أود, في هذا العرض, أن أطرح ثلاث نقاط تنبعث من كتاب إدوارد سعيد الاستشراق و/أو تتعلق به. ترمي النقطة الأولي إلي إبراز جانب سياسي معين من جوانب كتاب سعيد الشهير. فقد كان سعيد, بوصفه أمريكيا مخلصا وفلسطينيا ملتزما علي حد سواء, عميق العناية وشديد القلق حيال ما أدعوه بمفارقة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط العربي بوجه عام, وإزاء فلسطين والفلسطينيين بوجه خاص. ذلك أنه في حين تقع جميع مصالح أمريكا الحيوية واستثماراتها النفطية في العالم العربي, إلا أن استراتيجياتها وسياساتها لطالما انحازت إلي إسرائيل ودعمت أهدافها التوسعية ذلك الدعم غير المشروط, وكل ذلك علي حساب العرب وبأذية بالغة ألحقت بالفلسطينيين.
منذ ولادة دولة إسرائيل شكلت هذه المفارقة مصدر إحراج بالغ (بل مصدر تهديد) بالنسبة للأنظمة العربية التي تحالفت مع الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة. وقد احتاجت هذه الأنظمة جميعا, ودوما, إلي ##تفسير## ما لما تبدو عليه أمريكا من عدم القدرة علي إنتاج سياسات تتناسب مع مصالحها الحيوية في المنطقة من جهة أولي, ومن عجز عن تلبية الحد الأدني من توقعات أصدقائها المقربين وحلفائها الاستراتيجيين العرب, من جهة ثانية. والنظرية السائدة -التي لطالما حبذتها المملكة العربية السعودية ورعتها- تنحو باللائمة في ذلك علي المنظمات, والقوي, وجماعات الضغط, والمصالح الخاصة, واللوبيات, ورؤوس الأموال, ووسائل الإعلام, والمؤامرات اليهودية-الصهيونية في تشويه تقدير أمريكا لمصالحها الحيوية في الشرق الأوسط, وفي إساءة تحديد الجهة التي ينبغي أن تقف بجانبها في المنطقة. وهذه أمثله علي الكيفية التي فعل بها هذا التكتيك فعله في الممارسة, وهي أمثله مستمدة من بعض الإعلانات والتأكيدات السياسية العربية السابقة:
(أ)- ##وهكذا نجحت القوي الصهيونية والأمريكية المؤيدة لإسرائيل في جعل الرئيس الأمريكي يتراجع عن التزامه بعبارة الحقوق المشروعة لشعب فلسطين##.
(ب)- ##استسلم الرئيس الأمريكي للضغوط الصهيونية وتخلي عن مساندة الحقوق العربية##.
(ج)- ##إن أصدقاء إسرائيل في الكونجرس والخارج مارسوا الضغط علي الرئيس الأمريكي وأقنعوه بعدم الإفصاح عن آرائه الحقيقية علنا نظرا إلي أثارها الضارة بالنسبة لإسرائيل##.
ولقد عمل هذا التفسير بصورة ملائمة علي إعفاء الرئيس الأمريكي من مسئوليته عن سياسات لا تحظي بأية شعبية في العالم العربي, كما عمل علي التخفيف من إحراجات أنظمة المنطقة التي تربطها بذلك الرئيس أوثق التحالفات. والحال, أن الحكام العرب راحوا يزعمون, في دعايتهم وقتها, أنهم قد حققوا تقدما علي صعيد تبديد المفارقة التي تعاني منها السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط بمساعدتهم الأمريكيين علي أن يروا, بصورة صائبة وواضحة, أين تكمن مصالحهم الحيوية طويلة الأمد في المنطقة العربية.
