بعد أن حققت الديموقراطية تقدما ملحوظا في عقدي الثمانينيات والتسعينيات, يلاحظ أنها تراجعت لتراوح في خانة الدفاع بدلا من الهجوم والانتشار. واليوم تحقق كل من الصين وروسيا وكوبا نجاحا واضحا في تصدير قيمها الشمولية إلي الدول الأخري, أكثر مما تفعل الديموقراطيات في تصدير قيمها ونشرها علي نطاق دولي أوسع. وفيما يبدو فقد اكتفي أوباما بمجرد التلميح إلي هذا الاتجاه السلبي في انتشار القيم الديموقراطية علي النطاق العالمي, خلال العامين الأولين من رئاسته. ففي الخطابات التي ألقاها في القاهرة وأوسلو وغيرهما, شدد أوباما علي أهمية قيم الحرية والديموقراطية والكرامة الإنسانية. غير أن حلفاءه الديموقراطيين شعروا أن تلك الخطابية لم تكن سوي دعوة لتحسين العلاقات مع النظم الشمولية, بينما تزايد شعور ناشطي التحول الديموقراطي بأن لأوباما أولويات أخري سواهم, خاصة الانتشار النووي ومكافحة الإرهاب والتغير المناخي.
وخلال مخاطبته الثانية لاجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك, أعلن أوباما مجددا ##أن الحرية والعدالة والسلام في حياة البشر, تمثل لبلاده ضرورة أخلاقية وعملية##. ولعل أكثر ما أثار الاهتمام في ذلك الخطاب, الدعوة التي وجهها إلي الدول الديموقراطية الناشئة بأن تضمن قيم الحرية والديموقراطية التي تؤمن بها في سياق سياساتها الخارجية
ولكن يكمن وراء ذلك النداء الرئاسي, شعور بالإحباط وخيبة الأمل إزاء دول مثل البرازيل التي لا تزال تبدي تسامحا مع الأنظمة الشمولية والطغاة, علي رغم تبنيها للمسار الديموقراطي. وكذلك تبدي دولة ديموقراطية عريقة مثل الهند -وهي كذلك قوة عالمية صاعدة- حفاوة وترحيبا بطاغية بورما. كما تبدي ديموقراطية كبيرة في القارة السمراء مثل جنوب أفريقيا حفاوة مشابهة في استقبال الرئيس الزيمبابوي روبرت موجابي.
هذا وقد اقترب موعد الجولة الآسيوية المتوقعة لأوباما, وهي الجولة التي قصد منها إظهار ما يعنيه عمليا بخطابيته الديموقراطية هذه. وضمنها يتوقع أن يقف أوباما علي قصص النجاح التي كتبتها الديموقراطيات الآسيوية في كل من الهند وإندونيسيا وكوريا الجنوبية واليابان. كما سيعلن خلالها عن منح مالية مخصصة للمنظمات غير الحكومية , تأمل واشنطن في أن تثمر عن تعزيز جماعات الضغط المحلية حتي تكون قادرة علي دفع حكومات بلادها نحو جهود نشر الديموقراطية وتعزيزها خارج حدودها.
وفي نهاية المطاف, فسوف تختبر أمم أخري مدي مصداقية خطابية أوباما عن الديموقراطية وقدرته علي تجسيدها في شكل سلوك وممارسة عملية. وكما نعلم, فإن من الواجب أن يتنافس هدف نشر الديموقراطية وتوسيع نطاقها دوليا وإقليميا مع بقية المصالح والأولويات الأساسية لسياسات واشنطن الخارجية. لكن وفيما لو كانت الحرية ##ضرورة عملية لأمريكا## كما وصفها أوباما, فإن من الواجب أن تعطي أولوية علي بقية أولويات وأهداف السياسة الخارجية الأمريكية الأخري أحيانا.
غير أنه تصعب جدا رؤية أي أمثلة عملية علي إعطاء هذه الأولوية لنشر القيم الديموقراطية في ممارسته العملية خلال العامين الأولين من رئاسته. فقد انتقدت إدارته التضييق علي الحريات في روسيا علي سبيل المثال, بيد أن تعاون روسيا في مسألة الحد من الانتشار النووي مع واشنطن, يعطي أولوية علي أهداف نشر الديموقراطية داخل روسيا وخارجها. وفي الاتجاه نفسه انتقدت الإدارة بعض النظم الأوتوقراطية الحاكمة في منطقة الشرق الأوسط, غير أنها تقدم تعاون هذه الأنظمة معها في تسوية النزاع الإسرائيلي الفلسطيني علي أهداف نشر الديموقراطية في المنطقة.
ومن المؤسف أن تدفع الديموقراطيات ثمنا باهظا مقابل ما ينسب إليها من مزاعم أو حقائق تتصل بممارسة انتهاكات لحقوق الإنسان فيها. ولعل خير مثال علي هذا, حرمان كولومبيا من إبرام اتفاقية تجارة حرة بينها والولايات المتحدة, بحجة انتهاكها لحقوق الإنسان. ولدي مقارنة هذه الحجة بسلوكيات واشنطن وعلاقاتها مع النظم الأوتوقراطية يبدو الفرق هائلا جدا, خاصة وأن النظم الأوتوقراطية هي الأشد انتهاكا لحقوق الإنسان وقيم الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية التي أكد أهميتها أوباما!
وفيما لو كان أوباما جادا فيما يقول, فإن من الواجب رؤية خطوات عملية محددة من إدارته, مثل الإصرار علي مراقبة الانتخابات التي تجري في الدول التي تحكمها أنظمة شمولية, مثل منع إصدار تأشيرات السفر للأشخاص المستهدفين, والحجز علي الحسابات المصرفية, وغيرها من الإجراءات الهادفة إلي معاقبة انتهاكات حقوق الإنسان في بعض الدول. وإن كانت إدارة أوباما جادة في تأكيدها لقيم الحرية والديموقراطية والعدالة, لكانت لم تكتف بمجرد تأييد قرار الأمم المتحدة الداعي إلي إجراء تحقيق دولي في الجرائم التي ترتكبها بورما ضد الإنسانية فحسب, إنما ينبغي لها أن تصر علي مشاركة أصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها في تايلاند وسنغافورة والهند في هذا التحقيق حتي تضمن إجراء تحقيق عادل ونزيه في تلك الجرائم.
وربما تكف الإدارة عن تقويض أهم رسالة بعثت بها سياسات أوباما الخارجية في هذا الاتجاه: الحرب علي أفغانستان. ففي إصرار الإدارة علي أن المبرر الوحيد للاستمرار في خوض الجنود الأمريكيين لهذه الحرب, هو حماية مصالح الأمن القومي الأمريكي, تقويض لما يدعيه أوباما من التزام بلاده بنشر قيم الحرية والديموقراطية علي النطاق العالمي. صحيح أن حماية الأمن القومي الأميركي قد تكون هي المبرر الوحيد للمخاطرة بأرواح الجنود هناك, بيد أن ##الوقوف دفاعا عن حرية الآخرين## -وهذا اقتباس آخر مما قاله أوباما- كان دائما جزءا لا يتجزأ من مبررات خوض الجنود الأمريكيين للحروب.
واشنطن بوست