منذ الآن, علي مؤرخي صعود وأفول الإسلام السياسي أن يتخذوا من إيران مختبرا لتحليل ورصد مصائر الإسلام السياسي الذي جعل من أساسيات مشروعه الديني- السياسي استئصال الحداثة الغربية من أرض الإسلام ليزرع علي أنقاضها ##الحداثة الإسلامية## بما هي ##إعادة الخلافة والتطبيق الكامل للشريعة##.
الثورة الإيرانية, كأول ثورة ظافرة في تاريخ الإسلام السياسي الحديث, نموذجية في محاربتها المدروسة للحداثة. فقد هيأت جميع التدابير واتخذت جميع الاحتياطات الضرورية لاجتثاث الحداثة الغربية بسد المنافذ التي يمكن أن تتسلل منها إلي وعي الإيرانيين وأسلوب حياتهم. بما أن المؤسسة المدرسية هي وسيلة أساسية لإعادة صياغة وعي الأجيال الجديدة, فقد بادرت القيادة الإسلامية إلي إغلاقها لمدة سنتين لأسلمة المناهج والكادر المدرسي لتأثيث الوعي الجمعي بالأحكام الشرعية والرؤية الإسلامية للعالم. طردت حوالي 40 ألف مدرس وجامعي من المشكوك في ولائهم للمشروع الإسلامي, أوقفت إرسال البعثات للجامعات الغربية ومنعت الطلبة من الالتحاق بها. و##حرصا علي الفضيلة##, ألغت الاختلاط بين الجنسين في المدارس والجامعات. كما شكلت ميليشيات رجالية ونسائية لفرض السلوك الإسلامي في الشارع, وحظرت السفور : يعاقب القانون الإسلامي من ##تسيء ارتداء الحجاب## بـ 15 يوما سجنا أو75 جلدة, وفرضت علي النساء اللون الأسود كحداد دائم علي الأئمة, وعلي غيبة الإمام الـ 12, ورجمت حوالي ألفي امرأة
بالمثل تمت أسلمة الإعلام, هذه الجامعة بلا جدران الضرورية لإعادة صياغة الشعور واللاشعور الجمعيين. منعت الصحافة الغربية وكذلك الدش (الأطباق اللاقطة) لمنع مشاهدة الفضائيات العالمية, وحظرت استيراد الأفلام الأجنبية.
حقيقة واحدة فاتت قيادات الإسلام السياسي, سواء في السودان حيث يقضي القانون الإسلامي بالجلد علي كل امرأة لا ترتدي الزي الإسلامي, أو في غزة حيث أصدرت الشهر الماضي قانونا إسلاميا يعطي للشرطة _ حرصا علي الفضيلة _ الحق في ##تفقد الأماكن الخاصة والعامة لمنع الاختلاط والسفور الفاضح## وعرض المناظر المثيرة للشهوات مثل العرائس البلاستيكية, وفرض الحجاب علي المحاميات… أو في إيران, حيث كل تعبير حر عن غرائز الحياة يعاقب بالسجن والجلد والرجم, هي حقيقة ##روح الحقبة## التي تعلو ولا يعلي عليها. الحداثة التي حاولوا سد منافذها بالحدود الشرعية الفتاكة, تسللت إليهم من حيث لا يحتسبون. المحامية السودانية المهددة بـ 40 جلدة رفضت عفو الرئيس السوداني عنها وهي مصرة علي حضور المحكمة بالبنطلون الذي يجرمه القانون الإسلامي ودعت السودانيين إلي مشاهدة حفلة جلدها بعد صدور الحكم عليها… مطلبها الوحيد هو إلغاء هذا القانون الإسلامي. نقابة المحامين ولجنة حقوق الإنسان والإعلاميون والمثقفون في غزة أدانوا قانون حماس الإسلامي التفتيشي. أما في إيران فحدث عن مقاومة الشريعة ولا حرج. قبل منع الاختلاط في المدارس والجامعات كان الشباب المدرسي والجامعي لا يمارس الجنس إلا بعد 3 شهور من التعارف في المتوسط. أما بعد منع الاختلاط فأصبح يمارسه منذ اللقاء الأول. في عهد الشاه كان معدل البغاء في إيران أقل بكثير من المعدلات العالمية. أما بعد فرض الحدود الشرعية العتيقة فقد تحولت إيران, بشهادة صحافتها, إلي ماخور بلا جدران تمارس فيه كل ألوان ##الرذيلة## تحت سمع وبصر ميلشيات ##الفضيلة##! يرفض سائقو التاكسي التوقف