من حين لآخر, يتشارك الشعب الأمريكي وهما جماعيا بشأن كيفية عمل حكومته. هذا الوهم تجلي قبل عام بالتحديد, عندما انتخب رجل أمريكي من أصل أفريقي, يبلغ من العمر 47 عاما لم يكن فوزه متوقعا, ليكون رئيسا للولايات المتحدة.
سوف يحكم التاريخ علي باراك أوباما علي المدي الطويل. لكننا علي المدي القصير تعلمنا شيئا بسيطا وبديهيا لا يتعلق به بقدر ما يتعلق بالآباء المؤسسين لهذه الأمة. إنه بلد يطمح إلي التغيير لكنه مثقل بنظام تدرجي. إنها أمة قائمة علي الثورة لكنها مصممة لكي لا يتولي الثوريون زمام الأمور إلا نادرا.
ذلك يعود إلي مبدأ فصل السلطات .. هذا ما تعلمناه في صف الدراسات الاجتماعية, وهو يهدف نظريا إلي منع طاغية من تولي الحكم, والحيلولة دون هيمنة هيئة تشريعية متطرفة وسلطة قضائية متعجرفة. وهو يهدف أيضا إلي حماية حقوق الفرد مثلما قال جيمس ماديسون, الرئيس وصائغ الدستور, ذات مرة: ##أعتقد أن حالات تقويض حريات الناس من خلال انتهاكات تدريجية وصامتة يرتكبها الذين في السلطة تفوق حالات تقويض الحريات من خلال اغتصاب الحريات بطرق عنيفة ومفاجئة##. لكن خلال الحرب الأهلية الحزبية الضارية التي شلت واشنطن في السنوات الأخيرة, أعاقت نظامنا من إنجاز معظم الأمور المهمة. فهذا غير ممكن ببساطة.
لقد وعد هذا الرئيس بمعالجة المسائل المهمة بسرعة وبحزم, وبشكل قاطع, وصدقه الناخبون قبل سنة. ووعد الذين يتوقون إلي أجندة تقدمية تغير الأمور بالنسبة إلي المحرومين من حقوقهم بأنه سيحقق مبتغاهم. حتي الآن اكتفي بتذليل العقبات أمام حكمه, وذلك لا يتقاطع بشكل كبير مع السياسة الأمريكية العامة.
العناية الصحية الشاملة هي المجال الذي تبرز فيه الهوة بين ما هو ضروري وما هو محتمل وتظهر فيه حدود سلطة الرئيس بأوضح شكل. من المحبط مشاهدة المؤمنين بفرادة النظام الأمريكي يصرون بشدة علي أن مواطنينا ليسوا بحاجة إلي النظام الذي تجده أكثرية البلدان المتقدمة الأخري فعالا. (علي فكرة, إن كان خيار التأمين الصحي العام يربكك, اطرح علي نفسك هذا السؤال: هل تود أن تكون مؤهلا للحصول علي منافع برنامج الرعاية الصحية, ميديكير, في الأربعين من عمرك بدلا من الـ65؟) فيما يتخذ المسئولون المنتخبون مواقف طنانة ويماطلون, تفلس العائلات بسبب كلفة العناية الصحية وتستغني عن علاجات لا يمكنها تحمل كلفتها. والبيانات الإحصائية المتعلقة بالصحة علي الصعيد الوطني, بدءا من متوسط العمر وصولا إلي وفيات الرضع, لا تزال ضمن المعدل العالمي. ولأن لدينا نظاما قائما علي فصل السلطات, حيث يحدث التغيير ببطء وبشكل متقطع, فإن الحاجة الماسة إلي إصلاحات شاملة قد لا تتم تلبيتها إلا من خلال قانون غير مكتمل وليس شاملا أو مفصلا بما يكفي, قد يؤدي ذات يوم إلي اعتماد قانون أفضل, ثم إلي قانون جيد فعلا في النهاية.
هذا بعيد كل البعد عن أجندة العناية الصحية التي تكلم عنها الرئيس أوباما خلال حملته الانتخابية. لكن الحملات ليست المنصة الصحيحة للتمهيد للمستقبل. إنها تعكس طموحات كبيرة, أما عمل الحكومة فهو أشبه بقطع الصخور من خلال تقطير الماء عليها. لقد وعد الرئيس في يناير بإغلاق معتقل جوانتانامو, الذي أنشئ في أعقاب الهجمات الإرهابية وأصبح رمزا لتجاهل أسس المحاكمات, هذا هدف جدير بالثناء, لكن الكلام عنه أسهل من تحقيقه فبسبب وجود أكثر من 200 معتقل وبسبب حظر الكونجرس لإحضار أي منهم إلي الولايات المتحدة, لم يبق أمام الإدارة سوي محاولة إقناع الحكومات الأجنبية بالقيام بما لسنا مستعدين للقيام به بأنفسنا. لم يهرع أحد للمساعدة, مع أنه يجب الثناء علي برمودا التي قبلت استقبال أربعة من الويجور, وهم أعضاء من أقلية مسلمة مضطهدة في الصين.