وما أريد قوله هنا, هو أن كتاب إدوارد سعيد, الاستشراق, قد قصد أيضا إلي تقديم تفسير أشد إتقانا ورهافة لمفارقة السياسات الأمريكية في العالم العربي باللجوء إلي نظرية الخطاب الفرنسية في طبعتها الفوكوية (نسبة إلي ميشيل فوكو). فما يشوه الرؤية الأمريكية في المنطقة ويحدد ما تنتهجه هنالك من سياسات ضارة هو سجن الخطاب الاستشراقي الضخم الذي بني خلال قرون واستوعبه الآن جميع صناع القرار, وراسمي السياسات, والمدراء, والحكام, والدبلوماسيين, والخبراء, والمختصين, والأكاديميين, والموظفين, والقادة العسكريين, والمساعدين الغربيين (خاصة الأمريكيين), في تعاملهم مع هذا الجزء من العالم. فحوالي نهاية كتابه يشرح سعيد موقفه علي النحو التالي:
إن لمنظومة التخيلات الأيديولوجية التي أدعوها بالاستشراق نتائجها الخطيرة ليس لأنها مشينة فكريا وحسب, فالولايات المتحدة تستثمر اليوم بكثافة في الشرق الأوسط وعلي نحو يفوق الكثافة التي نجدها في أي مكان آخر علي وجه الأرض: وخبراء الشرق الأوسط الذين يسدون النصح لصناع السياسة قد تشبعوا بالاستشراق جميعهم دون استثناء. ومعظم هذا الاستثمار مبني علي الرمال, إذا ما استخدمنا هذه الاستعارة الملائمة بما يكفي, ذلك أن الخبراء يقيمون السياسة علي أساس تجريدات يسهل تسويقها مثل النخب السياسية, والتحديث, والاستقرار, ولا يعدو معظمها أن يكون صورا نمطية استشراقية قديمة أسبغت عليها رطانة سياسية, ولا يصلح معظمها البتة لوصف ما حدث مؤخرا في لبنان أو قبل ذلك في المقاومة الفلسطينية لإسرائيل.
ولاشك في أن الكتاب قد رمي إلي تبديد هذا التشوه -بفضح الجهاز الاستشراقي الهائل الذي يشكل أساسا له- علي أمل التوصل إلي سياسات أمريكية أحسن وأكثر واقعية حيال العرب عموما والفلسطينيين بشكل خاص, وإبراز هذا الجانب من كتاب سعيد, الاستشراق, إنما يكشف كم كان هذا الكتاب سياسيا في العمق وكم كان فلسطينيا في حقيقته.
وفي النقطة الثانية, أود أن أنطلق من مثال علي ##الاستشراق## بالمعني الأسوأ الذي يسبغه سعيد علي هذا المصطلح, وهو مثال مستمد من كتاب جوناثان رابان, بلاد العرب في المرآة:
أن تحيي في اللغة العربية يعني أن تحيي في متاهة من الالتواءات الزائفة والمعاني المزدوجة. فما من جملة تعني بالضبط ما تقوله. وكل كلمة يمكن أن تكون طلسما يستحضر شبح عائلة الكلمات المتحدرة منها بأكملها. أما النحو العربي فهو خرافي في تعقيداته المراوغة. العربية لغة أقيمت تماما لكي تعبر بفصاحة هائلة عن لا شيء, لغة تكـلف محض لا يكاد أن يكون فيها أية معان حرفية علي الإطلاق ويشكل الإيماء الرمزي فيها كل شيء. والعربية تجعل الإنجليزية تبدو ساذجة, والفرنسية مجرد رطانة يرطن بها خبراء المحاسبة وأسعار السوق. ويكفي أن تحدق عبر شق في حائط هذه اللغة لكي تري عمق وقتامة غابة الالتباس تلك. فلا عجب إذا أن القرآن قد ذاع صيته علي أنه لا يترجم.
من الواضح هنا أن العربية يحكم عليها (ويري أنها شديدة العوز), تبعا للمبادئ التي يشتمل عليها التصور الديكارتي للغة, وهو تصور يقوم ضمنا علي مذهب ##الأفكار الواضحة والمميزة##, وعلي صدارة الاستدلال شبه المنطقي من نمط: ##أنا أفكر فإذا أنا موجود##, وعلي الطبيعة المنطقية التي يجب أن يتسم بها كل قول أو فهم أصيل, وعلي الإمكانية الكاملة لتحديد المعني القابل للإيصال وتمييزه.
