للولايات المتحدة استراتيجية استباقية تهدف إلي احتواء أية طموحات عربية نووية عسكرية مستقبلية مهما حصل للقدرات النووية العسكرية الإيرانية أو للترسانة النووية الإسرائيلية. وللجمهورية الإسلامية الإيرانية استراتيجية استباقية تستهدف أكثر من دولة عربية لإبلاغ واشنطن من خلالها أن إجراءاتها ستكون مكلفة لمصالحها ولحلفائها, حتي لو كانت عقوبات وليست ضربة عسكرية. وفيما تتحلي إدارة باراك أوباما بمظهر الاسترخاء في الثقة بالنفس في مشاريع احتواء طموحات العرب أو إحباط طموحات إيران وهي في صميمها لربما متوترة, تتصرف القيادة الإيرانية بشقيها المدني وشق الحرس الثوري بتوتر ملحوظ تتداخل معه رهانات إيرانية علي انحسار الهيبة الأمريكية وانحسار ثقة أطراف عربية مهمة بالولايات المتحدة الأمريكية مما يبعث بدفعة ثقة في الشرايين الإيرانية. هذه الرقصة المعقدة تنشر الرعب في عدد من الدول العربية لا سيما الصغيرة منها لأن مستقبلها يترنح علي إيقاع رقصة تثير الشكوك والحيرة. فالكويت, مثلا, تخشي ارتفاع وتيرة التوتر في صفوف القيادة الإيرانية و الحرس الثوري بالذات, وما تناولها الحذر لشبكة التجسس التي كشفت عنها سوي دليل علي خوفها من استدراج الضربة العسكرية لتنفيذ طموحات إيرانية إقليمية. دولة الإمارات العربية ذاقت طعم التهديد الإيراني المبطن والمتغطرس لأن وزير خارجيتها الشيخ عبدالله بن زايد وصف الاحتلال الإيراني للجزر الإماراتية بأنه احتلال كما الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية احتلال. لبنان بات يشار إليه بأنه الحلقة الأضعف في خذل أمريكي _ إقليمي له جعله ساحة مفتوحة علي المساومات والصراعات. العراق ما زال في موازين اللاحسم في تشكيل حكومته وتصميم مستقبله رهينة المساومات الأكبر ومن ضمنها المساومة الأمريكية _ الإيرانية. فلسطين تقع في فلك المقايضات, فيما القاعدة والتطرف العنفي _ أي الإرهاب إنما بحسب التسمية الأوبامية – تسلق مجددا إلي صدارة الأولويات مع استمرار انفصاله, عمليا, عن المعالجة الضرورية للقضايا المعلقة في فلسطين والعراق ولبنان وإيران. بعض الدول العربية الرئيسية مثل المملكة العربية السعودية ذهب إلي قراءة استباقية للاستباقية الأمريكية والاستباقية الإيرانية والاستباقية الإسرائيلية أيضا. وهذا بدوره مثير للاهتمام والقراءة المعمقة لتشابك العلاقات التقليدية والتجددية.
أحد المخضرمين في قراءة العلاقة الأمريكية _ السعودية _ الإيرانية لفت إلي أن الرياض ذاقت طعم الوصول إلي منتصف طريق الوعود والشراكات مع الولايات المتحدة حين حدث _ كما جرت العادة _ تكويع مفاجئ وهجرة أمريكية عن المسار المشترك. لذلك فالدبلوماسية السعودية في غاية الحذر في هذا المنعطف من العلاقة الأمريكية _ الإيرانية _ الإسرائيلية, ولا تريد أن تكون كبش فداء لها مهما حاولت الدبلوماسية الأمريكية أو الإسرائيلية الادعاء أن الدول الخليجية وعلي رأسها السعودية تخشي القدرات النووية العسكرية الإيرانية وتريد إيقاف هذه الطموحات بأي ثمن حتي بالضربة العسكرية.
