مع أن العام الجديد لا يزال في بدايته إلا أنه جاء مصحوبا بأول معضلة أخلاقية لي. ففي أوائل يناير, ذكر لي أحد أصدقائي أنه قطع علي نفسه وعدا بالتغلب علي اكتئابه المزمن بشكل نهائي هذه السنة. فهو علي مر السنوات, جرب أعدادا كبيرة من مضادات الاكتئاب, لكن لم يكن لأي منها تأثير مفيد مستدام, وعندما أصبحت التأثيرات الجانبية بغيضة لدرجة دفعته إلي التوقف عن تناولها, كانت أعراض الإقلاع عنها (تشنجات عضلية, ودوار, وصداع) أشبه بالتعذيب. هل أنا مطلعة علي أي أبحاث قد تساعده علي اتخاذ قرار بشأن مضاد جديد للاكتئاب نصحه به طبيبه قد يخرجه أخيرا من كآبته المظلمة المزمنة بسرعة؟
المعضلة الأخلاقية هي التالية: نعم, أنا مطلعة علي دراسات امتدت علي أكثر من 20 عاما حول مضادات الاكتئاب, بدءا من العقاقير ثلاثية الحلقات القديمة وصولا إلي مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية الجديدة التي تستهدف معدلات السيروتونين (مثل عقار زولوفت, وباكسيل, وأشهر عقار في هذه المجموعة, بروزاك, فضلا عن الأدوية المشتقة منها التي لا تحمل أسماء تجارية) والأحدث منها حتي التي تستهدف معدلات النوربينيفرين (إيفيكسور, وويلبوترين). كانت الأبحاث قد أظهرت أن مضادات الاكتئاب تفيد نحو ثلاثة أرباع المصابين بالاكتئاب الذين يتناولونها, وهي نتيجة تم التوصل إليها مرارا وتشكل ركيزة المقولة المتكررة بأنه ما من شك في أن سلامة وفعالية مضادات الاكتئاب تستند إلي أدلة علمية دامغة, كما كتب أستاذ الطب النفسي ريتشارد فريدمان من كلية وايل كورنيل الطبية أخيرا في صحيفة ذا نيويورك تايمز. لكن منذ نشر دراسة محورية عام 1998 تم تأكيد نتائجها في أبحاث مهمة في ذا جورنال أوف ذي أميركان ميديكال أسوسييشن الشهر الماضي, أصبحت هذه الأدلة مصحوبة بعلامة استفهام كبيرة. نعم, العقاقير فعالة لأنها تزيل كآبة معظم المرضي. لكن هذه المنفعة تكاد لا تتعدي تلك التي يحصل عليها المرضي عندما يتناولون عقارا وهميا, من دون علمهم وضمن إطار دراسة. وكما يستنتج عدد متزايد من العلماء الذين يدرسون الاكتئاب والعقاقير التي تعالجه, فإن هذا يوحي بأن مضادات الاكتئاب أشبه بأقراص سكاكر غالية الثمن.
وهنا تكمن المعضلة الأخلاقية. فتأثير الأدوية الوهمية ــ أي المنفعة الطبية المتأتية من قرص لا يحتوي علي مواد طبية أو تلك المتأتية من علاجات زائفة أخري ــ يرتكز علي الثالوث المكون من الإيمان والتوقعات والأمل. لكن قول ذلك لشخص مصاب بالاكتئاب يستفيد من مضادات الاكتئاب, أو (علي غرار صديقي) يأمل أن تساعده, يهدد بتقويض العملية بأكملها. إن شرحت له أن المنفعة التي يشعر بها تكمن في ذهنه وليست متأتية من العقار, وأن سبب استفادته هو السبب نفسه الذي أتاح للفيل دامبو في أفلام ديزني بأن يطير في بداية الأمر حاملا ريشة بين أسنانه ــ الإيمان بذلك هو الذي جعل الأمر ممكنا ــ سيتلاشي السحر مثل غبار في مهب الريح. لذلك بدلا من اطلاع صديقي علي كل ذلك, شعرت بالجبن. وقلت له: طبعا, هناك الكثير من الأبحاث التي تظهر أن نوعا جديدا من مضادات الاكتئاب قد يساعدك. تعال, دعني أريك الدراسات علي موقع PubMed.
