أثبتت حوادث اختطاف المدنيين الأجانب التي قامت بها الجماعات الراديكالية في الشرق الأوسط, ولا سيما في سبعينيات و ثمانينيات القرن الماضي, أنها لئن نجحت أحيانا في حصول أصحابها علي بعض مطالبهم أو مكنتهم من تلقي أموال ضخمة في صورة فدية, فإنها في المحصلة النهائية أضرت بقضيتهم وألبت الرأي العام عليهم.
لكن حركة طالبان البائسة لا تريد أن تتعلم من دروس التاريخ, فقادتها حماقتها في الأشهر الأخيرة إلي تبني أعمال خطف المدنيين الأجانب العاملين في أفغانستان كاستراتيجية جديدة للجماعة. بل صرح المتحدثون باسمها من أمثال قاري محمد يوسف ويوسف أحمدي مؤخرا بأن الحركة وجدت في أعمال الخطف أداة فاعلة للنيل من حكومة كابول والحكومات الأجنبية المساندة للأخيرة, واكتشفت مدي تأثيرها في المجتمعات الديموقراطية حيث بإمكان الرأي العام الضغط علي الحكومة أو حتي إسقاطها إن لم تستجب لمطالب الخاطفين.
والمعلوم أن الطالبانيين لجأوا منذ أوائل العام الماضي إلي التركيز علي عمليات خطف المدنيين الأجانب, ولا سيما الغربيين منهم, من أولئك العاملين في مشاريع البناء وتقديم الخدمات الإنسانية في البلاد أو الزائرين لاستطلاع الأوضاع وكتابة التقارير الصحفية.
ففي السادس من مارس2007 اختطفوا الصحفي الإيطالي ”دانيال ماستروجياكومو” مع مترجمه وسائقه الأفغانيين في ولاية هلمند الجنوبية, ليطلق سراحه لاحقا مقابل الإفراج عن خمسة من مقاتلي الحركة من سجون كابول. أما مرافقاه الأفغانيان فقد جز عنقيهما.
وفي 18 يوليو المنصرم اختطفوا مهندسين ألمانيين مع خمسة من زملائهم الأفغان من موقع لبناء سد في إقليم واردك, ليعثر لاحقا علي جثة أحدهما مقتولا فيما لا يزال الآخر أسيرا لدي الحركة التي تطالب بانسحاب القوات الألمانية (3000 عنصر) العاملة ضمن قوات الناتو كثمن لتحريره.
وفي حادثة أخري وقعت في 18 أغسطس المنصرم, اختطفوا امرأة ألمانية من العاملات في مجال إغاثة الأيتام من مطعم في ضواحي كابول, لكن الشرطة الأفغانية استطاعت لاحقا تحريرها.
أما حادثة الاختطاف الأكبر من نوعها منذ سقوط نظام طالبان في أكتوبر 2001 فقد جرت في 19 يوليو الماضي حينما أقدم الطالبانيون علي خطف 23 مدنيا (18 امرأة و5 رجال) من رعايا كوريا الجنوبية أثناء تنقلهم برا من كابول إلي قندهار.
ولم يشفع لهؤلاء أنهم فضلوا عدم الاستمتاع بإجازاتهم السنوية من أجل القدوم طواعية إلي أفغانستان لتقديم خدمات تتراوح ما بين التطبيب وتعليم الإنجليزية ومهارات استخدام الكمبيوتر للأطفال.
وبطبيعة الحال لم تكتف حركة طالبان باختطافهم وإبقائهم كرهائن, بل عمدت إلي قتل رجلين منهم لإثبات جدية تهديداتها بقتل الآخرين إن لم يستجب لمطالبها التي تمثلت في إطلاق سراح مقاتلي الحركة المعتقلين وسحب سيول لنحو مائتين من قواتها العاملة في أفغانستان في مجالات إنسانية مساندة للقوات الأمريكية, مع تعهدها بمنع قدوم رعاياها المدنيين مرة أخري إلي أفغانستان.
والحقيقة أن حركة طالبان سعت إلي تحقيق أكثر من هدف من وراء هذه العملية الدرامية المثيرة التي صاحبتها تصريحات مضحكة مثل أن الحركة انطلاقا من تمسكها الصارم بمباديء الشريعة الإسلامية والتقاليد الأفغانية لا تجيز التعرض للنساء لكنها أجبرت علي خطفهن من أجل المقايضة فقط.
