وكأن النظام السياسي الفلسيني المأزم أصلا وقع في مثلث برمودا وأضلاعه:الانتخابات والمصالحة الوطنية والتسوية السياسية.كان من المفترض أن تشكل هذه العناصر مخرجا للنظام السياسي وحلا مشرفا للقضية الوطنية برمتها,بدلا من ذلك تحولت لعقبات تعصف بالنظام السياسي وبالقضية الوطنية.لأن الانتخابات جاءت خارج سياق التطور الطبيعي للنظام السياسي الفلسطيني-سياق مرحلة التحر الوطني-وأقحمت علي الحالة السياسية قبل وجود اتفاق علي الثوابت والمرجعيات وقبل إنجاز التسوية,فقد فشلت الانتخابات التشريعية والرئاسة التي جرت منذ تأسيس السلطات الفلسطينية عام1994 في إخراج النظام السياسي الفلسطيني من مأزقه,كما فشلت في نشر وتعزيز ثقافة الديموقراطية,بل أصبحت الانتخابات بحد ذاتها موضعا للخلاف,حيث تشهد الساحة الفلسطينية وخصوصا بعد الإنقلاب الذي أقدمت عليه حركة حماس في قطاع غزة في يونيه 2007 وبعد فشل محاولات المصالحة التي جرت في القاهرة,جدلا محتدما حول شرعية المؤسسات القائمة-رئاسة وتشريعية وحكومية-المستمدة من الشرعية الانتخابية,ومع صدور مرسوم رئاسي يوم23 أكتوبر يعلن أنه ستجري انتخابات رئاسية وتشريعية يوم25يناير 2010 حسبما ينص القانون الأساسي,أصبحت الانتخابات أكثر إثارة للاختلاف حيث رفضت حركة حماس وفصائل أخري هذا المرسوم معتبرة أن اللجوء للانتخابات قبل المصالحة تكريس للانقسام وأن المرسوم صدر عن من لا ولاية له.
خلال خمسة عشر سنة من عمر السلطة الفلسطينية شهدت مناطق السلطة عمليتين انتخابيتين تشريعيتين:في عام1996 وعام2006,وانتخابات رئاسية لمرتين بالإضافة للانتخابات البلدية,ومع ذلك لم تفلح هذه الانتخابات في حل أزمات النظام السياسي أو في خلق شراكة سياسية حقيقية أو في حسم مشكلة الثوابت والمرجعيات.فإذا كانت الانتخابات فشلت في ظل وحدة السلطة والحكومة وقبل حدوث الانقسام بالقطيعة فالعداء ليس فقط بين حركتي فتح وحماس بل بين الضفة وغزة,فهل ستنجح الانتخابات في حل العقبات التي تواجه النظام السياسي والحالة السياسية برمتها في ظل الانقسام الذي تغذيه قوي عربية وإقليمية بالإضافة لإسرائيل؟
إن أية مقاربة موضوعية للاستحقاق الانتخابي في مناطق السلطة ستصل لنتيجة مفادها صعوبة فصل الانتخابات عن المصالحة الوطنية وفصل هذه الأخيرة عن التسوية السياسية فالمخططون الأوائل للتسوية والذين جعلوا الانتخابات أحد استحقاقات هذه التسوية,لم يكن هدفهم تأسيس دولة فلسطينية ديموقراطية بل أهداف أخري أهمها:دفع القيادات والنخب للتخلي عن الشرعية الثورية والجهادية وإلزامها بشرعيات تلزمها باستحقاقات دولية وتعاقدية مبهمة وأمر تنفيذها مرتهن للإرادة الإسرائيلية,انتخابات هدفها أيضا خلق حالة من التنافس والصراع بين النخب والأحزاب السياسية علي منافع لسلطة تحت الاحتلال,الكل يعلم أنها سلطة لا تملك من أمرها شيئا,خلق تنافس وصراع يبعد هذه القوي عن المواجهة الحقيقية مع إسرائيل وهذا ما نشاهده اليوم.