منذ ما يقرب من سبع سنوات مرت علي غزو القوات الأمريكية, والعراق يمر بفترات عصيبة, ذاق فيها مرارة الحرب والتهب بنيران الفرقة والفتنة الطائفية لأنه -أي العراق- بوتقة لعدد كبير من الطوائف والأصول الدينية المتعددة, وكالعادة في أغلب البلدان العربية فإن الشعب المسيحي يمثل الأقلية, حوالي ثلاثة بالمئة من سكان البلاد البالغ عددهم 27 مليونا غالبيتهم العظمي مسلمون وطالتهم يد الإرهاب عندما بدأت سلسلة من تفجيرات الكنائس عام2004, بالإضافة إلي موجة خطف وقتل لمجموعة من الأساقفة والقساوسة والشمامسة وعلي رأسهم المطران بولص فرج رحو أحد أساقفة الكنيسة الكدانية الكاثوليكية وكان مطرانا في مدينة الموصل العراقية حيث اخطتف وقتل مع ثلاثة من مساعديه الشمامسة.
وطائفة الكلدان الكاثوليك هي أكبر طائفة بالعراق وتمثل 85% من مسيحي العراق ويرأسها الكاردينال عماوئيل الثالث بطريرك بابل علي الكلدان ومقر كرسيه البطريركي في بغداد..وفي مصر التقينا بالخور أسقف فيليب نجم المدبر البطريركي لمطرانية الكلدان الكاثوليك بمصر, والمعتمد البطريركي الكلداني لدي الكرسي الرسولي والزائر والرسولي علي الكلدان في أوربا وأجرينا معه هذا الحوار:
*كيف كان حال المسيحيين قبل الاحتلال الأمريكي للعراق وبعده؟
**من وجهة نظري أري أنه في زمن النظام السابق كانت روح الوحدة الوطنية هي السائدة بين كل الطوائف, المسيحية-وهي متعددة مثل الأرمنية, الكاثوليكية, المارونية والقبطية ولكن أغلبها كلدانية كاثوليكية- والإسلامية, ولم يوجد فرق بين سني وشيعي, أو كاثوليكي وأرثوذكسي فالكل كان يعمل لمصلحة واحدة هي العراق, ومع الافتراض أو التسليم بأن النظام السابق ديكتاتوري لكنه فرض الوحدة الوطنية…أليس ذلك جيدا وفي مصلحة البلد؟!
أما الآن – وكما ترون الحال – فالعراق ممزق, وملئ بالعنصرية وهذا ما حصدته مؤتمرات المعارضة, التي وضعت بذرة الفتنة حتي قبل الغزو الأمريكي, بعيدا عن أعين الإعلام وأجهزة الدولة, والتي كانت أهدافها تقسيم العراق إلي طوائف منفصلة, وذلك من خلال لجان تشكلت من فردين أو ثلاثة من كل طائفة: السنية, الشيعية, التركمانية, الأكراد, وغيرها والمسيحية أيضا بكل طوائفها مثلها شخص واحد فقط لا ينتمي لطائفة الكلدان, ومع دخول قوات الاحتلال سلمت بعضا من زمام الأمور لتلك اللجان العنصرية ومن هنا بدأت الطائفية وحالة الفوضي, ولكن نحن كطائفة كلدانية كاثوليكية لم نشترك في مثل تلك المؤتمرات لأننا ليس لنا تدخل في سياسة البلد الحزبية المعارضة, إنما نعني أكثر بالسياسة الوطنية.
*وما هي أبرز السمات الوطنية لمسيحي العراق؟
**المسيحيون بالعموم والكلدان الكاثوليك بشكل خاص – وبما أنهم الأغلبية – لهم دور وطني إيجابي في تنمية المجتمع العراقي وبنائه وهذا مثبت تاريخيا ولا يستطع أحد إنكاره, وعلي سبيل المثال أغلب المدارس العراقية كانت في أيدي الراهبات الكلدانيات اللاتي ثقفن أبناء العراق من الوزراء والمهندسين والأطباء وذوي المناصب الرفيعة في الجيش العراقي.