لنقل رجال الدين, ومنذ عام 1990 لم يعد اسما علي والحسين شائعين بين المواليد الجدد. فقد عوضا باسمين وثنيين : داريوش [اسم لملوك الأسرة الإخمينية] وأراش [البطل الأسطوري الذي رسم حدود إيران بأربع حجرات رماها في الاتجاهات الأربعة]. محاربة لهذه العودة إلي الأسماء ما قبل الإسلامية, أصدرت الجمهورية الإسلامية قانونا يمنع تسجيل الأسماء غير الإسلامية! تركت غالبية المؤمنين خاصة في المدن شعائر الإسلام. الجامع الذي كان يصلي فيه, في عهد الشاه, بين 3 و5 آلاف مصل لم يعد يصلي فيه إلا 15 في صلاة الصبح و25 في صلاة الظهر. ولأول مرة عرفت إيران ظاهرة الجوامع والمساجد الفارغة من المصلين. سنة 2000 كشف نائب رئيس بلدية طهران, حجة الإسلام علي زم, في تقرير البلدية السنوي أن 75% من الشعب و86% من الطلبة تركوا الصلاة. ردا علي هذا الترك الجماعي لـ##عماد الدين## رصدت الجمهورية الإسلامية شهر أكتوبر من كل عام للحث علي الصلاة. في ختام ولايته, اعترف الرئيس خاتمي للسفير الألماني بأن نسبة من يصومون رمضان هي 2% فقط وكانت في عهد الشاه أكثر من 80%. في مارس الماضي, أجرت المستشرقة الفرنسية , مارتين جوزلان, تحقيقا عن الثورة الإسلامية نشرته الأسبوعية الفرنسية ##ماريان## عنوانه الفرعي ##30 عاما من الثورة الإسلامية: 30% من الملحدين##! النسبة هائلة في مجتمع إسلامي شبه تقليدي خاصة, إذا علمنا أن 25% فقط من الأوربيين يقولون إنهم لا دين لهم و6% فقط يقولون إنهم ##ملحدون مقتنعون##. ألا يحق لرئيس ##اتحاد الملحدين بفرنسا## أن يصرخ مبتهجا: ##مرحبا بالثورة الإسلامية حتي في فرنسا## حيث نسبة الملحدين أقل بكثير منها في الجمهورية الإسلامية!
فمن الذي هزم مشروع الإسلام السياسي؟ ليس قطعا المخابرات البريطانية ولا المخابرات الأمريكية بل هو ##الجنرال## حداثة أبو السلاح الضارب, ثورة الاتصالات, التي قضت علي قابلية المجتمعات المغلقة للحياة. الإسلام السياسي بمشروعه المضاد للحداثة, لا يملك مجتمعا بديلا لمجتمعه الإسلامي المغلق تعريفا إلا إذا غير طبيعته, أي تخلي عن الشريعة بما هي الولاء والبراء أي كراهية الكفار ومن يتحالف معهم من المسلمين, و##الجهاد إلي قيام الساعة## وتطبيق للحدود الشرعية…, كما فعل حزب العدالة والتنمية التركي الذي لم يعد من الممكن سياسيا وسوسيولوجيا تصنيفه في الإسلام السياسي الذي تجاوزه بتحقيق 3 انتقالات حاسمة: انتقال من الشريعة إلي القانون الوضعي بإلغاء عقوبة الإعدام والزنا وإعطاء المسلم الحق في تغيير دينه; والانتقال من الجهاد, لتحرير فلسطين, إلي فاعل متحمس للسلام العربي الإسرائيلي; وأخيرا الانتقال من وسواس وحدة الأمة بما هي##جسد واحد## إلي بداية اعتراف واعدة بالأقليات بدءا بالأقلية الكردية بإنشاء تليفزيون يبث بالكردية وتعليم اللغة والأدب الكرديين لأول مرة في الجامعة. وهكذا انتقل حزب أوردوغان من الإسلام السياسي, المتموقع في أقصي يمين المسرح السياسي, إلي وسط اليمين, الوحيد المقبول اليوم سياسيا. مثلما انتقلت أنظمة ومنظمات أقصي اليسار الأمريكية اللاتينية إلي وسط اليسار الوحيد القابل للحياة سياسيا. ومنذ الآن غدا انتقال حزب العدالة والتنمية إلي وسط اليمين مقياسا لانتقال أنظمة وتنظيمات الإسلام السياسي الأخري إلي ذات الموقع إذا وعت ضرورة إنقاذ نفسها من السقوط بحروب داخلية أوخارجية أو بقائها كتنظيمات علي الهامش.