بدأ الأمر مع حركة فتح وبعض فصائل منظمة التحرير حيث تحول مقاتلو هذه الفصائل لموظفين ينتظرون الراتب نهاية كل شهر,ومن ليس موظفا في السلطة يقتات علي ما تجود به السلطة علي الفصائل المتحالفة والمؤيدة لها أو ما تجود به الدول المانحة علي المؤسسات الأهلية.ولأن المخطط نجح مع فصائل منظمة التحرير فقد انتقل لحركة حماس,حيث سعت حماس لاكتساب شرعية دستورية ودولية تسمح لها بالتسلل للهيمنة علي السلطة وإزاحة مرجعية منظمة التحرير الفلسطينية للحلول محلها سعت للدخول للنظام ليس لاستكمال مشروع التحرر الوطني أو الجهادي بل لتخفي فشل مشروعها الجهادي والطريق المسدود الذي وصلت له.قبل أن يكون الانقلاب والذي لم يكن بعيدا عن تكفير قيادة حركة حماس,قررت حركة حماس وبنصيحة أطراف عربية الدخول من بوابة الانتخابية,التي بدأت بالانتخابات البلدية ثم الانتخابات التشريعية,وعليه فإن الدخول في الانتخابات لم يكن تعبيرا عن الإيمان بالديموقراطية والرغبة بالمشاركة السياسية في إطار ثوابت ومرجعيات النظام السياسي والمشروع الوطني بل كوسيلة للانقلاب علي هذا النظام والمشروع الوطني.
ومن هنا فإن دخول حركة حماس للانتخاباب قبل أن تتوافق مع السلطة وبقية القوي السياسية علي أسس وثوابت النظام الذي تزمع دخوله من خلال الانتخابات,أدي لفشل الانتخابات في تحقيق هدفها وهو إصلاح النظام السياسي,بل أدت الانتخابات لتعميق أزمة النظام السياسي وحدوث اقتتال وحرب أهلية ثم الانقسام.ولأن حركة حماس كانت ومازالت تدرك خصوصية المرحلة التاريخية التي دخلت فيها الانتخابات وتعلم أن الأحوال لم تعد هي الأحوال سواء فلسطينيا أو إقليميا أو دوليا,وتعلم أن الانقسام ترك تداعيات من الصعب الرجوع عنها,فإنها ترفض اليوم العدوة للاحتكام لصناديق الانتخابات وتبحث عن ذرائع للتهرب من الانتخابات,وإن كانت بعض هذه الذرائع مقنعة نظريا ومفهومة وطنيا إلا أن أغلبها بات مكشوفا.
في حالة كحالة الشعب الفلسطيني كان من الأنسب لو أخذ الأمر شكل التوافق والتراضي بدلا من اللجوء للانتخابات,أو أن تكون الانتخابات لاحقة للتراضي والتوافق,بحيث تختلف الأحزاب والقوي السياسية حول البرامج وتتفق حول ثوابت الأمة والنظام السياسي كما هو الأمر في الدول الديموقراطية في هذه الحالة فإن من يفوز بالانتخابات يمارس السلطة ويطبق برنامجه السياسي في إطار ثوابت الأمة ومرتكزات النظام السياسي ومن يفشل في الانتخابات يمارس حقه في المعارضة ولكن في رطار نفس الثوابت والمرتكزات.إذن بالرغم من أهمية الانتخابات كآلية لحل الخلافات إلا أنها لوحدها ليست وسيلة مضمونة لحل الخلافات السياسية وخصوصا إن كانت خلافات الثوابت والخيارات الكبري للأمة وفي ظل غياب ثقافة وقيم الديموقراطية وغياب الإرادة الحقيقية والإيمان بالشراكة السياسية وبثوابت الأمة.