*مع استقرار قوات الاحتلال الأمريكي بالعراق ماذا فعلتم؟
**في البداية مع دخول جيش الاحتلال حلت المؤسسات العراقية والجيش العراقي وأصبح العراق في مهب الريح, وكطائفة كلدانية كاثوليكية شكلنا وفدا من الآباء البطاركة والأساقفة بالعراق وأمريكا وكنت معهم, وذهبنا إلي الحاكمبريمر في ذلك الوقت بالقصر الجمهوري, لنعرف مستقبلنا كيف سيكون, وأصابنا الحزن والأسي لشيئين أولهما: عندما أدركنا أنه لا توجد أي خطط مستقبلية في الأفق سواء سياسية أو عسكرية أو اجتماعية, ثانيا: تحسرنا علي القصر الجمهوري – وهو رمز السلطة – عندما رأيناه بحالة متردية من أعمال سرقة ونهب.
ولكننا الآن وفي بارقة أمل أسسنا مجلس الأساقفة لكنيسة العراق بكل انتماءاتها وطوائفها ويرأسه بطريرك الكلدان الكاثوليك – الكاردينال عماوئيل الثالث – ويجتمع هذا المجلس مرتين أو ثلاثة سنويا ليناقش أحوال المسيحيين بالعراق, ويعد البطريرك هو المتحدث الرسمي أمام المسئولين الآن.
*في رأيك هل ظهور الإرهاب في العراق ناتج عن مؤثرات خارجية أم داخلية؟
**نحن شعب نشأ في ظروف حكم معينة لمدة أربعين عاما وعندما جاء الاحتلال انهار هذا النظام تحت اسم إحلال الديموقراطية, ولكن تلك الديموقراطية لن تتأصل في يوم وليلة وأيضا لايمكن أن ترسي مبادئ الديموقراطية دون الحفاظ علي كرامة الإنسان, وهذا ما لم يحدث, فأصبح المجال مفتوحا لكل أشكال الفوضي والإرهاب, ودخلت مؤسسات وأفراد إرهابية إلي العراق, وبمرور الزمن -حتي وصلنا إلي سبع سنين من الاحتلال- نشأت مجموعات إرهابية داخلية, فالفقر المدقع وسوء الحالة الاقتصادية وانهيار الحالة النفسية تولد الكثير من ضعاف النفوس المتعطشة للمال والحياة الكريمة, فانضموا إلي تلك الجماعات الإرهابية التي تؤمن لهم الناحية المادية, ومن هنا بدأت أسوأ سلسلة تفجيرات للكنائس لم يحدث لها مثيل سواء في العهد السابق أو الجمهوري أو الملكي.
*وما هي تلك التفجيرات وهل هناك فترات هدوء؟
**تفجرت أكثر من 20كنيسة من كل الطوائف, ففي عام2004 تعرضت الكنائس في الموصل إلي موجة من التفجيرات طالت عددا منها, حيث انفجرت سيارة مليئة بالمتفجرات بالقرب من كنيسة مار بولص الواقعة في منطقة حي المهندسين, في الأول من أغسطس عام2004, وأسفر انفجارها عن مقتل شخصين وإصابة آخرين بجروح.
وقام عشرات المسلحين بالهجوم علي مطرانية الموصل, وأخرجوا رجال الدين والمصلين منها وزرعوا المتفجرات داخل مبني المطرانية وقاموا بتفجيرها, ونشب حريق داخلها. ومنع المسلحون سيارات الإطفاء من التوجه إلي مكان الحادث وإطفاء النيران. وعثرت قوات الشرطة في أكتوبر2006, علي جثة رجل دين مسيحي مقطوعة الرأس في منطقة حي المحاربين شمال شرق مدينة الموصل, وتم التعرف إليه من خلال ملابسه التي بينت أنه من رجال الدين المسيحي…
وفي عام 2009 تعرضت ست كنائس بالعاصمة العراقية بغداد, إلي سلسلة تفجيرات أسفرت عن سقوط أربعة قتلي علي الأقل وأكثر من 32 جريحا, وقد تسود بعض فترات الهدوء إلا أنه بعد كل فترة هدوء تعود الضربات أقوي من ذي قبل ولذلك بدأت حركة الهجرة في الازدياد.