يبدو أنني لست الوحيدة المترددة من الناحية الأخلاقية في الكشف عن حقيقة مضادات الاكتئاب. ذلك التحليل الأول عام 1998 شمل 38 دراسة يدعمها صانعو العقاقير وشارك فيها نحو ثلاثة آلاف مصاب بالاكتئاب. رأي معدا الدراسة, الباحثان النفسيان إيرفنج كيرش وجاي سابيرستين من جامعة كونيتكت ــ شأنهما شأن جميع المراقبين ــ أن المرضي كانوا يتحسنون, إلي حد كبير في غالب الأحيان, إن تناولوا مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية الجديدة والأدوية ثلاثية الحلقات, وحتي مثبطات المونوأمينوكسيداز, وهو نوع من مضادات الاكتئاب يعود إلي خمسينيات القرن الماضي. هذا التحسن, الذي أظهرته أعداد كبيرة من التجارب العيادية, هو ركيزة الادعاء الشائع بأن مضادات الاكتئاب فعالة. لكن عندما قارن كيرش التحسن لدي المرضي الذين يتناولون العقاقير مع التحسن لدي الذين يتناولون أدوية وهمية ــ غالبا ما تتم مقارنة العقاقير التجريبية بأدوية وهمية في التجارب العيادية ــ اكتشف أن الفارق ضئيل جدا. فالمرضي الذين تناولوا الدواء الوهمي تحسنوا بنسبة 75 بالمائة مقارنة بالذين يتناولون العقاقير. بعبارات أخري, فإن ثلاثة أرباع المنفعة المتأتية من مضادات الاكتئاب هي في الحقيقة تأثير وهمي لا علاقة للمكونات الطبية به. ويتذكر كيرش الذي يعمل الآن في جامعة هال في إنجلترا: تساءلنا, ما الذي يجري؟ من المفترض أن تكون هذه عقاقير سحرية وأن يكون لها تأثيرات كبيرة.
أما تأثير الدراسة؟ فكان أن عدد الأمريكيين الذين يتناولون مضادات الاكتئاب تضاعف خلال عقد, من 13.3 مليونا عام 1996 إلي 27 مليونا عام .2005
لا شك في أن العقاقير ساعدت عشرات الملايين من الناس, وكيرش لا يدعو إلي أن يتوقف المصابون بالاكتئاب عن تناول العقاقير بل علي العكس. لكنها ليست دائما الخيار الأول الأفضل. العلاج النفسي, مثلا, يؤدي إلي تحسن المصابين باكتئاب معتدل وقوي وحتي شديد. ومع أن بعض المرضي يستفيدون أكثر إن خضعوا لعلاج نفسي مقرون بعقاقير مضادة للاكتئاب, السؤال المطروح هو: كيف تعمل هذه العقاقير؟ دراسة كيرش, وغيرها من الدراسات الآن, خلصت إلي أن التأثير الأكبر لهذه العقاقير متأت من توقع المرضي أن يستفيدوا منها, وليس من تأثير كيميائي مباشر علي دماغهم, وذلك فيما يتعلق بكل أنواع الاكتئاب, باستثناء الاكتئاب الشديد جدا.
