يحتفل العالم هذا العام بمرور ستين عاما علي صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان , ومن المؤسف أنه علي الرغم من مرور أكثر من نصف قرن علي صدور هذا الميثاق الدولي الراقي إلا أن حقوق الإنسان لا تزال منتهكة في بقاع كثيرة من العالم, فما أكثر المظلومين والمضطهدين في كوكبنا.
لقد خلق الله الإنسان _ ذكرا وأنثي – في أجمل صورة إذ خلقه علي صورته, لذا فإن قيمة الإنسان غالية جدا لأنها مستمدة من الله مباشرة, كذلك فإن الإنسان وحده دون سائر الخلائق هو الذي يتمتع بإمكانية حضور الله في كيانه, فالكتاب المقدس يقول عن الإنسان المؤمن إنه هيكل الله وروح الله يسكن فيه, لذلك فإن قيمة الإنسان لاترتبط أبدا بحالته المادية أو بقدراته العقلية أو بجنسه أو بجنسيته أو بلونه أو عقيدته, فقيمته في الأساس تنبع من كونه مخلوقا في أجمل صورة علي صورة الله, كذلك فإن السيد المسيح أعطي قيمة غالية للإنسان عندما افتداه واشتراه بموته علي الصليب, فالمسيح لم يشتر الإنسان بفضة أو بذهب بل افتداه بدم كريم كما من حمل بلاعيب ولا دنس دم المسيح المعروف سابقا قبل كون العالم, وعلي الرغم من أهمية الكرامة الإنسانية التي حبا الله بها الإنسان, إلا أنه لم تظهر قواعد حقوق الإنسان كقواعد قانونية إلا في القرن السابع عشر في القوانين الداخلية لإنجلترا ضمن ما سمي بعريضة الحقوق لعام 1628, وميثاق الحقوق سنة .1689 ولكن كان باستطاعة البرلمان الإنجليزي أن يبطل هذه الحقوق, الأمر الذي يشير إلي عدم اعتبار هذه الحقوق حقوقا أساسية, ولكنها كانت البداية في النظر إلي الفرد كقيمة ومنحه عدة ضمانات لوضع حدود لسلطة الدولة وتعسفها, كذلك يمكن رصد بداية للتعبيرات الأولي عن حقوق الإنسان في الوثائق المختلفة التي أصدرتها عدد من دول أمريكا الشمالية قرب نهاية القرن التاسع عشر وعلي رأسها ميثاق الحدود الصادر في فرجينيا عام 1776, وإعلان استقلال الولايات المتحدة الصادر في نفس العام, وأيضا في الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان وحقوق المواطن الصادر في .1789 وفي القرن التاسع عشر أخذت دساتير الدول تتضمن بشكل متزايد تصريحات عن الحقوق الأساسية, ولكن في حقيقة الأمر كانت النقلة الفعلية لتلك القواعد علي الصعيد الدولي مع صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وويلاتها وما أصاب الإنسان في العالم كله من قتل وتشريد, وبعد خلاص العالم من الحركات النازية والفاشية وما ارتبط بها من اضطهاد وتعذيب وإهدار لآدمية الإنسان وتمزيق لوحدة الأسرة البشرية, أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة في العاشر من ديسمبر سنة 1948 الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وأعلنته ودعت جميع الدول الأعضاء إلي نشر هذا الإعلان وتعميق معانيه ومفاهيمه في مختلف أوجه الأنشطة الإنسانية . والإعلان يعتبر وثيقة إنسانية رائعة لأنه في مجمله يدعو إلي قيم المساواة والحرية والرحمة والحب, كذلك فإننا نجد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان يرفض كل أشكال التمييز بين البشر كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو الدين أو اللغة, كما أعطي الإعلان لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه دون أية تفرقة بين الرجال والنساء, ولولا الإحساس بالظلم والآلام والأوجاع والبؤس والحرمان والعذاب والأمراض لما كانت هناك في العالم أفكار عن حقوق الإنسان . وبنظرة واقعية لعالمنا المعاصر نجد أنه علي الرغم من التقدم العلمي والتكنولوجي الهائل في شتي المجالات إلا أنه من الواضح أننا نجد تقهقرا واضحا في حقوق الإنسان, فالعالم اليوم لا يعترف إلا بمنطق القوة فأصبحنا نعيش في شبه غابة موحشة يتصارع فيها المخلب والناب وأصبح البقاء للأقوي ولم يعد للضعفاء مكان وسط الأقوياء!! فأين من يدافعون عن حقوق الإنسان من المظالم الكثيرة التي تجري في العالم في وضح النهار والشمس مشرقة في أوج مجدها وقوتها ؟! أين المدافعون عن حقوق الإنسان من دماء الأبرياء التي تجري أنهارا في معظم بقاع الأرض ولاسيما في منطقتنا العربية ؟! هل أصبح مبدأ القوة هو المبدأ الغالب ؟ يصلح أن تكون القوة هي المبدأ الغالب في شريعة الغاب. أما الإنسان فقد منحه الله عقلا كبيرا مفكرا, إن القوة لا يمكن أن تحافظ علي بقاء جميع الناس وعلي نيل حقوقهم, حتي الأقوياء أنفسهم قد لا يستطيعون أن يحافظوا علي أنفسهم عند اتحاد الضعفاء, لذلك فإن الحقوق لا تجد مكانا إلا عندما يسيطر العقل والمنطق علي القوة. وإذا تركنا الحديث عن إهدار كرامة الإنسان علي المستوي العالمي فماذا عن المستويين العربي والمحلي؟!! إن كرامة الإنسان مهدرة بقوة في منطقتنا العربية علي الرغم من توقيع الدول العربية علي المواثيق الدولية لحقوق الإنسان وعلي اتفاقيات شتي مثل اتفاقية الإبادة الجماعية , والحقوق السياسية للمرأة. والقضاء علي التفرقة العنصرية. ومناهضة التعذيب , والقضاء علي كافة أشكال التمييز ضد المرأة , وحقوق الطفل . فكرامة الإنسان تهدر بقوة ووضوح لا تخطئه العين في هذه البقعة من العالم, وعلي الرغم من هذا نثور ونغضب عند ازدراء الأديان ولا يتحرك لنا ساكن عند ازدراء الإنسان !! وعن مصرنا المحروسة فكثيرا ما يتناسي الإنسان المصري مبادئ بديهية بسيطة حول احترام حقوق الإنسان مثال ذلك : مواكب الأفراح وما يصاحبها من كلاكسات السيارات بعد منتصف الليل الأمر الذي يسبب إزعاجا للكثيرين, وكذلك الضوضاء بشتي أنواعها, فهناك في المواصلات العامة من يرفع صوت المذياع إلي أقصي درجة ليصيب آذان كل من حوله بالأذي , وكذلك ما أكثر الذين لا يراعون آداب القيادة فيكسرون قوانين المرور ويقتحمون بسياراتهم خط سير الآخرين .فكل هذه الأمور وغيرها تجسم أسلوبا معينا لمعاملة الإنسان لأخيه الإنسان, واحترام حقوق الإنسان يبدأ بلفتات من هذا النوع بأن يراعي الفرد مشاعر وأحاسيس من يجاوره وهي لفتات في غاية البساطة ولكن ياتري متي سيتنبه إليها الإنسان المصري؟!!
إن احترام حقوق الإنسان -أي إنسان- هي المعيار الحقيقي لتقدم المجتمعات والأمم, فإذا أردنا أن نقيم مستوي دولة ما فلنطلع علي مدي احترامها لمعتقدات الآخرين ومدي احترامها لحرية العبادة وإقامة الشعائر الدينية, ومدي حرية بناء أماكن العبادة, ومدي احترام الدولة للمرأة واعتبارها كائنا إنسانيا كامل العقل وإعطائها كافة الحقوق أسوة بالرجل, إن مدي تقدم أية دولة يقاس بكيفية معاملة المريض بالمستشفيات بها ففي المستشفي يمكننا أن نكتشف إلي أي مدي يحترم الإنسان, وكذلك يقاس مدي تقدم الدولة بكيفية معاملة الأجنة, والأطفال, والفقراء, والضعفاء الذين ليس لهم سند, والمعاقين وذوي الاحتياجات الخاصة, والعاجزين, والمسنين, فهنا تحديدا نجد معيار التقدم لأنه في هؤلاء الأشخاص نجد ضعف الإنسان, وإذا كان هناك احترام وتقدير وابتسامة لهؤلاء الأشخاص الضعفاء, فهذا هو الدليل الأكبر علي تقدم شعب ما, وكذلك الحال في احترام المهمشين, والأقليات, واحترام المواطن العادي البسيط الذي ليس له وساطة .
إن التقدم الحقيقي ليس تقدما استهلاكيا بتشييد المصانع, وإنشاء الكباري, وبناء الكنائس وترميمها وتوسيعها وتزيينها فحسب, إنما التقدم الحقيقي ما لم يكن تقدما إنسانيا فهو ليس بتقدم علي الإطلاق, لأن معيار التقدم هو طريقة معاملة الآدمي معاملة إنسانية راقية, وبهذا المعني نحتاج أن نسأل أنفسنا بعد مرور ستين عاما من صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان : إلي أي مدي نحن متقدمون ؟!!!
[email protected]