كنت بصحبة الإعلامي والكاتب القطري المعروف د. أحمد عبد الملك, نتجول في شارع إدجوير رود شارع العرب في لندن, واستوقفتني طاولة منصوبة علي الرصيف عليها كتب عربية والتف حولها شباب عرب يروجونها, اقتربت منهم ووقع بصري علي كتيب بعنوان الديموقراطية نظام كفر. وقفت متسائلا بدهشة: كيف تكون الديموقراطية نظام كفر؟! سارع الشباب وأجابوني: لأنها تجعل الحاكمية للشعب, والإسلام جعل الحاكمية لله وحده.
وهكذا استدرجنا لحوار علي غير استعداد حول الإسلام والديموقراطية, قلت محاورا: إن الإسلام لا يعارض الديموقراطية وهناك قدر مشترك بين الشوري والديموقراطية في اختيار الناس لحكامهم وممثليهم ومراقبتهم, والإسلام إذ أمرنا بالشوري إلا أنه لم يلزمنا بنظام محدد, لأن الأنظمة تتطور بتطور المجتمعات, والإسلام أتي بقواعد عامة في السياسة والاقتصاد والاجتماع هي الثوابت, ولم يأت بأنظمة تفصيلية لأنها من المتغيرات, وبناء عليه لا مانع من الإفادة من التجارب الغربية في السياسة والاقتصاد, ما دامت لا تتعارض مع الثوابت الإسلامية.
امتدت المناقشات علي قارعة الطريق دون أن تحقق ثمرة, فهؤلاء الشباب هم من حزب التحرير الإسلامي في بريطانيا, يروجون لنظام الخلافة الإسلامي بديلا عن الديموقراطية, وينشطون لإحيائها ويرون في الخلافة الحل المنشود لمشكلات العالم الإسلامي. وقبل أن نفترق سلمونا منشورا كانوا يوزعونه علي المارة العرب بمناسبة الشهر الفضيل, وأهدوني الكتيب الذي كان مثار الخلاف راجين أن أقرأه فيما بعد.
بعد عودتي قرأت المنشور والكتيب, فهالتني كمية الأوهام والهواجس ونظريات التآمر ومشاعر الكراهية والعداء لحضارة الغرب, أما المنشور فهو خطاب تحريضي ضد الغرب في عقر داره, إذ يقول: إننا نذكر أمتنا في هذا الشهر كيف انتصرنا علي الأورووبيين.. ويطالب المنشور المسلمين بالعمل علي إقامة الخلافة كفرض ديني القعود عنه معصية, بل ويطالب باستخدام القوة لرد سلطان الأمة المغتصب من أجل عقد البيعة لرجل منها خليفة للمسلمين, أما الطلاب والشباب فعليهم الانضمام لحزب التحرير ليتعلموا الإسلام, وأما بقية المسلمين فعليهم نصرة الحزب وترويج كتبه ومنشوراته!
يتحسر المرء علي طاقات الشباب المتحمس المهدرة! هؤلاء يعيشون في أعرق ديموقراطية ويحلمون بعودة الخلافة!! ولو كانوا في ظل هذه الخلافة كما يتصورونها, لما استطاعوا الترويج لبرنامجهم مثلما تسمح الديموقراطية الغربية بنشر أفكارهم وبرنامجهم. أما الكتيب الذي يصف الديموقراطية بأنها كفر ويحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها, فأمره أعظم وأشد خطورة علي الناشئة, ويبدو أن مؤلفه (عبد القديم زلوم) أحد منظري الحزب, حيث يبدأ بالهجوم علي الديموقراطية التي يسوقها الغرب الكافر في بلاد المسلمين, ويقول بالنص: يحرم علي المسلمين أخذ الديموقراطية أو تطبيقها أو الدعوة إليها تحريما جازما! يتناسي المؤلف أن التحريم الجازم لله ولا بد له من نص قاطع, فأين هذا النص بتحريم الديموقراطية؟! يلخص المؤلف أسس الديموقراطية فيما يأتي:
1- الديموقراطية من وضع البشر وليست من الله, فلا صلة لها بأي دين.
2- وهي تفصل الدين عن الحياة والدولة.
3- وتقوم علي أساس سيادة الشعب وأنه مصدر السلطات.
4- وتعتمد علي أصوات الأكثرية في اختيار الحكام وممثلي الشعب في القرارات التشريعية.
5- وتنادي بالحريات العامة (العقيدة, الرأي, التملك, الحرية الشخصية).
وفي رأي المؤلف أن هذه الأسس مخالفة للإسلام, فالشعب لا يملك السيادة في الإسلام والسيادة لله وحده, وليس من حق الأمة التشريع, ولو اجتمعت علي إباحة الربا والزنا أو تبني الحريات العامة فلا يساوي إجماعهم جناح بعوضة, ولا يحق للأمة عزل الحاكم ولو كان ظالما لأن طاعته واجبة, أما قاعدة الأكثرية التي تقوم عليها الديموقراطية فغير معتبرة شرعا, لأن الأمور التشريعية بيد الخليفة وحده وليس عليه أن يرجع لمجلس الأمة, كما أن رأي المجلس ولو بالإجماع غير ملزم له. أما الحريات العامة في الديموقراطية فهي مصدر ويلات البشرية وانحدار المجتمعات الديموقراطية إلي مستوي البهائم, حيث ممارسة الجنس أصبحت مباحة كشرب الماء, وفي الصيف تغتنم النساء الأوربيات بروز الشمس ليستلقين في الحدائق عاريات, والإسلام يرفض هذه الحريات الأربع.
