين مثل قانون الحقوق المدنية وقانون الأمريكيين المعوقين, وببرامج تشكل مصدر إلهام عظيم مثل فيالق السلام, ودورات الألعاب الأولمبية الخاصة بالمعوقين وبرنامج الفضاء وغير ذلك.
وفي الثلاثين من أغسطس المنصرم أقيمت مراسم العزاء الرسمية لإدوارد كنيدي – الوحيد بين أشقائه الأربعة الذي عاش حياته كاملة- في كل من منتجع العائلة في كيب كود بولاية ماساتشوستس, بكاتدرائية بوسطن, وبالقرب من درجات مبني الكونجرس الأمريكي فيما تم نقل جثمانه ليكمل آخر مشوار له للإنضمام إلي شقيقيه اللذين يرقدان علي مقربة من تلة معشوشبة في مقبرة آرلنجتون القومية.
وكان العضو البارز في مجلس الشيوخ عن ولاية ماساتشوستس وافته المنية يوم 25 أغسطس عن عمر ناهز سبعة وسبعين عاما بعد صراع طويل مع مرض سرطان الدماغ العضال.
وقال الرئيس أوباما في كلمة التأبين التي ألقاها في كنيسة المساعدة الأبدية في بوسطن: ##إننا اليوم نودع أصغر أبناء روز وجوزيف كنيدي. وسوف يتذكر العالم ابنهما إدوارد باعتباره وريثا لتركة هامة وعظيمة; فقد كان بطلا بالنسبة لأولئك الذين لا يملكون شيئا; وكان روح الحزب الديمقراطي; وليث مجلس الشيوخ الأمريكي; كان رجلا يعود له الفضل في سن ما يربو علي ألف قانون وتشريع, وكتب صيغة أكثر من 300 قانون بنفسه.##
وداع رئاسي
ضمت حشود المشيعين الذين تزاحموا في الكاتدرائية لقداس القيامة, وهو القداس الجنائزي الكاثوليكي, شخصيات بارزة شغلت, وبعضها لا يزال يشغل أرفع المناصب في الدولة (رؤساء حاليين وسابقين, وأعضاء مجلس الشيوخ, وحكام ولايات وقضاة) ومبعوثين عن حكومات أجنبية, وأفراد عائلة كندي الكبري التي تتكون الآن من أكثر من 100 شخصية بارزة, وحشد كبير من الأصدقاء الذين تعرف عليهم خلال مشوار حياته المتميز بالدفء والروح المرحة.
يذكر أن العديد من المعزين الذين احتشدوا وتزاحموا علي المقاعد كانوا في وقت ما من أشد الخصوم السياسيين (للراحل كنيدي) أمثال الرئيس الأسبق جيمي كارتر الذي خاض منافسة شرسة ضد السناتور كنيدي علي ترشيح الحزب الديمقراطي لمنصب الرئيس في العام 1980, والرئيس السابق جورج دبليو بوش الذي واجهت سياسته في العراق هجوما عنيفا وغضبا شديدا من قبل كنيدي, ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون التي شعرت بخيبة أمل وإحباط بسبب تأييد كنيدي لباراك أوباما في السباق الرئاسي عام .2008
وقام معظم أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي, الجمهوريون منهم والديمقراطيون علي حد سواء, بهذه الرحلة الشاقة إلي بوسطن لتقديم التعازي والمواساة, بمن فيهم المرشح الجمهوري للرئاسة عام 2008 جون ماكين, والسبب, أنه علي الرغم من الخلافات السياسية والفلسفية بين كنيدي والعديد من زملائه, فقد حملهم عمله الشاق والدؤوب علي احترامه واستحوذت جاذبيته الودودة علي قلوب الكثيرين منهم.
وقال الرئيس أوباما ##إنه في الوقت الذي كان ينظر له أشرس منتقديه باعتباره حاجزا حزبيا يصعق من يحاول اختراقه, ولكن لم يكن ذلك هو مسقط الرؤية الذي كان ينظر تد كنيدي إلي العالم من خلاله, ولا الذي ينظر من خلاله إلي زملائه.## لقد كان نتاجا لعهد حالت فيه بهجة السياسة ونبلها دون أن تقف الخلافات الحزبية والخلافات حول البرامج والفلسفة حجر عثرة أمام التعاون والاحترام المتبادل _ عصر كان ما زال الخصوم خلاله يعتبرون بعضهم وطنيين.