لكن إن كان الخبراء يعرفون أن مضادات الاكتئاب ليست أفضل بكثير من الأدوية الوهمية, فإن قلة من المرضي أو الأطباء يعرفون ذلك. يقول كيرش إن بعض الأطباء غيروا طريقتهم في وصف العقاقير, لكن عددا أكبر كانت ردة فعله غاضبة ومشككة, وهو أمر يمكن تفهمه. فالاكتئاب مرض مدمر ولا يتم تشخيصه بسهولة ولا يعالج كما يجب. طبعا, رفض الأطباء الفكرة القائلة إن هذه العقاقير قد تكون زائفة. إن كان ذلك صحيحا, كيف يفترض بهم أن يساعدوا مرضاهم؟
هناك عاملان آخران لعبا دورا في الرفض واسع النطاق لاستنتاجات كيرش (وغيره من العلماء الآن) بشأن مضادات الاكتئاب. أولا, يقول المدافعون عن العقاقير هازئين إن إدارة الأغذية والعقاقير الأمريكية لا يمكن أن توافق علي عقاقير غير فعالة. (التفسير البسيط هو أن إدارة الأغذية والعقاقير تشترط أن تظهر دراستان سريريتان جيدتا التصميم أن العقار أكثر فعالية من الدواء الوهمي. دراستان فقط, حتي وإن أظهر عدد أكبر بكثير من الدراسات عدم فعاليته. ولا تهم نسبة الفعالية الإضافية طالما أنها مقبولة إحصائيا). ثانيا, يري الأطباء بأعينهم ويشعرون بقلوبهم أن العقاقير ترفع الغمامة السوداء عن قلوب الكثير من مرضاهم المكتئبين. لكن بما أنه ليس من عادة الأطباء وصف أدوية وهمية, فلا خبرة لديهم في مقارنة تأثيرها علي مرضاهم, وبالتالي لن يروا أبدا أن الدواء الوهمي فعال بقدر قرص سعره 4 دولارات. يقول كيرش: عندما يصفون علاجا ويكون فعالا, من الطبيعي أن يعزوا التحسن إلي العلاج. وهذا يفسر الفكرة التي لا تزال شائعة حتي الآن بأن مضادات الاكتئاب فعالة.
الشركات المصنعة للعقاقير لا تشكك في صحة الاستنتاجات الإحصائية التي جمعها كيرش, لكنها تشير إلي أن المعدل يضم بعض المرضي الذين يظهر عليهم تأثير كيميائي حقيقي لمضادات الاكتئاب وبعض المرضي الذين لا يظهر عليهم هذا التأثير. وكما قال ناطق باسم شركة ليلي (المصنعة لدواء بروزاك) : الاكتئاب مرض له خصائص فردية ولا يتجاوب كل المرضي بالطريقة نفسها مع علاج معين. فضلا عن ذلك, يشير ناطق باسم جلاكسوسميثكلاين (الشركة التي تصنع دواء باكسيل) إلي أن الدراسات التي تم تحليلها في المقال المنشور في ذا جورنال أوف ذي أمريكان ميديكال أسوسييشن تختلف عن الدراسات التي قدمتها جلاكسوسميثكلاين لإدارة الأغذية والعقاقير عندما حصلت علي موافقتها لتسويق باكسيل, لذا يصعب القيام بمقارنة مباشرة بين النتائج. هذه الدراسة تضاف إلي الأعداد الكبيرة من الأبحاث التي ساهمت في تحديد دور مضادات الاكتئاب التي تشكل خيارا مهما عند معالجة الاكتئاب, فضلا عن العلاج النفسي وتغيير نمط الحياة. ويشير الناطق باسم شركة فايزر التي تصنع دواء زولوفت أيضا إلي الكم الهائل من الأدلة العلمية التي توثق تأثيرات [مضادات الاكتئاب] مضيفا أن عدم اختلاف تأثيرات ,مضادات الاكتئاب] عن تأثيرات الأدوية الوهمية هو حقيقة معروفة جيدا لدي إدارة الأغذية والعقاقير والأوساط الأكاديمية وقطاع تصنيع الأدوية. وأشار مصنعون آخرون إلي أن كيرش ومعدي الدراسة المنشورة في ذا جورنال أوف ذي أمريكان ميديكال أسوسييشن لم يدرسوا عقاقيرهم بالتحديد.
الفتي الذي قال إن الإمبراطور لا يرتدي ثيابا لم يلق استحسانا بين أبناء الإمبراطورية, وكيرش لم يلق ترحيبا أفضل. فقد انتهت شراكة ناشئة بينه وبين أحد العلماء في إحدي كليات الطب عام 2002 عندما تم تحذير هذا العالم من مغبة التقدم باقتراح للحصول علي منحة بالاشتراك مع كيرش إن كان يريد الحصول علي تمويل من جديد. بعد أربع سنوات, كتب عالم آخر مقالة يشكك فيها بفعالية مضادات الاكتئاب مستشهدا بعمل كيرش. ونشرت تلك المقالة في مجلة علمية مرموقة. كان يفترض أن يغدق عليه بالثناء بعد ذلك, لكن رئيس القسم الذي يعمل فيه وبخه وحذره من مغبة التقرب من كيرش.