ثورة الاتصالات تحمل لشباب ونساء مجتمعات الإسلام السياسي المغلقة تثقيفا ذاتيا مضادا للثقافة الشرعية المفروضة عليهم, وإعلاما مضادا للإعلام الإسلامي الرسمي الفاقد للمصداقية. وهكذا أطاحت بالتعليم والإعلام اللذين أراد بهما الإسلام السياسي تطويع الوعي الجمعي لسيطرته الإيديولوجية. ثورة الاتصالات جعلت بكل بساطة بقاء المجتمعات المغلقة علي الحداثة وتيارات العولمة استحالة في القرن الحادي والعشرين. إذ أنها جعلت البشرية تعيش في بيت من زجاج لا تخفي فيه خافية عن عين قناة سي إن إن والإنترنت … ثورة الاتصالات تقدم للشعوب التي يحكمها الإسلام السياسي صورة عن الحقبة التاريخية التي تعيش فيها تختلف راديكاليا عن نظام الإسلام السياسي التي ترزح تحته : عالم النقاش الحر والمتعارض بلا محرمات, عالم علماني يتعايش فيه الفردي, الخاص والكوني في سلام, عالم النسبية والشك اللذين لا يتساكنان تحت سقف واحد مع هذيان الحقيقة المطلقة واليقين الأعمي الملازمين لفقه الإسلام السياسي, عالم الفرد, الصانع لقيمه والمقرر لمصيره في الحياة اليومية بنفسه, والمتصرف بحرية في جسده بما هو كل لا انفصام له, بين جسم بشري خبيث وروح إلهي طاهر, كما هو في شرائع الإسلام السياسي; عالم الفرد المالك لرأسه يفكر به كيف شاء, هذا المفهوم المعاصر للجسد الذي استرد وحدته واعتباره واستقلاله وقيمته كف عن كونه موضوعا لحقوق الله, أي حدوده الشرعية البدنية, كما كف عن كونه ملكا للعائلة أو للعشيرة أو للأمة يعاقب بأشد العقوبات البدنية بشاعة كالجلد والرجم إذا حاول الفرد تحريره من هذه المصادرة التي تفرضها شريعة الإسلام السياسي. مفهوم الجسد المستقل والحر والفردي الذي عممته ثورة الاتصالات في العالم كله أصاب في مقتل مفهوم الجسد المصادر من ميليشيات الإسلام السياسي ونظامها الأخلاقي الشرعي المتقادم. من هنا التمرد علي اللباس المفروض علي المرأة في إيران والسودان وغزة; كما علي الزواج الإجباري وعلي الجلد والرجم حتي الموت, المرادفة جميعا في وعي البشرية المعاصرة الجمعي للعودة قرونا إلي ما قبل الحضارة.
