من الجيد أن ينفتح الفنان التشكيلي علي مجتمعات أخري, ويخرج من بوتقة ثقافته الشخصية.. فهذا من شأنه أن ينعش الحالة الثقافية للفن التشكيلي بصفة عامة, وللفنان نفسه بصفة خاصة.. جاءت هذه الكلمات علي لسان هاني نجل الفنان محمد مصطفي الذي روي تجربة أبيه وعمه كامل مصطفي كفنانين تشكيليين أتيحت لهما الفرصة للدراسة في الأكاديمية المصرية للفنون بروما في الأربعينيات من القرن العشرين.
تعد الأكاديمية العربية واحدة من 17 أكاديمية عالمية للفنون بروما, ولمواكبة الاحتفال بمرور 80 عاما علي إنشائها, تقيم وزارة الثقافة احتفالية ثقافية وفنية كبري قبل نهاية العام الحالي بمناسبة الانتهاء من مشروع تطوير وتجديد مباني الأكاديمية الذي تنفذه الوزارة من خلال إحدي الشركات العالمية بهدف إعداد الأكاديمية كصرح ثقافي وفني مصري طبقا لأحدث المواصفات العالمية.. حتي أن الرئيس مبارك خصص مبلغ مليون دولار لدعم المشروع الذي يتكلف حوالي عشرين مليون جنيه.
يقول د. أشرف رضا مدير الأكاديمية إن المشروع يعتبر نقلة معمارية كبيرة بداية من الواجهات الخارجية المصممة من الستائر الزجاجية العاكسة وبلاطات الرخام المنقوشة بالزخارف الغائرة بالحروف الهيروغليفية.. وأضاف د. رضا أن المشروع يشمل إنشاء أول متحف للآثار المصرية في روما, وقاعات لمعارض الفنون التشكيلية يتم تجهيزها بأحدث أساليب الإضاءة والعرض الفني, وتطوير المكتبة الفنية, بالإضافة إلي قاعة المسرح والسينما التي تتسع لمائتي مشاهد, وتجديد أجنحة ومراسم ضيوف الأكاديمية.
نبتت فكرة إقامة الأكاديمية المصرية الملكية للفنون في ذهن الفنان راغب عياد (1892 – 1982) الذي كان في بعثة تبادلية قام بها أولا زميله الفنان يوسف كامل (1891 – 1971) علي نفقتها الخاصة, حيث استوجبت الفكرة أن يدرس راغب عياد مادة الرسم بدلا من يوسف كامل في مدرسته ويرسل له مصروفات البعثة بجانب عمل راغب عياد كمدرس رسم في مدرسته.. علي أن يعود يوسف كامل بعد عام ليقوم بنفس العمل الذي قام به راغب عياد وهو في بعثته بإيطاليا.. وقد لاقت هذه الفكرة استحسان المسئولين بالحكومة المصرية وقرروا إيفاد الفنانين بالبعثات الفنية علي نفقة وزارة المعارف.
ولاحظ وقتها الفنان راغب عياد اهتمام العديد من الدول الأوربية بإقامة أكاديميات لأبنائها من شباب الفنانين في روما, حيث يجدون مكانا لإبداعهم ورعاية مواهبهم تحت إشراف فنانين متخصصين.. وفي يوليو 1924, كتب راغب عياد خطابا إلي أحمد ذو الفقار وزير مصر المفوض في روما آنذاك, شرح فيه حضارة وتاريخ مصر العظيمة, وأشاد بآثارها, وطلب منه قائلا: أطلب أن تتوسطوا لدي حكومتنا لكي تجعل لنا معهدا علي الطراز الموجود لسائر الحكومات في روما, يضم بين جدرانه الفنانين الذين علي أهبة الاستعداد للالتحاق به, ويكونوا قد أتموا دراستهم الأولية في مدارس مصر.. وبهذا يجدون مجالا للتوسع في تعليم الفنون ومعرفة وقائعها.
لقي هذا التقرير قبول وزير المعارف, وموافقة مجلس الوزراء علي إنشاء أكاديمية بروما أسوة بباقي الدول التي لها معاهد فنية, لتكون مركزا للنابغين من طلاب الفنون الجميلة الذين يوفدون إليها.
وكان مولد الأكاديمية المصرية بروما عام 1929, عندما تم اختيار أول موقع لها علي أطراف حدائق بورجيزي, وبقيت في هذا المكان لمدة عام واحد, نقلت بعده إلي قصر كوللو أوبيو عام 1930, وهو مبني قديم يقع وسط حدائق واسعة -تقع علي أطلال سراي الإمبراطور نيرون- اسمها القبة الذهبية بالقرب من الكولوسيوم.. وعين الفنان سحاب رفعت ألمظ مسئولا عن الأكاديمية, وكان وقتها مبعوثا لدراسة الفنون علي نفقة الملك فؤاد الأول.