فإذا ما تحولنا الآن إلي مقاربة للغة تفكيكية ما بعد حداثية تقوم علي مبادئ مثل انفصام كل من العلامة والدال والمدلول عن بعضها, وعلي المخادعات التي تنطوي عليها تقلبات المعني إلي ما لا نهاية, وعلي ما يتسم به المعني من ارتياب دائم, وعلي أنماط الالتباس السبعة عند ناقد ومنظر أدبي كبير مثل وليم إمبسون, وعلي ما يتصف به انعكاس الفكر علي ذاته من ضروب العبث وما إلي ذلك من مبادئ تفكيكية مشابهة, ألا تبدو العربية التي يصفها رابان أشبه باللغة المثلي بالنسبة لمن أثقله القلق من ##دازاينات## الشرط الإنساني ما بعد الحداثي كما بالنسبة لمقدرة هؤلاء علي التعبير عن حالهم؟
بروحية مماثلة, يتبني داريوش شايغان نظرة مشابهة (ويوردها باستحسان) عبر عنها مستعرب فرنسي مشهور هو جاك بيرك. يقول شايغان: ##يلاحظ جاك بيرك بحق, في إشارة إلي روح اللغة العربية, أن اللسان العربي, الذي تفضي فيه كل كلمة من كلماته إلي الله, قد صمم لحجب الواقع, وليس لفهمه##. ويعيد ماليز روثفن, في كتابه الممتاز الإسلام في العالم, إنتاج هذا النوع من الأحكام باقتباسه وصف جوناثان رابان اللغة العربية الواردة أعلاه ومن ثم تأكيده: (أ) أن العربية تمتنع علي الترجمة إلي اللغات الأوروبية أكثر من معظم اللغات الأخري و(ب) أنها ##لغة تلائم التعبير الديني كل الملاءمة##. ثم يكمل روثفن ليفسر هذا الوضع الغريب فيقول:
اللغة العربية هي لغة أقيمت حول الأفعال. فالأسماء والنعوت هي علي الدوام مشتقات من الأفعال, وعادة ما تكون صيغ فاعل أو مفعول أو أسماء فعل. فالشخص الذي يكتب هو كاتب, والكتاب هو مكتوب. أما الطائرات والطيور فهي أشياء تطير. وبالمقابل, فإن اللغات الأوربية, علي تعدد أصولها, تضرب بجذورها في الجواهر: معظم الأسماء في الإنجليزية هي أشياء في ذاتها وليست أجزاء من أفعال التي هي صيرورات. وما يجعل اللغة العربية لغة تلائم التعبير الديني كل الملاءمة هو علي وجه الدقة أنها تحجم عن تصنيف الكلمات في أجزاء متمايزة, وتبقي عليها بدلا من ذلك في علاقة منطقية ومتوازنة مع مفهوم مركزي, هو جذر الفعل.
مرة أخري, ألا تبدو العربية أشبه باللغة المثلي في ضوء هذا التحول في الإطار المفاهيمي الديكارتي (تحول في البارادايم) صوب: (أ) نقد الفيلسوف ألفرد نورث وايتهيد كل الفلسفات الأرسطية القائمة علي فكرة الجوهر والماهية والتموضع البسيط, ودفاعه عن الواقع باعتباره صيرورة دائمة, أو (ب) نقد هنري برجسون الشديد للشيئية Chosisme ورفضه فكرة الأشياء كما هي في ذاتها لمصلحة واقع هو سيلان كوني متحرك علي الدوام كما لمصلحة شكل من أشكال التطور الخالق المتواصل أو (جـ) رفض لوكاش للتشييء بمختلف ضروبه دفاعا عن واقع هو لا أكثر من أحداث وظروف وصيرورات.
إذا كان صحيحا أنه ##في البدء كان الكلمة##, فهل كانت ##الكلمة## فعلا أم اسما؟ كانت فعلا بالنسبة إلي اللغة العربية واسما بالنسبة إلي اللغات الأوربية, وفقا لما يقوله روثفن. وسؤالي إذا, أيهما أقرب إلي روح الحداثة: الانطلاق من الاسم الساكن أم من الفعل المتحرك؟ علي أقل تقدير, فإن جواب فاوست واضح من ترجمته الجديدة للآية الأولي من إنجيل يوحنا علي النحو المعروف: ##في البدء كان الفعل##.