غير أن مسألة ما إذا كان لمضادات الاكتئاب ــ التي بلغت مبيعاتها 9.6 مليارات دولار في الولايات المتحدة عام 2008, وفقا للمؤسسة الاستشارية آي أم أس هيلث ــ أي تأثير باستثناء التأثير المتأتي من إيمان المرضي بها كانت أهم من أن تدفع الباحثين لتجنب التطرق إلي الموضوع. لقد وجد مؤيدو العقاقير أنفسهم يتقدمون بادعاءات واهية أكثر فأكثر. موقفهم الأخير هو أن مضادات الاكتئاب أكثر فعالية من الأدوية الوهمية لدي المرضي المصابين بأشد أنواع الاكتئاب.
وهذا ما خلصت إليه الدراسة المنشورة في مجلة ذا جورنال أوف ذي أمريكان ميديكال أسوسييشن في يناير. ففي تحليل لستة اختبارات كبيرة تناول فيها المرضي المكتئبون كالعادة إما دواء وهميا أو عقارا فعليا, تبين أن التأثير الحقيقي للعقار ــ أي فضلا عن تأثيره الوهمي ــ كان لا يذكر أو حتي معدوما لدي المصابين باكتئاب طفيف أو معتدل أو حتي شديد. فقط لدي المصابين بأعراض شديدة جدا (أي الذين يحصلون علي درجة 23 وما فوق علي المقياس المعتمد) تمت رؤية تأثير ملحوظ للعقار. هؤلاء المرضي يشكلون نحو 13 بالمائة من الأشخاص المصابين بالاكتئاب. يقول هولون من جامعة فاندربيلت, وهو أحد معدي الدراسة: معظم الناس ليسوا بحاجة إلي عقار حقيقي. فالنسبة إلي الكثيرين, النتيجة الإيجابية ستكون نفسها إن تناولوا حبة سكر أو ناقشوا الأمور مع طبيبهم أو تناولوا عقارا حقيقيا. لا يهم ما تفعله, بل المهم أن تقوم بشيء ما. لكنه يعتقد أن الناس المصابين باكتئاب حاد مختلفون. رأيي الشخصي هو أن تأثير الأدوية الوهمية مفيد جدا, لكن من الأصعب معالجة المصابين بحالات اكتئاب شديد جدا ومزمن لأن الأدوية الوهمية تصبح أقل فعالية, حسبما يقول هولون. سبب ذلك لا يزال غامضا, كما يعترف أحد معدي الدراسة روبرت ديروبيز من جامعة بنسلفانيا.
علي غرار كل العلماء الذين خاضوا مجال الأبحاث المتعلقة بمضادات الاكتئاب المليء بالمطبات, فإن هولون, وديروبيز, وزملاءهما يعون جيدا وجود اختلاف كبير بين الأدلة والانطباع الشعبي. وقد كتبوا: لعل الأطباء وصانعي السياسات والمستهلكين لا يدركون أن فعالية [مضادات الاكتئاب] مبنية إلي حد كبير علي نتائج دراسات لم تتضمن إلا المصابين بالأشكال الأكثر حدة من الاكتئاب, وهو أمر لا يذكر في إعلانات العقاقير. المصابون بأنواع أقل حدة من الاكتئاب الشديد جدا قلما يستفيدون من المنافع الكيميائية لهذه العقاقير. وإلي أن تظهر نتائج تدحض تلك التي تم نشرها هنا … يجب بذل جهود للتوضيح للأطباء والمرضي المحتملين أن … الأدلة التي توحي بأن [مضادات الاكتئاب] لها تأثير كيميائي إيجابي علي معظم المرضي قليلة جدا.