واستطرد يقول: ##وهذه هي الكيفية التي أصبح بها تد كنيدي أعظم مشرع في عصرنا الراهن. فعل ذلك من خلال التشبث بالمبدأ, نعم, ولكن أيضا من خلال السعي من أجل التوصل إلي حلول وسط بشأن القضايا المشتركة – ليس من خلال عقد الصفقات والمساومات وحدها, ولكن عن طريق الصداقة والطيبة, وروح الدعابة.
الرحلة النهائية إلي مجلس الشيوخ
تم نقل جثمان الفقيد عضو مجلس الشيوخ من بوسطن إلي قاعدة أندروز الجوية القريبة من العاصمة واشنطن. ثم شق الموكب الجنائزي بعد ذلك طريقه عبر المدينة, مارا بأمريكيين من جميع الأعمار والأصول والمشارب العرقية المختلفة الذين اصطفوا علي طول الطريق يلوحون بالأعلام, ويلتقطون الصور أو يؤدون التحية في هدوء.
أما علي سلالم الواجهة الشرقية لمبني الكونجرس الأمريكي, فقد تجمع أعضاء مجلس الشيوخ الحاليون منهم والسابقون الذين انضم إليهم موظفو الكونجرس الحاليون والسابقون ينتظرون لساعات طويلة لاستقبال جثمان الراحل في زيارته الأخيرة لمجلس الشيوخ. ورغم أنه لم يتم الإعلان عن هذه الزيارة علي الملأ مسبقا, إلا أنه ما أن ذاع الخبر حتي اكتظت الساحات بآلاف المعزين الذين تجمعوا في الساحة المحيطة بمبني الكونجرس لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة, وللاستماع إلي كلمة قسيس مجلس النواب.
وفي مشهد غلفته حمرة الشفق قبيل الغروب مذكرا بشكل غريب بالأدعية والصلوات التي أديت بجوار قبر عضو مجلس الشيوخ روبرت كينيدي منذ أكثر من أربعة عقود, قامت العائلة والأصدقاء المقربون بمواراة جثمان إدوارد كنيدي الثري بالقرب من مدفن شقيقيه, وسط مراسم عسكرية شرفية تليق به, ووسط تعبير الأمة عن الشكر والامتنان له.
إن الكلمات الفصيحة والبليغة المؤثرة لإدوارد كنيدي, في الخطاب الجياش الذي ألقاه في تأبين شقيقه القتيل والتي كان لها وقع عميق, في عصر الاكتفاء بالجمل القصيرة, هي التي تصلح لأن تكون أفضل تعبير عن حياة الفقيد إدوارد كنيدي نفسه. لأنه هو أيضا مثلما قال عن شقيقه روبرت ##ليس بحاجة إلي تعظيم وتبجيل وتضخيم بعد وفاته أكثر مما كان وهو علي قيد الحياة, إنما يجب أن نتذكره بأنه كان ببساطة رجلا طيبا ومهذبا, كان يري الخطأ فيحاول إصلاحه, ويري المعاناة فيحاول مداواتها, ويري الحرب فيحاول إيقافها.##
##وإننا نحن الذين نحبه وننقله اليوم إلي مثواه الأخير, نصلي ونبتهل بأن كل ما كان يمثله بالنسبة لنا وما كان يتمناه للآخرين سوف يتحقق في يوم من الأيام لشعوب العالم قاطبة.##
##وكما قال مرات عديدة, وفي أنحاء كثيرة من أرجاء هذه الأمة, لأولئك الذين أثر علي حياتهم والذين حاولوا التأثير علي حياته: إن بعض الرجال ينظرون إلي الأمور وهي علي حالها, ثم يقولون لماذا؟ أما أنا فإنني أحلم بأمور لم تكن موجودة إطلاقا فأقول ولم لا؟##.
يو إس جورنال