منذ عدة أشهر جاءتني رسائل غامضة علي التليفون المخصص لتلقي مشكلات افتح قلبك, رسائل لا تحمل سوي جملتين أنا فتاة فقيرة جدا وأحتاج للعمل سريعا حاولت الاتصال بهذه الفتاة مرارا لكنني فشلت في أن ألقي استجابة منها إلي أن فاجأتني منذ فترة بمكالمة في منتصف الليل.جاءني صوتها خافتا وخائفا جدا.مرتبكا للغاية,كما لو كانت تخشي يوم الساعة,سألتها:ما قصتك؟لقد ألقيت الريبة في قلبي بعدم ردك علي اتصالاتي حتي إنني شككت في الأمر برمته.أجابتني في لهفة وسرعة:أنا فتاة صعيدية فقيرة جدا محتاجة شغل علشان أساعد أهلي مش هاقدر أتكلم ها بعت رسالة اهتمي بيها.سلام. انصعت لرغبتها في إنهاء المكالمة وانتظرت رسالتها التي وصلتني بعد أسبوع تقول فيها:أنا فتاة من عمق الصعيد عمري22عاما,والدتي ربة منزل منزل بسيطة ووالدي فلاح أجير مريض يعمل علي قدر صحته,ربما يعمل يوما ويمكث في المنزل إلي جوارنا عشرة أيام,لي ثلاثة إخوة صغار,نعاني الفقر وضيق ذات اليد حتي إنني أكملت دراستي بالكاد,فالفقر لم يهزم طموحي ولا العادات الصعيدية التي تحرم الفتاة من التعليم عندما يعجز والدها عن الإنفاق عليها. حصلت علي بكالوريوس تربية-تعليم أساس دفعة2008,بحثت كثيرا عن عمل,لكنني فشلت,في كل مرة كانت الإحباطات تحاصرني,تنفذ إلي نفسي فأغرق فيها بلا أمل في النجاة,الليل يمضي ثقيلا يعج بالأفكار السوداء التي تراودني.فتارة أفكر بالانتحار,وتارة أتساءل: أين عدالة السماء من ضعف أبي الذي تتآكل صحته يوما بعد يوم,وقلة حيلة أمي,وانزواع إخوتي انتظارا لانهيار مستقبلهم. تخنقني تساؤلاتي,وكلما تركتني أعود أنا إليها فمن أين نأتي بمصاريف تعليم إخوتي وإنفاقنا اليومي,أفكاري تصارعني تهزمني ثم يردني الأمل كلما قرأت عن أناس سددت لهم احتياجاتهم,فأدركت أن هناك قلوبا مازالت تنبض بالخير,أنا لا أحتاج سوي فرصة عمل,الفتاة هنا في مركز طهطا بمحافظة سوهاج جريمة إذا سافرت لتعمل وأنا لا أملك مهارات ولا أعلم شيئا عن الكمبيوتر والتدريب يحتاج للفلوس وهي غير موجودة والدائرة مغلقة بل ومحكمة الغلق يا سيدتي فالفقر يأكل من قدراتي علي تحسين فرصتي في الحياة,ولم يدع لي مجالا إلا لليأس بعد أن فشلت في تحقيق طموحاتي…فهل من أمل؟علما بأن والدي إذا علم أنني أراسلكم سوف تكون كارثة,ولن أستطيع مصارحتهم. لكاتبة هذه الرسالة أقول: أحييي فيك إصرارك علي نيل ما تتمنين وتحقيق ما تطمحين فيه,فيا فتاة الصعيد الطموحة من منا يمكنه العيش بلا طموحات؟لكن اسمحي لي بالنظر خلف طموحك لقد اختلست نظرات سريعة في غيبة من سطورك لأجد غول الخوف متربصا بذاك الطموح الرائع يهدده,فيا عزيزتي الخوف والطموح لا يقترنان أبدا الطموح تلزمه الجرأة التي تحمله إلي بر الأمان,فبالله عليك كيف يمكنني مساعدتك دون علم أسرتك؟كيف أتمكن من التواصل معك سبق وأن أوفدت لك نوابا عن مؤسسةكوبتك أورفانز وكانت ذات النتيجة غموضا تاما من جهتك بسبب رعبك أن تعلم أسرتك بطلبك المساعدة. تخلصي من خوفك,واجهي والدك ولن تندمي قد يمكننا علي الأقل مساعدته علي المستوي الصحي لحين إيجاد فرصة عمل مناسبة لك,وهناك أمر آخر فهل سألت نفسك:ماذا سيكون رد فعل أسرتك عن عمل أو مساعدة تهبط عليك نجأة من حيث لا يعلمون؟كيف تحصلين علي دورات تدريبية تحتاج إنفاقا يفوق قدراتك؟بما تبررين كل هذه المساعدات إلا إذا كان هناك سبيل مشروع لها.أنت تثيرين الشكوك حولك بلا مبرر. صدقيني ليس في الأمر عيب علي الإطلاق ووالدك لن يمانع إذا صارحتيه بنوع من الكياسة وأكدتي له أننا سنوفر لك فرصة عمل وفرصة تدريب…وهذا الأمر ليس مقصورا علي المحتاجين ماديا فقط بل أنها أزمة جيل بأكمله.هكذا عليك أن تعرضي الأمر علي أبيك حتي لا تجرحي مشاعره وتضعيه مع عجزه في مرآة واحدة وبدلا من أن تساعديه علي اجتياز محنته قد تتسببي له في محنة إضافية. مشكلتك يا فتاة الصعيد لا تقتصر علي أهل الصعيد ولا علي أبناء الأسرة الفقيرة إنها أزمة جيل بأكمله كما ذكرت لك,فأنت مثال لآلاف الشباب الذين حصلوا علي شهادات جامعية بعد أن أضننت المعاناة عائلاتهم لتوفير ثمن كتاب أو ملزمة أو حتي ثمن المواصلات لحضور المحاضرات في الجامعة,ثم أنهوا سنوات الشقاء ليمسكوا بورقة حمقاء تشهد بحصولهم علي البكالوريوس أو الليسانس وتلقيهم علي قارعة الطريق بلا مستقبل,فلا يتمكن من العمل منهم إلا قلة تجد من يمد يديه إليها ليضعها علي بداية الحياة العملية. عزيزتي هذا هو مدخلك للمصارحة مع والدك أنت نتاج مناخ اقتصادي عام والأزمة مضاعفة لديك لأنك نتاج مناج اجتماعي خاص بأهل الصعيد لكن صدقيني أنت أسعد حالا من غيرك ممن لا يجدون حتي ثمن رسالة ليبعثوا بها إلي,أو ممتت قهرهم العوز وأضننتهم الحاجة ففارقوا الحياة محرومين صامتين ولا أحد يعلم رواياتهم,الحياة مليئة بالمآسي,وكلما هزمك اليأس كماتقولين تذكري هؤلاء ,تذكري أن لديك ثلاثة صغار قد يحرمهم القدر والفقر مما حصلت عليه أنت من تعليم جامعي حينئذ أنا علي يقين أنك ستصارحين والدك لنبدأ رحلة البحث عن عمل مناسب.