هنا, ترتسم علامات الاستياء علي وجوه الناس ويتساءلون كيف يمكن ألا يكون لمضادات الاكتئاب ـــ لا سيما تلك التي ترفع معدلات السيروتونين في الدماغ ـــ تأثير كيميائي مباشر علي الدماغ؟. فرفع معدلات السيروتونين يجب أن يؤدي إلي تصحيح عدم التوازن الكيميائي في نقاط تشابك الخلايا العصبية وبالتالي إزالة الاكتئاب. ولسوء الحظ, فإن النظرية القائلة إن الاكتئاب ناتج عن نقص في السيروتونين مبنية علي أسس واهنة جدا. فكيفية التوصل إليها مثيرة للاهتمام, لكن الخلاصة هي أنه في خمسينيات القرن الماضي اكتشف العلماء عن طريق الصدفة أن عقارا يدعي إيبرونيازيد له تأثيرات إيجابية علي بعض المصابين بالاكتئاب. إيبرونيازيد يرفع معدلات السيروتونين والنوريبينيفرين في الدماغ. وبالتالي, لا بد أن الاكتئاب ناتج عن معدلات متدنية من هذين الناقلين العصبيين. بعد ذلك بأكثر من 50 عاما, لا تزال الفعالية المفترضة لمضادات الاكتئاب التي تعمل بهذه الطريقة تشكل الركيزة الأساسية لنظرية الخلل الكيميائي المسبب للاكتئاب. وفي غياب هذه الفعالية, تتداعي النظرية. لكن ما من أدلة مباشرة. فتخفيض معدلات السيروتونين لدي الناس لا يغير مزاجهم. وهناك عقار جديد يدعي تيانبتين يباع في فرنسا وبعض البلدان الأخري(لكن ليس في الولايات المتحدة) يبدو فعالا بقدر مضادات الاكتئاب الشبيهة ببروزاك التي تحافظ علي معدلات مرتفعة من السيروتونين عند نقاط تشابك الخلايا العصبية. كيف يعمل هذا الدواء الجديد؟ إنه يخفض معدلات السيروتونين في الدماغ. يقول كيرش: إن كان الاكتئاب يتأثر بالشكل نفسه بالعقاقير التي ترفع معدلات السيروتونين وتلك التي تخفضها, يصعب تخيل كيف يمكن للمنافع أن تكون متأتية من تأثيرها الكيميائي.
لعل مضادات الاكتئاب ستكون أكثر فعالية بجرعات أكبر؟ لسوء الحظ, تبين لكيرش وزملائه عام 2002 أن الجرعات الأكبر ليست أكثر فعالية من الجرعات الأصغر, فهي تظهر تحسنا علي مقياس الاكتئاب يبلغ 9.97 نقاط مقابل 9.57 نقاط, وهذا فارق لا أهمية إحصائية له. غير أن الكثير من الأطباء يزيدون الجرعات للمرضي الذين لا يستفيدون من الجرعات الأصغر, ويقول الكثير من المرضي إنهم يتحسنون نتيجة لذلك. وهناك دراسة تتعلق بذلك أيضا. فعندما أعطي الباحثون جرعات أكبر للذين لا يتجاوبون مع العلاج, تحسن 72 بالمائة منهم إلي حد كبير وانخفضت حدة الأعراض بنسبة تفوق الـ 50 بالمائة. المفارقة هي أن نصف المرضي فقط حصلوا علي جرعات أكبر, والباقون حصلوا علي الجرعة غير الفعالة الأساسية من دون علمهم. ولا يمكن عزو تحسن الـ 72 بالمائة من المرضي بعد زيادة جرعاتهم إلا إلي توقعاتهم الكبيرة بأن يستفيدوا منها: لقد رفع الطبيب جرعتي, لذا أعتقد أنني سأتحسن.