ومن بين الوعود الأخري التي أطلقها الرئيس وضع حد لسياسة الجيش المثيرة للسخرية التي تقضي بقبول المثليين جنسيا شرط ألا يعبروا علنا عن ميولهم الجنسية, وهي سياسة أدت إلي خسارة القوات المسلحة لآلاف العناصر المميزين, فقط لأنه صادف أنهم مثليون جنسيا. عندما ألقي خطابا أمام منظمة هيومان رايتس كامبين عشية التظاهرة التي تطالب بالمساواة بين المثليين جنسيا وغير المثليين, أشار الرئيس أوباما إلي أن ##التقدم قد يستغرق وقتا أطول مما تريدون##. هذا لأن تغيير السياسة يجب أن يتلاءم مع ما يتقبله الأفراد العسكريون, كما يقول بعض المسئولين. لكن لو انتظرت إدارة ترومان موافقة الجندي العادي, لما تمكنت من وضع حد للفصل العنصري في القوات المسلحة. هذه نقطة لا حاجة للرئيس أن يقنع بها الجناح اليميني الذي يتخذ مواقف طنانة في الكونجرس والذي اخترع مفهوم ##لجان الموت## المضلل في الجدال حول العناية الصحية. التغيير في متناوله ولا ينقصه سوي قلم وتوقيع وأمر تنفيذي رئاسي.
إذن لماذا لم يحدث ذلك؟ أحد الأسباب قد يكمن في طباع الرئيس المتناقضة مع الشخصية العامة التي تطورت خلال الحملة الانتخابية. ربما بسبب عرقه وسنه, ظن الكثير من الناخبين, لا سيما الليبراليون منهم مثلي, أنه سيكون ثوريا ويجسد الصورة النمطية التي كوناها عنه. بعد مرور عام, أصبحنا نعرف أننا خدعنا أنفسنا. فهو منهجي وعميق التفكير وعقلاني ويؤمن بالإجماع والتقيد بالنظام. في نظام تدرجي, باراك أوباما رجل تدرجي. هذا أحد الأسباب التي تجعله يتريث قبل إنهاء الحربين اللتين لا نزال نتخبط فيهما, بغض النظر عن فوزه بجائزة نوبل للسلام. في كل الأحوال, هذا يجعل التهجم عليه علي أنه متطرف أو اشتراكي أمرا سخيفا, لا بل رجعيا بشكل مثير للسخرية. (هل سيتم وصفه بأنه شبيه بتروتسكي قريبا؟) ذلك أدي أيضا إلي إحباط التقدميين, الذين يؤيدون اعتماد إصلاحات شاملة. الرئيس يؤمن من جهته بالمساومات. لكن كلا الفريقين السياسيين يعتبران أن المساومة تنم عن ضعف. ما من مساومات في الهجمات الحزبية والتصريحات الإعلامية والشعارات, لهذا السبب لم يعتمد باراك أوباما في حملته الانتخابية شعارات مثل ##ثمة تغييرات قد تعجبك إن كنت مستعدا للمساومة## أو ##نعم, يمكننا تحقيق أهدافنا لكن الأمر سيتطلب بعض الوقت##.
هكذا تعمل حكومتنا بالفعل, بشكل تدريجي. في تاريخنا الطويل, يبدو أن قرار شن الحرب هو أسرع قرار تتخذه السلطتان التنفيذية والتشريعية, مع أن البريطانيين قد يجادلون بأن فرانكلين روزفلت أضفي علي ذلك مقاربة تدرجية قبل الحرب العالمية الثانية. في الحقبة المعاصرة, حدثت معظم التغييرات الفعلية عبر السلطة القضائية مثل: براون, ورو, وميراندا, قضايا أدت إلي إلغاء الفصل العنصري, ومنحت المرأة حق الإجهاض, وعززت حقوق الموقوفين. ربما لأن التوصل إلي إجماع في المحكمة أمر ممكن, حيث يتوجب نيل موافقة خمسة فقط من القضاة التسعة, أو ربما لأن القضاة يشغلون مناصبهم مدي الحياة, ولا داعي لأن يأخذوا بعين الاعتبار الانتخابات التالية أو مجموعات الضغط أو استطلاعات الرأي. مع أننا ننظر إلي الماضي عبر عدسة مثالية, لا شك في أن المقاربة المدروسة التي يعتمدها المسئولون المنتخبون الآن تدعو إلي السخرية. هنري بولسون, آخر وزير خزانة في إدارة بوش الثانية, قال لتود بوردوم من مجلة ##فانيتي فير## إن أكثر ما فاجأه هو النفاق السائد في واشنطن, حيث إن أعضاء الكونجرس يقولون له في الكواليس إنهم يؤيدون سياسات معينة في حين أنهم يعارضونها في العلن, ويتهجمون عليها بشدة حتي. وأضاف بولسون: ##لم أفهم هذا النظام##, حيث يخسر الرجال والنساء ضمائرهم خلال ممارستهم عملهم الحكومي. الخطوات الصغيرة التي يسمح بها النظام التدرجي تصبح أصغر حتي في وجه الحقد الحزبي الشديد إلي أن يشل النظام بالكامل.
