إن حرية الرأي والتعبير والإبداع مكفولة للجميع طبقا للدستور المصري والمواثيق الدولية, وهذه الحرية هي أحد الأدلة القاطعة علي ممارسة الديموقراطية, ولكن عادة ما تواجه تلك الحرية بفكرة المصادرة وحظر النشر باعتبارها قيودا موضوعة في معصم حرية الرأي والتعبير والإبداع, وهناك الأمثلة العديدة علي هذا خلال رحلة الإبداع والتفكير المصري مثل محاولة مصادرة كتاب ألف ليلة وليلة وحبس ناشريه بزعم أن الكتاب يخدش الحياء العام, واستكمالا لهذا المسلسل قام فصيل من التيار الديني المتشدد باتهام أدب الأديب الكبير نجيب محفوظ بأنه يحث علي الرذيلة, وأن بعض رواياته تحمل فلسفة إلحادية, وعن تعليق المثقفين علي هذه التصريحات والرد علي التساؤل الذي يطرح نفسه هل ما يحدث الآن هو بداية عودة لعصر التخلف.
عالم محفوظ الثري
في البداية أكد الدكتور حسين حمودة أستاذ الأدب العربي بكلية آداب القاهرة أن اتهام أعمال نجيب محفوظ بأنها تدفع إلي الرذيلة أو اتهامها بالكفر اتهام غير صحيح علي الإطلاق, متصورا أن كثيرين ممن يسوقون مثل هذه الاتهامات لم يقرأوا عملا أدبيا واحدا له, فبعضهم يطلق هذه الاتهامات لأنه رأي أو شاهد بعض الأفلام المأخوذة من رواياته التي كانت مرتبطة برؤية سينمائية وليست برؤية محفوظ نفسه الذي سيظل مسئولا فقط عما كتب وليس عن هذا الفيلم أو ذاك, بالإضافة إلي أن بعض هؤلاء الذين يتهمون محفوظ يفعلون ذلك لأنهم سمعوا بهذه التهم ولم يحاولوا قراءة أعماله كي يحكموا بأنفسهم, والدليل المأساوي, علي ذلك يمكن أن نجده في الشبان الذين حاولوا اغتيال محفوظ, وعند التحقيق اتضح أنهم جميعا لم يقرأوا له جملة واحدة في أي عمل أدبي, مشيرا إلي أن مثل هذه الاتهامات تصدر عن نظرة ضيقة للأدب غير قادرة علي أن تميز بين عبارات تقولها هذه الشخصية وبين رؤية نجيب محفوظ الذي حاول أن يعبر عن المجتمع المصري بكل شرائحه وطوائفه, علي الأقل في بعض المدن, وهو ليس مسئولا عن أن هذه الشخصية أو تلك لا تتصف بالكمال, فالكاتب يتناول واقعه القائم ولا يختلق أو يصطنع مجتمعا لا وجود له, أما عن اتهام محفوظ بالإلحاد الذي ارتبط برواية أولاد حارتنا هو اتهام باطل أيضا, هذه الرواية مثلها مثل أعمال محفوظ الأخري تدعو إلي عالم أقل ظلما وأقل عدوانا وأكثر تسامحا ونبلا, ويجب أن تتم قراءة هذه الرواية انطلاقا من أنها تقدم ما يشبه الأمثولة عن الدعوات المتعددة للخير, والتي يرتبط بها البشر ويؤمنون بها في فترات بعينها ثم يبتعدون عنها تدريجيا.
أما إذا توقفنا عند الثلاثية التي يقول البعض إن بها شخصيات تحث علي الرذيلة فسوف نجد بجانب العوالم والراقصات منها شخصية فهمي الذي استشهد ومنها المثقف ومنها المتدين المسلم والمسيحي, وهكذا فهي رواية تعبر عن انتماءات متباينة من خلال شخصيات متعددة تصل إلي حوالي 55شخصية فكيف نتوقف عند بعض الجزئيات ونقول إن هذه هي الثلاثية, وهذا المعني نجده في أغلب أعماله الأخري مثل رواية القاهرة الجديدة ففيها شخصية اليساري والمتدين والصحفي العملي والانتهازي.
الهزل الأسود
في البداية يري الأديب إبراهيم أصلان أن هذه التصريحات المتشددة تدعو للسخرية فهي بمثابة نوع من الهزل الأسود الذي لا يستحق الوقوف عنده ولكنه في نفس الوقت نوع من أنواع النذير الشؤم علي مستقبل الثقافة في مصر في حالة صعود أسهم التيارات المتشددة في الحياة السياسية, ومن هنا يأتي دور جميع القوي الليبرالية والمثقفين -وهي قوي لا يستهان بها- في الحفاظ علي مكتسبات ومنجزات الحضارة علي مدي قرون طويلة حققها هذا الوطن, مؤكدا أن المثقفين سيناضلون لآخر قطرة من دمائهم في سبيل الحفاظ علي الحرية والكرامة الإنسانية وجميع المكتسبات التي ناضلت من أجلها البشرية علي مدي آلاف السنين.