الهجوم الدموي الذي تعرض له الجيش اللبناني, في منطقة البقاع, يؤشر إلي تهديد كبير للبنان الذي لم يتعاف بعد من تمزق جيشه خلال الحرب الأهلية, وبعدها عدوان إسرائيل في يوليو 2006 ومعركة نهر البارد لاحقا, وصعوبات ضبط الأمن خلال مرحلة الانشقاق الأهلي الكبير التي سبقت انتخاب قائده ميشال سليمان رئيسا للجمهورية.
وما قيل عن الطابع الثأري للهجوم الذي نفذه ابناء عشيرة إرادوا الانتقام لمقتل أحدهم خلال مواجهة مع الجيش الذي كان يلاحقه بجرائم جنائية, لا يقلل من خطورة استهداف المؤسسة العسكرية علي هذا النحو. ولا يلغي الأسباب الكامنة وراء السهولة والتجرؤ علي تعمد قتل عسكريين خلال أدائهم واجبهم الأمني. كما أن التغطية السياسية التي قيل إنها توافرت للجيش في ملاحقة الفاعلين واعتقالهم, لا تغطي واقع تحفظات فئات لبنانية عن الدور الذي يقوم به الجيش وعن نشاطه في بعض المناطق.
إن مجرد اعتبار أن الجيش يمكن أن يكون طرفا في نزاع عشائري, ويمكن أن يكون هدفا سهلا للثأر والانتقام, يعني نزع صفة الحامي والجامع لجميع المواطنين عن المؤسسة العسكرية. ويعني تشوه صورة هذه المؤسسة, كأداة في يدي الدولة, لتصبح مجرد طرف في نزاعات مافياوية. هذا التشويه يرتبط بعقود من تراجع دور الدولة, بفعل طبيعة النزاعات التي شهدها لبنان, ويرتبط أيضا بالحمايات الميليشياوية والحزبية لفئات احترفت التهريب والاجرام, خصوصا في منطقة البقاع ذات الخصوصية الجغرافية والديموغرافية.
صحيح أن ثمة مشكلة مزمنة لعلاقة المركز اللبناني بعشائر البقاع الشمالي, منذ الاستقلال, وكان التعبير عنها بمنع الدولة عن أداء مهماتها في المنطقة. لكن التجرؤ علي دورية عسكرية علي النحو الذي حصل, وبعيدا عن سكن الفاعلين, يظهر مدي تراجع صورة الجيش ومفهومه, في أذهان المهاجمين ومن ورائهم. فهو تحول طرفا يمكن استضعافه وليس قوة أساسية للردع في يدي الدولة, وظيفتها السهر علي الأمن وتطبيق القوانين علي الجميع.
يسرح ويمرح المسلحون والمطلوبون للعدالة في مناطق معينة في لبنان, خصوصا في البقاع. ولم تكن المطالبات بضرورة ضبط هذا الوضع تلقي تنفيذا, بفعل اعتبارات سياسية وأمنية تخرج عن نطاق أمن الدولة. إذ فرضت قوي أمر واقع حدودا علي حركة الدولة. لينشأ ما بات يعرف بالأمن بالتراضي. أي تعايش قوي مسلحة رسمية مع أخري مسلحة غير رسمية لها مصالح وتوفر حمايات, لأسباب شتي, لشرائح من منتهكي قوانين ومرتكبي اعتداءات. هذا الأمن بالتراضي منع الدولة وأداتها الأمنية والردعية الأساسية من التحرك السريع لملاحقة المرتكبين, وأضعف صورتها لدي المرتكب لشعوره بحماية أقوي من حماية الدولة ولدي المواطن الذي يسهل عليه اللجوء لقوي الأمر الواقع لحل مشكلاته, بدل انتظار حماية الدولة التي قد لا تأتي.
وينطوي الهجوم المسلح علي الجيش علي رسالة لا تقتصر علي المهربين. فهي تحذير من قبل كل من لديه سلاح أنه يستطيع الرد علي المؤسسة العسكرية وإنزال خسائر بشرية في صفوفها. ولا تزال ماثلة للأذهان حادثة الشياح حين تعرض متظاهرون للجيش الذي أطلق أفراده النار دفاعا عن النفس. وكانت الحملة علي المؤسسة العسكرية ومطالب التحقيق والعقوبات في حق عسكريين وراء تحييد دور الجيش في أحداث لاحقة, خصوصا أحداث السابع من مايو, عنما جري اجتياح بيروت من قوي المعارضة.
واليوم تواجه الحكومة, ومعها الجيش, اختبار حفظ الأمن في الانتخابات المقررة في حزيران (يونيو), في ظل تشكيك, من المعارضين أنفسهم, بالقدرات الأمنية لدي الدولة علي إجراء الانتخابات في يوم واحد. ويصح التساؤل عما يمكن أن يكون عليه الوضع إذا ما قرر طرف أن يشغل الجيش, علي طريقة المهربين ومهاجمة دورياته, خصوصا إذا كانت توقعات نتائج الانتخابات ليست كما يشتهي هذا الطرف.
نقلا عن جريدة ## الحياة ##