يشير الأمريكيون إلي أحداث تتراوح بين إعلان الرئيس لنكولن تحرير العبيد وصولا إلي قانون حق التصويت كدلالة علي أن أمريكا تعرف كيف تفكر وتتصرف في المسائل المهمة. لكن إن أمعنا النظر في التاريخ, بدلا من انتقاء أحداث متفرقة, تتجلي أمامنا صورة مختلفة بالكامل. فالكثير من دعاة تحرير العبيد نددوا بقرار لنكولن الرئاسي, قائلين إنه حرر قلة من العبيد ولم يحظر بيع وشراء البشر, في حين أن المحافظين اعتبروا القرار متطرفا وغير حكيم. بعبارات أخري, كان قرارا صغيرا معتدلا ووسطيا. وفي حين أن الرأي السائد حاليا هو أن الرئيس فرانكلين روزفلت غير النظام العام بشكل جذري من خلال خطته الاقتصادية الجديدة, فقد شعر بالإحباط الشديد بسبب المعارضة التي أبداها أعضاء حزبه المحافظون لدرجة أنه اقترح علي ويندل ويلكي أن يتحد الأعضاء الليبراليون من الحزب الديموقراطي والليبراليون من الحزب الجمهوري ليشكلوا حزبا ليبراليا خاصا بهم.
حتي النجاحات المحلية المدهشة التي حققتها إدارة جونسون عام 1965 كانت مبنية علي مكاسب سابقة فقانون حق التصويت لم يتحقق فقط بفضل التظاهرات المطالبة بالحقوق المدنية فحسب, بل بفضل الحكم الصادر في قضية براون ضد المجلس التعليمي أيضا. (وبفضل ممارسة السياسة الحقيقية بالطبع. هنا يتساءل المرء: هل كان ليندون جونسون سيتمكن من توزيع مشاريع الأشغال العامة وكأنها هدايا رخيصة لو كانت المدونات الإلكترونية موجودة آنذاك لتكتب عنها بشكل فوري؟) لكن لتلك السنة إرث خاص بها قد يعلمنا الكثير اليوم, وهي سنة شهدت أيضا إقرار برنامج ##ميديكير## وإصلاح قوانين الهجرة. المؤرخة دوريس كينز جودوين هي أفضل من يلخص ذلك. حيث كانت مساعدة في البيت الأبيض في عهد جونسون, ولايزال صوتها يرتعش من الحماسة عندما تتذكر تلك الحقبة.
تقول: ##وعد ليندن جونسون أعضاء الكونجرس بأنهم سيتمكنون يوما ما من القول إنهم غيروا التاريخ. هذا الكونجرس لم يعرف قط فرحة ذلك الإنجاز. وأعضاؤه لم يكونوا قط جزءا من مؤسسة تعمل بشكل جماعي لتغيير التاريخ لمصلحة الشعب الأمريكي##. وتشير أيضا إلي أن الرؤساء الذين أحدثوا تغييرات حقيقية حققوا ذلك بالطريقة نفسها: ##كل منهم استغل الضغط الشعبي لدفع الكونجرس إلي التحرك, ضغط الشعب والصحافة علي حد سواء. علي الضغوط أن تأتي من الخارج##. لذلك إن أراد الأمريكيون من الرئيس أن يكون شبيها بباراك أوباما الذي انتخبوه, ربما عليهم أن يبدأوا بالتصرف كالناخبين الذين انتخبوه, والذين وجهوا النظام السياسي بقوتهم وحزمهم إلي حيث لم يرد أن يذهب. في النهاية, في نظامنا, حتي التغيير العظيم والشجاع ليس شجاعا بقدر ما يبدو: فالمطالبات بنظام عناية صحية شامل تعود إلي عهد تيدي روزفلت, عام .1912 عندما خالفت السيناتورة أولمبيا سنو, الجمهورية من ولاية مين, إرشادات حزبها من أجل التصويت لقانون عناية صحية بدون اللجوء إلي لجنة لدراسته, قالت: ##عندما تحين اللحظة التاريخية, يجب التحرك##. وقد حان الوقت لاتخاذ خطوات كبيرة وليس خطوات صغيرة.
نيوزويك