الاسبوع الماضي أعلن الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن استراتيجية جديدة للأمن القومي في عهده حيث جاءت معبرة عن رؤيته ومصبوغة بأسلوبه البليغ ومختومة ببصمته الواضحة وكأنه هو نفسه المفكر الاستراتيجي لإدارته.ولكن هذا الأسلوب المنمق لم يجعل الشعب الأمريكي يلتف حول رؤيته الجدية, كما أنه ليس معني هذا أن هذه البلاغة كافية لحل المعضلات العالمية والتحديات الجبارة التي تواجهها أمريكا والمتمثلة في حربين خارج أراضيها, واقتصاد متعثر مازال يرزح تحت أزمة عاتية, وتراجع في صورة أمريكا وفي مصداقيتها وفي تفوقها الكاسح عالميا,وفوق كل ذلك تزايد تهديدات التطرف الإسلامي علي الداخل الأمريكي حتي سجل عام 2009 أسوأ الأعوام بالنسبة لخطورة هذا التطرف علي الداخل منذ عام .2001
الخطوط الرئيسية لاستراتيجية الأمن القومي الجديدة تتلخص في الآتي:
أولا:نهاية الحرب الدولية علي الإرهاب
أوباما تجاهل تماما أي إشارة إلي كلمة إسلامي في استراتيجيته للأمن القومي الجديدة, ولكن ليس هذا فقط وإنما أسقط تماما مفهوم الحرب الدولية علي الإرهاب والتي تحدث عنها المحللون الأمريكيون منذ 11 سبتمبر وقالوا إنها لعقود, ولهذا حددت الوثيقة بوضوح الحرب الجديدة بالتصدي لتنظيم القاعدة وحرمان أعضائه من الملاذات الآمنة, وستكون الخطوط الأمامية لهذه المعركة كما جاء في الوثيقة في أفغانستان وباكستان حيث تمارس أمريكا ضغطا لا هوادة فيه علي القاعدة وتعطل زخم حركة طالبان وتعزز أمن وقدرات شركائها.
ثانيا:تراجع دور أمريكا في نشر الديموقراطية
تتبني الوثيقة الجديدة بوضوح تراجع الدور الأمريكي في نشر الديموقراطية عالميا,بل إنها تعدت ذلك إلي إدانة هذا الدور التاريخي حيث جاء في الوثيقة ##الولايات المتحدة ترفض هذا الخيار الزائف بين السعي الضيق لتحقيق مصالحنا وشن حملة لا نهاية لها لفرض قيمنا##. في حين تبنت الوثيقة مفهوم أن الأكثر تأثيرا علي العالم هو أن تعيش أمريكا هذه القيم بداخلها حتي تقدم نموجا يحتذي للدول الأخري,أي أن الوثيقة أخذت الاتجاه العكسي تماما لما تبنته الإدارة السابقة, فبدلا من ترشيد هذا التدخل المفرط في عهد بوش تبنت التراجع عن دعم شركائها من المناضلين من أجل الديموقراطية حول العالم , واكتفت الوثيقة بكلام نظري عن هذا الدعم ولكنها في الواقع تبنت بوضوح العزلة الأمريكية في موضوع نشر الديموقراطية.
ثالثا:تراجع دور مجموعة الثمانية والتركيز علي دور مجموعة العشرين
لم تشر الوثيقة ولا مرة واحدة علي دور مجموعة الثمانية في القيادة الاقتصادية العالمية وعوضا عن ذلك أشارت بوضوح للتعاون الاقتصادي من خلال مجموعة العشرين.