بالإضافة إلي ذلك يمكنني أن أذكر الاعتبارات التالية دفاعا عن اللغة العربية: أولا, وجهة نظر روسو في مقالته حول أصل اللغة والتي تفيد أن اللغة المجازية هي التي ولدت أولا, أما المعني الصحيح فلم يكتشف إلا آخرا, وهذا ما يتوافق مع الأطروحة التي تري أن لغة ##مجازية## مثل العربية لا بد أن تأتي أولا, أما اللغات المكرسة للمعني الحرفي الصحيح (مثل الإنجليزية والفرنسية) فلا بد أن تأتي آخرا. ثانيا, فإن العربية كما صورت أعلاه لا بد أن تلائم تماما فكرة ##إرجاء المعني## عند فيلسوف مثل جاك ديريدا, كما مع قولته الشهيرة: ##ما من شيء خارج النص##, كما مع الفكرة التفكيكية القائلة بـ ##نهاية المعني## كليا. ثالثا, حقيقة أن العربية بـما فيها من ##غابات التباس##مفترضة (علي حد وصف رابان) تبدو أشد تلاؤما من الإنجليزية, مثلا, مع الترسيمة النقدية الشاملة لدي أستاذ ومنظر أدبي عظيم مثل وليم إمبسون, خاصة حين يثني علي ##الالتباس## بالعبارات التالية:
يمكن لـ ##الالتباس## ذاته أن يعني نوعا من عدم الحسم بشأن ما نعنيه, ونية في أن نعني أشياء عديدة, واحتمال أن يكون شيئا أو آخر أو كلا الشيئين قد عنيا, وحقيقة أن لقول ما معاني عديدة هكذا, قد تكون لكلمة ما معان متعددة مميزة أو معان عدة مرتبطة ببعضها, أو عدة معان يحتاج واحدها الآخر كي تكمل معناها; أو معان متعددة تتحد معا كي تعني الكلمة علاقة واحدة أو صيرورة واحدة.
هنا, بمقدورنا أن نرفع الرهانات إلي درجة أعلي بهذا الصدد: (أ) بأن نتخيل التحرر الذي يمكن للغة العربية أن توفره مما دعاه ستيورات تشيس ذات مرة بـ ##طغيان (أو استبداد) الكلمات##, و(ب) أن نتخيل تلك التفريعات المعقدة التي يمكن للعربية أن تضعها في متناول محاولة إمبسون أن يوضح معني النقاشات المرفوعة إلي الدرجة الثانية أو الثالثة حول فكرة ##التباس الالتباس## أو تضعها في متناول محاولة ناقد مثل أي. أ. ريتشاردز لأن يقبض علي ##معني المعني##. لذلك أقول إنه علي جميع عشاق فيلم أكيرا كوروساوا الكلاسيكي راشومون (1950) أن لا يعجبوا بالعربية لخصائصها الراشومونية المتأصلة وحسب, بل أيضا أن يعلوا من شأنها بوصفها الأداة الطبيعية ##للواقعية السحرية## ولتعليق معايير الواقعية التقليدية جميعا.
أما في النقطة الثالثة فأود أن أضع أمامكم الرواية التالية لتجربة مررت بها وذلك بسبب عجزي إلي هذا اليوم عن تصنيف تلك التجربة ضمن سياق الاستشراق أو الاستغراب نظرا لما فيها من التباس عميق ولافت يبدو أنه يتحدي مقولات مثل الشرق والغرب ويتجاوزها.
منذ فترة ليست بالبعيدة, شاركت في مؤتمر مهيب في ##مركز الهند الدولي## في نيودلهي عني بعلاقات الهند مع الشرق الأوسط وعقد بتوجيه من الدكتور سينغ, السياسي والبرلماني والباحث الهندي الرفيع وبرئاسته. وبذل الزملاء الهنود في هذا المؤتمر ما بوسعهم لدفع أجندة معينة حيث أرادوا أن يسقطوا بالكامل مفهوم ##الشرق الأوسط## من الاستعمال مع كل ما يلحق به من حمولة ومضامين واستعمالات نظرا لأصوله الاستعمارية ونبرته الاستشراقية ومرجعيته في المركزية الأوربية الصارخة.
غير أن ما أفزعني وصدمني هو اقتراحهم مفهوم ##غرب أسيا## كبديل, أي كتسمية ##صحيحة## وملائمة للجزء الذي أنتمي إليه من العالم, (الشرق الأوسط العربي), علي أساس أن هذا المفهوم يتفوق علي مفهوم ##الشرق الأوسط## التقليدي بأصالته, ودقته, وكفاءته.