في العام ذاته, قدمت البعثة الدبلوماسية الإيطالية بالقاهرة مذكرة للحكومة المصرية ذكرت فيها: أن حكومة صاحب الجلالة ملك إيطاليا مستعدة لمنح مساحة من الأرض في وادي جوليا, حيث توجد مباني معظم الأكاديميات, وذلك لبناء الأكاديمية المصرية, مقابل مساحة أرض تمنح من حكومة صاحب الجلالة ملك مصر لإيطاليا لتقيم معهد لدراسة الحفريات في القاهرة.
عرفت الأكاديمية بأنها مؤسسة حكومية تابعة لوزارة المعارف المصرية الملكية, تتيح للفنانين المصريين المختارين من خلال مسابقة الفرصة للتفاعل مع زملائهم من الجنسيات المختلفة, وليدرسوا في روما التاريخ والأعمال الفنية الكلاسيكية الإيطالية.. ويمكث الموفودون مدة لا تقل عن عامين ينتجون خلالها أعمالا فنية تعرض سنويا في معرض تنظمه الوزارة بالقاهرة.
ويقول هاني محمد مصطفي: كل من درس هناك حدثت له نقلة نوعية مؤكدا أن والده تأثر كثيرا بالدراسة هناك في روما -خاصة بالمدرسة التأثيرية التي كانت مشهورة في أواخر القرن التاسع عشر- حتي أن من رأي أعماله قبل الدراسة في روما وبعدها لا حظ الفرق في التكنيك (التقنية).
وعن تأثير وجود مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة – 1908 – علي إرسال بعثات للأكاديمية المصرية بإيطاليا, قالت الأستاذة نجوي العشري- مشرفة باب الفنون بجريدة الأهرام- أن وجود مدرسة الفنون بمصر أفرز مواهب عديدة تستحق أن تدرس في روما.. ومن أمثال هؤلاء النابغين المتميزين بفنهم, والكلام للأستاذة نجوي, محمود سعيد ورمسيس يونان (رائد السريالية والتجريدية) وصلاح عبدالكريم, والمثال عبد القادر رزق وكل هؤلاء لهم مقتنيات في الأكاديمية المصرية بروما, ومنهم جداريات موزايك للفنان محيي الدين حسين.
وعن البرنامج المقرر دراسته بالأكاديمية, فتم وضعه بواسطة الإدارة العامة للفنون الجميلة بالقاهرة بالإضافة إلي مقررات في اللغة والتاريخ, وجانب كبير من النفقات اللازمة لهؤلاء الفنانين الموفدين إلي روما, خصصها الأمير يوسف كامل كهبة, وهو الذي أنشأ مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة عام 1908, وأنفق عليها حتي عام 1925
ويضيف هاني نجل الفنان محمد مصطفي أنه مع بداية التسعينيات من القرن العشرين, تطور الأمر وبدأت الأكاديمية في استضافة فنانين في جوانب أخري -موسيقيين أو مغنيين أوبرا أو سينمائيين- مع استضافة فرق الفنون الشعبية لتقيم عروض هناك.
ودعا هاني مصطفي للانفتاح علي العالم تشكيليا, سينمائيا, وحتي أدبيا, أسوة بالانفتاح علي روما وفنونها.. ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هل المناخ المحافظ والمتشدد الموجود بمصر يسمح بهذا الانفتاح هنا؟ وجاء رد هاني مصطفي أن النهضة والانفتاح من شأنها أن يحاربا الرجعية بكافة أشكالها.. ولكن لابد من الأساس أن تكون هناك قيادة سياسية تسمح بهذا الانفتاح مثلما حدث في عصر محمد علي الذي تميز عهده بنهضة شاملة.
ويوضح أن وجود الأكاديمية المصرية بروما, وتوسيعها وتطويرها به جانبين أساسين أولهما اكتساب الفنانين والمثقفين خبرات ونقلها عند عودتهم لبلادهم وبالتالي يحدثوا نهضة وعلي الجانب الآخر فهي واجهة للثقافة المصرية -معارض, مهرجانات, وندوات- ومركز متقدم للحوار مع العالم الغربي, وشعاع لربط مصر بالعالم المتقدم. والآن يجب علينا تنشيط مراكز أخري من أجل الهدف ذاته.
إعداد: دنيا وجدي