*الهجرة إلي أين وما مشاكلها؟
**اتجه مئات الآلاف إلي أوربا وأمريكا وأستراليا كلاجئين فنحن لدينا إيبارشيتان في أمريكا وإيبارشية في أستراليا وعدد من الكنائس في كندا وأوربا, واتجه أيضا بعض الآلاف إلي البلدان العربية ومن بينها مصر ولكنهم يواجهون بعض مصاعب في الإقامة, وبما إني أيضا الزائر الرسولي علي الكلدان في أوربا فقد لمست المشاكل التي يواجهونها من صعوبة اندماجهم في المجتمع وضيق مصادر رزقهم, وقلة الكنائس الخاصة بالطائفة الكلدانية خاصة وإنهم معتزون جدا بانتماءاتهم الدينية الشرقية التي يصعب تغييرها, ولكن نشكر بعض الإيبارشيات بألمانيا وفرنسا والدول الإسكندافية التي أتاحت دور العبادة للصلاة لطوائفنا هناك.
*وماذا عن السنودس الدولي للكاثوليك لكنائس الشرق الأوسط الذي أقامه البابا بنيدكتوس مؤخرا؟
**كلمة سنودس هي كلمة يونانية منقسمة إلي كلمتين بمعني نسير معا وقد ضم البابا بنيدكتوس في هذا السنودس وفودا من كل الطوائف المسيحية وليس الكاثوليكية فقط, وأيضا شخصين إسلاميين كوفد عن الديانة الإسلامية, وأيضا شخص يهودي ليمثل الديانة اليهودية وجاء هذا اللقاء في هذا التوقيت بالذات ليلفت نظر كنائس الغرب إلي كنائس الشرق الأوسط وإتاحة الفرصة للتواصل والمساعدة وشاركنا بوفد كبير كطائفة كلدانية.
*حدثنا عن الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية؟
**الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية هي كنيسة رسولية إرسالية تبشيرية, أبوها ومؤسسها هو توما الرسول, أي أن البطريرك هو خليفة مار توما الرسول, وحسب التقليد فإن مار توما الرسول أثناء رحلته التبشيرية إلي الهند أرسل مار إدي ومار ماري- وهما من الـ72 رسولا إلي العراق وسورية وتركيا للتبشير هناك. وفي عام1553 اتحدت الكنيسة الكلدانية مع كرسي روما, وأول بطريرك هو الكاردينال يوحنا سلاقة.
يذكر أيضا أن كلدان هي منطقة عراقية وتاريخيا يقال إنها موطن إبراهيم النبي, ويعد البابا بنيدكتوس هو الأب الروحي للكنيسة ولكل طوائف الكاثوليك بشكل عام. أما بالشكل الفعلي فالكنائس الشرقية الكاثوليكية وما يتنصب عليها من بطاركة فيكونون مستقلين من الناحية الإدارية للكنيسة وتسمي بذات الحق ,ولكنهم يذهبون إلي روما عند تنصيبهم لتجديد حياة الشركة الروحية مع قداسة بابا روما.
*مصادفة أن تجري الزميلة المحررة هذا الحوار مع المدبر البطريركي للكلدان في مصر وهم أكبر طائفة مسيحية في العراق…مصادفة أن يجري هذا الحوار قبل أيام من الهجوم الإرهابي علي كنيسةسيدة النجاة والتي تعد واحدة من أكبر الكنائس ببغداد…ولعل الحوار مع الأسقف فيليب نجم كشف عن أبعاد كثيرة لموقف المسيحيين في العراق وما يتعرضون له من مضايقات وحوادث قتل واغتيال نخشي أن لا يكون الاعتداء علي سيدة النجاة آخرها.