ثقافة الكراهية لـ ##الشيطان الأكبر## وتصدير الثورة والجهاد التي نشرها وصدرها الإسلام السياسي الإيراني ماتت في وعي الشعب الإيراني, الذي يتطلع إلي ظهور حكومة رشيدة تقيم علاقات ودية مع دول الجوار والغرب, وتشجع الحوار والتبادل الثقافي والتجاري والتنمية الاقتصادية والاستقرار. الكراهية في إيران غيرت معسكرها فلم تعد للغرب بل غدت لحزب الله وحماس وميليشيات العراق المتهمة جميعا بأنها ##تأكل خبز الإيرانيين##. مثلما أن الدعاء بالموت لم يعد لـ ##أمريكا## بل لـ ##الديكتاتور## أحمدي نجاد!
ردا علي مجتمع الإسلام السياسي الإيراني المغلق الذي فرضته ##حكومة الله## كما سماها الإمام خميني, ردت غالبية الإيرانيين بتحويل مساكنهم إلي مجتمعات مصغرة مفتوحة تباح فيها جميع محرمات المجتمع الإسلامي المغلق, من الكحول إلي الجنس مرورا بالرقص والموسيقي والأغاني والتبرج والأزياء والعادات الغربية التي تحرمها وتجرمها شريعة ##حكومة الله##; وينزع النساء الحجاب والثياب السوداء التي أرغمن, تحت طائلة الجلد, علي ارتدائها حدادا علي الأئمة … ويلبسن الألوان الباسمة…
يسود اليوم في الجمهورية الإسلامية مناخ علماني لم تعرفه إيران قط في أوساط الطلبة والمثقفين والنساء والطبقات الشعبية الحضرية. في جنوب طهران الفقير يرفض الناس الاستماع إلي دعاة ##مجاهدي خلق## المعارضة قائلين لهم : ##أنتم أيضا متدينون مثلهم##! طلبة مدرسة قم المتخصصة في تكوين الملالي, لا يرون مستقبلا للجمهورية الإسلامية خارج العلمانية! كيف نفهم هذه الظاهرة المحيرة : كلما كانت الحكومة إسلامية كلما قل اهتمام المسلمين بالإسلام, فيتركون شعائره ويستخفون بمحرماته ومقدساته. بل ويضعون ثوابته موضع تساؤل وشك؟
وظيفة الدين الأساسية هي أن يكون ملاذا عندما ينسد كل ملاذ دنيوي. تحت كل راشد طفل لابد تحركه رغبات الطفولة اللاهبة في الأمن الذي يؤمنه أب حام عطوف. الرب هو الرمز لهذا الأب الذي يشكو إليه الابن ضره كلما عدت عليه العوادي. في ظل ##حكومة الله## يفقد الله قيمته كملاذ. والفقهاء الذين غادروا المساجد إلي الإدارات والوزارات يضيعون وظيفتهم الرمزية كملاذ وتتآكل شرعيتهم الدينية. سقوط هيبتهم الروحية ينعكس سلبا علي الإسلام الذي ينطقون ويفتكون باسمه. 5 سنوات بعد الثورة الإسلامية, عاد الكاتب المصري المعروف عادل جندي إلي إيران. سأل صديقه الإيراني: كيف تري الوضع اليوم في إيران؟ أجابه: ##في عهد الشاه كنا نشكو الشاه إلي الله, والآن لا ندري لمن نشكو الله## في ظل حكومة الله ! لعل هذا ما وعاه أخيرا منير شفيق, سيد قطب الإسلام السياسي المعاصر, عندما نصح قادة الإسلام السياسي بالبقاء الدائم في المعارضة تجنبا لمخاطر تولي مقاليد الحكم, فقد عاين أن ظهور الحكومة الإسلامية يتزامن مع اختفاء الملاذ الديني وانفتاح باب الخروج من الدين علي مصراعيه!
نداء إلي قرائي
منذ 6 شهور لم أكتب لكم إلا 3 مقالات. لماذا ؟ لأني عاجز عن الكتابة وفقري لا يسمح لي بتوظيف سكرتير. هذا المقال تطوع لكتابته الصديق د. أنور مغيث, أستاذ الفلسفة بجامعة حلوان. ولست أدري من سيتطوع لكتابة المقال الرابع ولا متي؟.
*مفكر تونسي مقيم بباريس