المرسوم الرئاسي باللجوء للانتخابات في موعدها المحدد بالقانون الأساسي صحيح قانونيا ولا قيمة للغط حول نهاية شرعية الرئيس,بل نعتقد أنه لو لم يصدر الرئيس هذا المرسوم لوجدنا أيضا من يثير الشكوك والتفسيرات السلبية حيث سيقال إن الرئيس يخشي من اللجوء للانتخابات لأن شعبيته تراجعت,أو يقال إنه لا يريد الاحتكام للانتخابات لأنه يريد تكريس واقع الانقسام إلخ.ما تقوله حركة حماس من الربط ما بين إجراء الانتخابات والمصالحة كلام صحيح نظريا ولكنه ليس صحيحا قانونيا وغير برئ سياسيا,فحركة حماس دخلت انتخابات يناير2006 علي نفس القانون الأساسي الذي اعتمد عليه الرئيس أو مازن في إصدار مرسوم23أكتوبر الحالي حول موعد الانتخابات,وهي لم تشترط آنذاك أن تكون الانتخابات لاحقة للمصالحة والتوافق الوطني,كما أن هذا القانون الأساسي لا يشير من بعيد أو قريب للربط ما بين المصالحة والانتخابات,كنا ومازلنا نتمني حدوث مصالحة وتوافق وطني قبل الانتخابات بل نتمني أن تحل المصالحة والتوافق الوطني محل الانتخابات التي تحولت لمصدر فتنة,إلا أن الانقسام الحاصل اليوم ووجود أطراف داخلية وخارجية معنية باستمراره يصعب من فرص التوصل للمصالحة قبيل الموعد المقرر للانتخابات,وبالتالي يطرح تحديات أمام إجراء الانتخابات,خصوصا إذا تذرعت القوي المستفيدة من الانقسام وغير الراغبة بالمصالحة بالإصرار علي أن تسبق المصالحة الانتخابات وفي نفس الوقت تضع العصي في دواليب عجلة المصالحة ختي تعطل الانتخابات وبالتالي تحافظ علي الوضع القادم.لذلك وبسبب ارتباط الانتخابات بالمصالحة والمصالحة بالتسوية السياسية فقد بات رهن العملية الانتخابية بالمصالحة الوطنية والاتفاق علي الثوابت والمرجعيات وبالرغم من صحته النظرية يحتاج لحلول إبداعية تتجاوز المسألة الانتخابية لتشمل مجمل القضية الوطنية بأبعادها الإقليمية والدولية.
في ظل تراجع مشروع السلام وتعثر التسوية السياسية التي راهنت عليها السلطة الفلسطينية,وفي ظل وصول المقاومة الفصائلية العبثية لطريق مسدود,ولأن إسرائيل هي المستفيد الأكبر من حالة الانقسام وبالتالي معنية باستمرارها من خلال تحكمها بالجغرافيا وتحكمها بالتسوية…فلا أفق لمصالحة وطنية تنهي حالة الانقسام وتعيد وحدة الضفة وغزة تحت سلطة وحكومة واحدة حتي في ظل الاحتلال.المصالحة الوطنية الحقيقية لن تقوم إلا إذا اعترف كل طرف-حماس وتنظيم فتح- بفشل مشروعه وبالتالي يكون مستعدا لإعادة النظر في مجمل سياساته وعلاقاته الداخلية والخارجية,وهي لن تقوم إلا إذا اتضحت معالم التسوية السياسية القادمة,ولكن يبدو أن الأطراف الفلسطينية غير مهيئة لذلك,إما بسبب الأيديولوجيا أو بسبب الأرتباطات بأجندة خارجية أو بسبب تشكل نخب بداخلها مستفيدة من بقاء الأمور علي حالها ومن هنا فإن السيناريوها المتوقعة خلال الأشهر إن لم يكن السنوات القادمة تؤشر كلها لاستمرار عملية الانقسام,وما المشكلة المثارة حول الانتخابات إلا ذريعة لاستمرار عملية الانقسام.هذا لا يعني التسليم للأمر الواقع بل دعوة للتفكير بمفهوم جديد للمصالحة والشراكة السياسية مصالحة وشراكة تتجاوز السلطة والحكومة واستحقاقاتهما,وعلينا أن نتذكر دوما أن السلطة والحكومة مقحتمان علي القضية الوطنية وهما نتاج تسوية مفروضة عمرها خمسة عشر عاما فقط,وأمرهما مقتصر علي الضفة وغزة,فيما عمر القضية الوطنية أكثر من ستين عاما بل يمكن إرجاعها لزمن سابق بكثير,وهي قضية تخص أكثر من عشرة ملايين فلسطيني وغير منقطعة الصلة بالعالمين العربي والإسلامي.
كاتب فلسطيني
Ibrahem [email protected]