واقع الأمر أن هذه الأقوال تبقي أمريكية وإسرائيلية وهي في معظمها ساذجة وغير صحيحة, فالدول المجاورة لإيران لا تريد ضربة عسكرية لإيران لأن الانتقام سيكون منها وعليها. قد ترغب هذه الدول في ضمانات أمنية من الولايات المتحدة وقد تكون مضطرة لقدر معين من التجاوب مع المطالب الأمريكية. إنما, وكما لفت الخبير المخضرم, أن تجربة ونموذج قطر في تجاهل مطالب الولايات المتحدة علي رغم استضافة قطر لأكبر قاعدة عسكرية أمريكية في المنطقة بعث رسالة مهمة عنوانها أن في الإمكان حقا الاستهتار بأميركا. وهذا بدوره بعث رسائل خطيرة قد تشجع أو تقود إلي سوء الحسابات أو الإفراط في الاستهتار. انما, حتي إذا وجدت الرغبة في التعاون, وليس التجاهل, فهناك أيضا سيرة أمريكية تحذر من وضع البيض كله في سلتها نظرا لتاريخها الحافل بالتخلي عن قدامي الأصدقاء والحلفاء, لا سيما العرب منهم في منطقة الشرق الأوسط. ولذلك, يجدر بصانعي السياسة الأمريكية في عهد إدارة أوباما الكثير من الحذر والدقة في التحليل, والقراءة المعمقة بدلا من الافتراض التلقائي أن ما يرسمونه علي طاولة التخطيط ستسير الدول العربية, أو إيران, في خطواته حتما. فإذا كان أقطاب إدارة أوباما يرسمون جميع السياسات علي أساس برنامج الانسحاب الأمريكي من العراق ومستلزمات ربح حربهم في أفغانستان, وإذا كانوا يضعون الجمهورية الإسلامية الإيرانية في مرتبة القوي الإقليمية القادرة علي تعطيل برنامجي العراق وأفغانستان, ستبقي السياسة الأمريكية خاضعة للخوف من الانتقام الإيراني وستبقي مكبلة. وهذا ما تفهمه جيدا قيادات عربية عدة, ولذلك, فهي لن تغامر إما نيابة عن الوهن الأمريكي أو انتحارا طوعيا منها, أي أن هناك وعيا وإدراكا للتخبط الذي يحيط بالسياسة الأميركية نحو إيران وحتي نحو حلفائها مثل سورية وحزب الله في لبنان. وهذا بدوره أدي إلي نوع من الانقلاب في سياسات دول مثل المملكة العربية السعودية نحو القيادة السورية ونحو حزب الله في لبنان والذي عبره توجه الرسائل الإقليمية إلي القيادة الإيرانية. وهذه رسائل طمأنة.
لكن التشكيك في كفاءة إدارة باراك أوباما في تناولها ملف إيران ومشتقاته وملف فلسطين وأبعاده قد يكون في غير محله. وهذا ما يجعل القيادة في طهران متوترة للغاية. إنها قيادة تفهم البرامج الزمنية وتتقن الصبر. لكن الحرس الثوري يتصرف في هذه الآونة بكثير من التوتر والاعتباطية وهذا بدوره أدي إلي تنامي الخوف, لا سيما في منطقة الخليج, من إفرازات هذا التوتر داخل الدول المجاورة لإيران.
بعض أسباب ارتفاع وتيرة توتر الحرس الثوري يتعلق بالوضع الداخلي وبوطأة العقوبات المزمع فرضها بقرار لمجلس الأمن _ إذا استمرت معاندة طهران للجهود الدولية وعلي رأسها جهود البرازيل وتركيا لإيجاد مخرج يمكن من المفاوضات بدل العقوبات.
هذه العقوبات تصاغ لتشكل ضربة قاسية للعمود الفقري لـالحرس الثوري, وهذا سيؤدي إلي تقليص نفوذه ليس فقط داخل البلاد وإنما أيضا تقليص قدراته علي النفوذ خارج إيران لا سيما في لبنان والعراق وأفغانستان وفلسطين, ثم أن تقييد أيدي الحرس الثوري في علاقاته الدولية مثل العلاقات مع الصناعات النفطية المهمة في دول كالصين وروسيا مثلا سيقلص دوره وسيعزله دوليا وإقليميا ومحليا.
ما يخشاه الحرس الثوري هو تلك الصفقة المبطنة التي تقدمها عمليا الدول الكبري, بما في ذلك الولايات المتحدة, وقوامها تقديم ضمانات الاعتراف بشرعية النظام كأمر واقع والتعهد ضمنا بعدم دعم المعارضة ضده, شرط تحييد الحرس الثوري وضبط قدراته ونفوذه ومقابل الموافقة علي التفاوض علي البرنامج النووي.