فإضافة إلي هدفي تحرير رجالها المعتقلين في سجون كابول وإجبار سيول علي سحب قواتها من البلاد, هدفت الحركة إلي الضغط علي حكومة كابول وإظهارها في صورة من لا يملك حولا ولا قوة, وإلي إحداث شقاق بين سيول وواشنطن في وقت حلت فيه الحكومتان خلافاتهما حول كوريا الشمالية وصارت مواقفهما متقاربة, وإلي تأليب الشعب الكوري الجنوبي علي حكومته المتهمة بالمشاركة الفاعلة في الحرب علي الإرهاب خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في ديسمبر القادم.
إلي ذلك يعتقد أن طالبان هدفت من وراء اختطاف الكوريين واحتجازهم في أماكن متفرقة, استخدامهم لبعض الوقت كدروع بشرية وبما يجبر خصومها علي تجميد ضرباتهم الجوية ضدها وبالتالي حصولها علي فترة لالتقاط الأنفاس والاستعداد لعمليات جديدة. وبطبيعة الحال كان هناك هدف الحصول علي فدية مالية ضخمة في حال فشل تحقيق بقية الأهداف.
وبقراءة ما انتهت إليه العملية, يمكن القول بإن طالبان قد حققت بعض تلك الأهداف. حيث تضمنت الصفقة التي عقدتها مع مبعوثي سيول تعهدا من الأخيرة بسحب كافة رعاياها المدنيين من أفغانستان مع نهاية أغسطس, وسحب قواتها مع نهاية العام الجاري. لكن الأمر الذي لا يزال موضع جدل هو: هل حصلت طالبان علي فدية مالية مقابل إطلاق سراح المخطوفين الكوريين؟
فالمتحدث باسم حكومة كوريا الجنوبية نفي حصول مثل هذا الأمر, والناطق باسم البيت الأزرق الرئاسي في سيئول اكتفي بالقول بإن بلاده فعلت ما كان ضروريا لعودة رعاياها سالمين.
غير أن مراقبين كثر يجزمون بدفع فدية مالية كبيرة, خاصة وأن أحد قادة طالبان الميدانيين صرح في مقابلة هاتفية مع إحدي وكالات الأنباء – شريطة عدم الإعلان عن اسمه – بأن صفقة الإفراج عن الرهائن تضمنت دفع 20 مليون دولار نقدا, وأن هذا المبلغ سوف ينفق علي شراء أسلحة وإعداد مقاتلين جدد للقيام بعمليات انتحارية.
وإذا كان هذا دليلا لا يعتد به, فإن ما يمكن الاستناد إليه هو أن كل عمليات الاختطاف الإرهابية السابقة التي كان ضحاياها كوريين جنوبيين انتهت بدفع فدية مالية.
والمثير في الأمر أن كل تلك العمليات تقريبا وقعت في دول إسلامية وكان وراؤها ميليشيات أو جماعات مسلمة, ومن أمثلتها اختطاف جندي كوري في العراق في عام 2004 , ومن قبلها اختطاف عامل بناء كوري في نيجيريا واختطاف صياد كوري في الصومال.
لكن العملية الأكثر إثارة جرت في لبنان في يناير 1986 حينما اختطف مسلحون السكرتير الثاني في سفارة كوريا الجنوبية, بعدما اجبروا سيارته علي التوقف في بيروت الغربية, لينضم هذا الدبلوماسي إلي 38 دبلوماسيا أجنبيا آخر كانوا قد اختطفوا في بيروت خلال سنوات الحرب الأهلية. ولم يطلق سراح الرجل إلا في أكتوبر 1987, و بعدما تلقت الجماعة التي أعلنت تبنيها للعملية و اسمها ”الفرقة الخضراء” فدية مقدارها مليون دولار من أصل 10 ملايين طالبت بها, وذلك طبقا لما ذكره رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري الذي كان وقتذاك قائدا لميليشيات أمل المشاركة في السيطرة علي بيروت الغربية.
وجملة القول, إنه إذا كانت طالبان قد حققت بعض أهدافها من عملية الاختطاف, فإنها تسببت في إثارة الكوريين ضد مواطنيهم المسلمين البالغ تعدادهم نحو 35 ألف نسمة والذين طبقا لإمام الجامع المركزي في سيول ”سليمان لي هانغ” لم يواجهوا يوما فترة عصيبة كتلك التي حدثت في الشهرين الماضيين, إلي الحد الذي اضطرت معه الشرطة الكورية الجنوبية إلي حراسة الجوامع والمقار الإسلامية منعا لتهديدها أو استهداف مرتاديها.
لكن أني للطالبانيين وزملائهم في تنظيم القاعدة الإجرامي أن يدركوا تبعات أعمالهم الحمقاء وآثارها السلبية علي الأقليات الإسلامية في الخارج؟