رابعا:التعاون مقدم علي الأحادية
تبنت الوثيقة أيضا فكرة القيادة الجماعية للعالم, وكما جاء في الوثيقة :ليست هناك دولة واحدة,بغض النظر عن قوتها, تستطيع التصدي لكل التحديات العالمية بمفردها. وقد أطلقت الوثيقة علي ذلك مصطلح ## تجديد القيادة الأمريكية##, ولكنه في الواقع تراجع القيادة الأمريكية ونهاية الدور الانفرادي الأمريكي, وكان واضحا الحديث عن التعاون مع مراكز النفوذ الجديدة في الصين والهند وروسيا علاوة علي الدول التي يتزايد تأثيرها ونفوذها مثل البرازيل وجنوب أفريقيا وإندونيسيا علاوة علي الحلفاء التفليديين في أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية وكندا وأستراليا والشرق الأوسط.
خامسا: الحوافز مقدمة علي العقوبات
قدمت الوثيقة نظام الحوافز علي نظام العقوبات,فتبنت تقديم حوافز للدول التي تتصرف بمسئولية والتوسع في هذا الإطار وعدم اللجوء للعقوبات إلا في الحدود الدنيا عندما يتم استنفاذ آلية الحوافز تماما,معني هذا أيضا تقديم الدبلوماسية علي الحروب والحوار علي الصدام وتشجيع الدول في التخلي طواعية عن تمردها أو برامجها النووية مقابل حزمة من الحوافز المشجعة يتم الحوار حولها, ومع هذا لم تهمل الوثيقة الإشارة إلي كل من إيران وكوريا الشمالية باعتبارهما واقعيا رفضا نظام الحوافز ويتلاعبان بالحوار من أجل المماطلة وتضييع الوقت .
سادسا:الدعوة لصياغة نظام دولي جديد
ركزت الوثيقة علي النظام الدولي وأشارت إلي أهمية تعاون أمريكا مع النظام القديم بدلا من الخروج منه تدريجيا باعتبار أمريكا هي التي ساهمت بقوة في صياغة هذا النظام بعد الحرب العالمية الثانية سواء علي مستوي الأمم المتحدة ومؤسساتها أو علي مستوي النظام الاقتصادي الدولي. وألمحت الوثيقة إلي أهمية صياغة نظام دولي جديد قائما علي الحقوق والمسئوليات,وبأن تكون المؤسسات الدولية أكثر فاعلية في تمثيلها للعالم في القرن الحادي والعشرين بأن يكون فيها صوت أكبر ومسئوليات أكبر للقوي الناشئة, علاوة علي أن تحديث المؤسسات هو تعزيز الأعراف الدولية وفرض تطبيق القانون الدولي. طبعا هذا الكلام النظري يجد صعوبة شديدة في تطبيقه عالميا, فالنظام الدولي أقامه المنتصرون في الحرب العالمية الثانية, ويبدو أن هناك صعوبة في إعادة تشكيله ثانية بدون حرب جديدة تحدد القوي الجديدة في العالم.
سابعا: إنقلاب علي الرؤية التي سادت منذ 11 سبتمبر
هذه الوثيقة الجديدة في تقديري هي انقلاب شبه كامل علي الرؤية الاستراتيجية التي سادت منذ 11 سبتمبر 2001 حتي في الأولويات التي يواجهها الأمن العالمي مثل أمن الإنترنت والبيئة والمناخ وانتشار الأسلحة النووية, ولم يبرز الإرهاب باعتباره التحدي الرئيسي لأمن الولايات المتحدة وإنما جاء كواحد من هذه التحديات, ولهذا جاءت تسمية الوثيقة ## مراجعة استراتيجية الأمن القومي## وهي في الحقيقة انقلابا عليه, وأثناء قراءتي للوثيقة أشعر أنني أقرأ مقالة لأوباما, فهي تعبر تماما عن أفكاره وأسلوبه وروحه .
والسؤال هل الوثيقة تعبر حقيقة عن الرؤية الأمريكية الحقيقية, رؤية الشارع والقوي المختلفة, والاتجاه المحافظ, وحزام التدين في الجنوب؟
الإجابة: الكثير مما جاء بها في تقديري لا يعبر عن هؤلاء.