أمر مشابه قد يفسر سبب عدم استفادة بعض المرضي بعد تناولهم نوعا من مضادات الاكتئاب, ثم تحسنهم بعد تناولهم نوعا ثانيا أو ثالثا. غالبا ما يتم تفسير ذلك بأنه عملية ملاءمة المريض مع العقار المناسب, وبدا أن دراسة فيدرالية تدعي بدائل العلاج المتتابع لإزالة الاكتئاب (ستارد) تؤكد ذلك عام .2006 المرضي الذين لا يزالون يعانون الاكتئاب بعد تناولهم نوعا من العقاقير تم إعطاؤهم عقارا ثانيا بدلا منه والذين لم يتحسنوا بعد ذلك تم إعطاؤهم نوعا ثالثا ورابعا حتي. لم يتم استخدام أي أدوية وهمية. وللوهلة الأولي, بدا أن النتائج توفر بصيص أمل: فـ 37 بالمائة من المرضي تحسنوا علي الدواء الأول, و19 بالمائة آخرون تحسنوا علي الثاني, و6 بالمائة آخرون تحسنوا علي الثالث, و5 بالمائة علي الرابع. (لكن نصف الذين تحسنوا عادوا يعانون الاكتئاب في غضون عام).
إذن هل تثبت الدراسة الفيدرالية الفكرة القائلة إن العلاج الفعال لحالات الاكتئاب يتوقف علي اختيار العقار المناسب للمريض؟ ربما. أو لعل الناس تحسنوا عند تناول عقار ثان وثالث ورابع لأن الاكتئاب يزول أحيانا بسبب التغييرات التي تحدث في حياة المرضي أو لأن مستويات الاكتئاب تميل إلي الارتفاع والانخفاض مع مرور الوقت. وبما أنه لا أحد في الدراسة الفيدرالية تلقي دواء وهميا, فلا يمكن القول بكل تأكيد إن التحسن بعد تناول دواء ثان وثالث ورابع كان ناتجا عن انتقال المرضي إلي استعمال دواء كان أكثر فعالية بالنسبة إليهم. لربما كانوا سيشهدون تحسنا مماثلا لو انتقلوا إلي استعمال دواء وهمي. لكن الدراسة الفيدرالية لم تختبر ذلك, لذا لا يمكنها استبعاد هذا الاحتمال.
أصدقاء كيرش وزملاؤه الذين يعتقدون أنه محق يسألونه لماذا لا يلزم الصمت, بما أن نشر النتيجة التي توصل إليها بأن فعالية مضادات الاكتئاب ناجمة بشكل شبه كامل عن آمال وتوقعات الناس سيقوض هذه الفعالية.
من الجيد الإشارة إلي أن العلاج النفسي أكثر فعالية من العقاقير أو الأدوية الوهمية, ومعدلات الانتكاس بعد الخضوع له أقل بكثير. لكن هناك مسألة الواقعية. ففي الولايات المتحدة, معظم المرضي المصابين بالاكتئاب يعالجهم أطباء صحة عامة وليس أطباء نفس. وذلك لأن عدد أطباء النفس قليل, لا سيما خارج المدن, وبالأخص أطباء النفس المختصون بمعالجة الأطفال والمراهقين. كما أن بعض شركات التأمين لا تشجع هذا النوع من العناية, وبعض أطباء النفس غير متعاقدين مع شركات التأمين. ولعل إخفاء مسألة عدم فعالية مضادات الاكتئاب عن المرضي ينم عن رحمة, كونها تشكل الأمل الوحيد للكثيرين منهم.
التأثير الوهمي
فضلا عن الاكتئاب, فإن الكثير من الأمراض تتجاوب جيدا مع العلاج بالأدوية الوهمية. وهي غالبا ما تكون أمراضا تلعب فيها المواد الكيميائية الحيوية في الجسم, مثل المخدرات الأفيونية والدوبامين, دور أدوية طبيعية. ولأن الأدوية الوهمية تحفز إنتاج هذه المواد, يمكن لها أن تكون فعالة بقدر الأدوية الحقيقية. من بين الأمراض التي عولجت بنجاح بالأدوية الوهمية:
ضغط الدم المرتفع – الألم – داء باركنسون – داء الصدف – التهاب المفاصل المشوه – القرحة
الأمراض التي لا تتجاوب مع المخدرات الطبيعية في الجسم وغيرها من المواد قلما تتجاوب مع الأدوية الوهمية. ومن بينها:
تصلب الشرايين – السرطان – نقص هرمون النمو – معدلات الكوليسترول العالية – العقم – الاضطراب الوسواسي القهري
بمشاركة سارة كليف
نيوزوييك