وفي جرأة غير محمودة يقرر المؤلف أنه لا توجد في الإسلام حرية إلا حرية تحرير العبيد, لأن المسلم مقيد في جميع أفعاله في الشرع وليس حرا, ولذلك يكون من التضليل أن يقال إن الديموقراطية من الإسلام, ويتساءل المؤلف: كيف استطاع الغرب الكافر أن يسوق الديموقراطية لدي المسلمين؟! ويجيب بأن الغرب وضع خطة جهنمية لغزو العالم الإسلامي تبشيريا وثقافيا, لإبعاد المسلمين عن دينهم والقضاء علي دولة الخلافة, وساعدتهم في ذلك النخبة المثقفة ورجال السياسة, وبعض الدعاة الإسلاميين الذين قالوا إن النظام الديموقراطي لا يناقض الإسلام وأن الحريات العامة من الإسلام, مع أنهما يناقضان الإسلام كليا.
هذا أبرز ما جاء في هذا الكتيب في تكفير الديموقراطية والحضارة الغربية والدعوة لنظام الخلافة الإسلامية, وللقارئ أن يتساءل وبمنطق بسيط: إذا كانت الديموقراطية بكل هذه الشرور والسيئات فكيف حقق الغرب تقدمه المذهل في كافة ميادين الحياة؟! كيف حققوا الفتوحات العلمية المدهشة والتي من ثمراتها ما تنعم به البشرية اليوم؟!
أليس ذلك بفضل الديموقراطية؟ تلك الوصفة السحرية التي مكنت الإنسان من تفجير طاقاته ليكتشف ويخترع ويبدع ويصنع معجزات علمية وحضارية غيرت حياة الإنسان وجعلته يخترق حواجز الزمان والمكان؟! هل كان بالإمكان تحقيق أي إنجاز تقني أو تقدم علمي أو تطور معرفي لولا قيم الديموقراطية؟! هل كان للغرب أن يحقق السلام الاجتماعي والانتقال السلمي للسلطة بغير الأسلوب الديموقراطي؟! ثم لماذا تركيز المؤلف علي سلبيات الغرب وأين ايجابيات الحضارة الغربية؟!
وإذا كان الشباب المسلم في الغرب لا يرون في الحضارة الغربية إلا الإباحية والمادية ففيم بقاؤهم هناك؟! وإن تعجب فأعجب لشباب عرب ينعم بمناخ الحرية, لكنه يسعي إلي نظام قهري يصادر الحريات باسم الخلافة! ما قيمة هذه الخلافة في ميزان الإسلام؟ هل تحققت في ظلها مبادئ العدالة والمساواة والشوري أم كان الإسلام مجرد شعار أو قناع لإخضاع البلاد والعباد؟!
الخلافة التي يدعو إليها حزب التحرير نظام قهري امتد ألف عام, ولم يجن المسلمون منه إلا جهلا وفرقة وصراعات دموية, وكانت السبب في تخلف المسلمين قرونا طويلة! القول بأن الخلافة فريضة والقعود عنها معصية, نوع من الهذيان, إذ لم يتعبدنا الله بنظام الخلافة لأنه صورة من صور الحكم أملاها منطق العصور الوسطي, مثلها مثل النظام الفارسي والرومي, وإذا استثنينا فترة الخلافة الراشدة فلا نجد للأمة دورا في اختيار الحاكم علي امتداد 1000 عام!
وفي ظل هذه الخلافة ران الصدأ علي العقل الإسلامي وتوقفت طاقات التجديد وانحدرت الأوضاع, فأية خلافة يسعي حزب التحرير إلي إحيائها, هل هي الخلافة الأموية أم العباسية أم العثمانية؟!
يذكرني صاحب هذا الكتيب الذي لا يري في حضارة الغرب وديموقراطيته إلا ظلاما وجهالة, بالتشبيه الذي ذكره المفكر السعودي إبراهيم البليهي حين قال: إن هؤلاء الذين لا يرون في حضارة الغرب إلا الجانب السيئ, مثلهم مثل الذي دخل قصرا عظيما فلم يلفت نظره فيه إلا مكان القمامة, تري أي نفسية سوية ترضي بالتنازل عن نظام يملك فيه الفرد حريته وتقرير مصيره, إلي نظام لا يملك فيه الفرد أيه حرية؟!
إن من يرفضون الديموقراطية إنما يحكمون علي مجتمعاتهم بالجمود والانعزال والتهميش, فضلا عن أنهم يسيئون إلي دينهم.. إذ لا عبور لفجوة التخلف إلا بالديموقراطية, ولا تجديد للخطاب الإسلامي إلا بتبني قيم الحداثة والديموقراطية.
أستاذ الشريعة بجامعة قطر