ولقد زعموا, علي وجه الخصوص, أن مفهوم ##غرب آسيا## يعيد ما شاعت تسميته بـ ##الشرق الأوسط## إلي ##مرساته الآسيوية## (كما دعوها), وأنه ##يتجاوز التصنيف المركزي الأوربي للبلدان والثقافات والشعوب إلي شرق أدني, وشرق أوسط, وشرق أقصي بحسب بعدها عن أوروبا أو قربها منها##. فرددت في الحال مجادلا: إن كان علي أن أختار, علي سبيل توصيف الذات و/أو تحديدها, بين رؤيتكم الطبيعية لنا بوصفنا ##غرب آسيا## ورؤية أوربا الطبيعية لنا بوصفنا ##الشرق الأوسط##, فلن أتردد لحظة في اختيار التسمية الثانية, أي الشرق الأوسط, انطلاقا من أسباب وجيهة تدفع إلي ذلك. وأوضحت للمؤتمر:
أولا, من بين هاتين الطريقتين المنحازتين والمشوهتين أصلا في النظر إلينا وتسميتنا, فإن تسمية ##الشرق الأوسط## لها ميزة الانتشار الواسع, ومزية الاستخدام الثابت المديد, وهيبة انبعاثها من المركز الفعلي للعالم الحديث (أي أوربا) وإشارتها إليه.
ثانيا, أن تسمية ##غرب آسيا## تنتهك علي نحو منفر الطريقة الأساسية التي ننظر بها إلي أنفسنا بوصفنا عربا ##شرق أوسطيين##; لأنها تقطعنا عن مصر الواقعة في أفريقيا!؟ وبالمقابل, فإن ما من نظرة استشراقية, أو تعريف مركزي أوربي, أو تصور استعماري لـ ##الشرق الأوسط ## سبق له أن فصل مصر عن بقية المشرق العربي; أي عن الجناح الشرقي للعالم العربي, كما نشير إلي أنفسنا أيضا. ولقد ألححت كذلك علي أن تسمية ##غرب آسيا## هذه تطيح بصورة أخري لدينا عن أنفسنا كجزء لا يتجزأ من عالم عربي يضم شمال أفريقيا في حين تبدو التسمية الجديدة وكأنها تحيل شمال أفريقيا برمته إلي مجال ثان أو عالم آخر.
ثالثا, إن تسمية ##غرب آسيا##, بخلاف تسمية ##الشرق الأوسط##, تسلبنا ما لوجودنا وتاريخنا وتصورنا لذاتنا من بعد متوسطي, لطالما كان مرتبطا ومتشابكا مع الضفة الأخري من بحيرتنا, أي مع الشاطئ الأوربي للبحر الأبيض المتوسط. وهنا, كان علي أن أتقدم بحججي جميعا, فقلت: فكروا بالاسكندر المقدوني, وروما, وهانيبعل, وذهاب المسيحية إلي أوربا من عندنا, وبتوسع الإسلام إلي إسبانيا وأبعد منها, وبالصليبيين حين جاؤونا وبالعثمانيين في أوربا, وبالاستعمار الأوربي الحديث لبلادنا وهلم جرا. فكروا بحقيقة أن هذين الجانبين من المتوسط يتقاسمان التراث اليهودي- المسيحي- الإسلامي, والإرث اليوناني- الروماني, وهبوط الإسلام علي بيزنطة وعلي الشرق الأوسط المسيحي اليوناني ثقافيا, وبالهلينستينية التي شكلت أساس العقل السكولائي القروسطي لليهودية, والعقل السكولائي القروسطي للمسيحية الشرقية, كما للمسيحية الغربية, والعقل السكولائي القروسطي للإسلام وتقاسمها كلها أفلاطون, وأرسطو, وأفلوطين, وآدم, وحواء, وإبراهيم, وموسي.
وختمت بالتأكيد علي أن هذا النوع من الديالكتيك التاريخي العابر للثقافات واللغات والقارات لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يستوعب في مفهوم هزيل مثل ##غرب آسيا##, ولذلك فإنني أتشبث بمفهوم ##الشرق الأوسط## علي الرغم من عيوبه الواضحة ونقائصه المعروفة.
وعلي أن اعترف أيضا أن تدخلي هذا قد أزعج مضيفي الهنود وزملائي هناك- خاصة في اليوم الأول من الاجتماع – لما أثاره في الحال من اضطراب في أجندة المؤتمر. غير أن الجو تحسن لاحقا, لكنني لم أستطع أن أتجنب ما تنامي لدي من ارتياب شديد بأنهم كانوا يتوقون كل هذا التوق إلي تسميتنا بـ ##غرب آسيا## لأنهم يستوردون معظم بترولهم مما يعد بالنسبة إليهم غرب آسيا بالفعل.
مفكر وأكاديمي سوري بارز