مكان الرئيس محمود أحمدي نجاد في مثل هذه التفاهمات والصفقات ليس أساسيا بقدر مكان الحرس الثوري في هذه المقايضات. ولأن الحرس الثوري قادر علي تعطيل مثل هذه الصفقات عبر التخريب في دول الخليج المجاورة لإيران أو عبر العراق ولبنان, فهو يبعث رسائله الاستباقية تحسبا وإنذارا. ولذلك يتنامي القلق والخوف من قيامه عمليا باستدعاء ضربة عسكرية علي إيران أو استدراج ضربة إسرائيلية علي لبنان تقلب المعادلة وتقضي علي صفقات المقايضة.
الزائرون الخليجيون إلي واشنطن أبدوا التخوف من التوتر الباليستي, بحسب وصف أحدهم, وإفرازاته علي الدول الخليجية ومنطقة الشرق الأوسط, وحضوا الإدارة الأمريكية علي تجنب مواجهة التوتر بالتوتر. حضوا علي عدم توفير الذرائع التي يجد الحرس الثوري فيها ملاذا آمنا, لكنهم حذروا أيضا من إساءة قراءة الوضع داخل بوتقة أقطاب الحكم في طهران. بكلام آخر, أبلغ الزائرون إلي واشنطن القلق العارم ليس فقط من مواقف إيران وإنما أيضا من غموض المواقف الأمريكية ورهاناتها.
الإدارة الأمريكية تبدو أحيانا واثقة من خطاها لا سيما بعدما ضمنت دعم الصين وروسيا وراء مشروع قرار في مجلس الأمن ما زال قيد المفاوضات في تفاصيله. أحيانا أخري, تتصرف هذه الإدارة وكأنها واثقة من أن لا قدرة لديها أو غيرها سوي التظاهر بأن إيران لن تملك القدرات النووية العسكرية. استراتيجيتها الاستباقية مع الدول العربية توحي وكأن التحدي الأهم لها اليوم هو احتواء طموحات عربية نووية قد تؤدي الي سباق نووي في حال امتلاك إيران السلاح النووي.
هذه الاستراتيجية الاستباقية تبدو وكأنها إيحائية, أي أن وضع عربة استثارة سعي إيران إلي امتلاك السلاح النووي لسباق تسلح إقليمي قبل حصان منع إيران من امتلاك هذا السلاح إما تهدف إلي الإيحاء بأن إيران ستصبح دولة نووية أو إلي الإيحاء بالسباق أو كليهما معا. في المقابل, لربما من بين أهداف الاستراتيجية الاستباقية مع الدول العربية حضها علي تعزيز اعتمادها علي الضمانات الأمنية الأمريكية, والتي يشكل مقابلها المالي مردودا ضخما ومفيدا للاقتصاد الأمريكي, وكذلك بتشجيع الدول العربية علي شراء الوقود للمفاعل النووية السلمية من جهات دولية بدلا من تخصيب اليورانيوم محليا مما يمكن من تحويل المفاعل لأغراض عسكرية.
وللتأكيد, ليست الولايات المتحدة وحدها المستفيدة من الإقبال علي النووي, بل إن فرنسا هي أول من صدر القدرات النووية وما زالت تسعي وراء مردود مادي من ورائها, وروسيا اليوم في طليعة الدول التي تبني المفاعل وتدخل صناعات توريد الوقود المثمرة شأنها شأن كوريا الجنوبية وغيرها.
ربما أدركت الدول العربية أنه ممنوع علي العرب أن يصبحوا قوة نووية تحت أي ظرف كان, ولذلك ارتأت أن لا مجال أمام أي منها للسعي وراء هذه القدرات. فالعراق تحول من أهم دولة عربية في ميدان التطور العلمي النووي إلي دولة مهمشة في أعقاب حرب عليه لحذفه من المعادلة العسكرية النووية, وليبيا أجبرت علي التعاون للتخلي عن طموحاتها النووية.
قد لا يكون أمام العرب خيار رفض الامتثال للاستراتيجيات الاستباقية, إنما أمامهم خيار تحويل المنطقة العربية إلي قوة مدنية ضخمة تدهش الذين اعتقدوا أن وسيلة الهيمنة الإقليمية هي امتلاك القدرات العسكرية النووية. فالاستراتيجية الحكيمة تأخذ في حسابها الإصرار علي ضمانات مسبقة في شأن إسرائيل وإيران مقابل التجاوب مع الاستراتيجية الاستباقية, مع أخذ كل التدابير التي تجعل من العرب قوة مدنية تردع الهيمنة عبر القدرة النووية.
الحياة اللندنية