طلع النهار فتاح يا عليم * والجيب ما فيهش ولا مليم
مين في اليومين دول شايف تلطيم * زي الصنايعية المظاليم
كان إحساسه وفنه شعبيا.. ظل ولاؤه وحبه للكادحين بجميع فئاتهم من السقايين والموظفين والصنايعية.. يعبر معهم عن الأوضاع الظالمة ويغوص بألحانه في أعماق حياتهم وأحوالهم ويجول في قلوبهم وخواطرهم. وتنتهي أغلب ألحانه ببارقة أمل يزرعها في قلوب البائسين, ويتجلي ذلك واضحا في أغنيته برضه الفقير له رب كريم.
كان تصوير سيد درويش لأبناء هذا الشعب تصويرا صادقا لما يجيش في النفوس وتنطوي عليه أماني الشعب.
ست سنوات كتبت لسيد درويش تاريخا مميزا حرر خلالها الموسيقي العربية من التزام الصيغ الموروثة التقليدية.
وفي كوم الدكة هذا الحي الشعبي القديم المتواضع بأزقته الضيقة ودروبه المظلمة وبيوته العتيقة التي تشير إلي ما كان يعانيه السكان من كفاح في سبيل الحياة كل ذلك أنتج للتاريخ في 27 مارس سنة 1892 فنان شعبيا وجد نفسه منذ نعومه أظافره يخالط هذا المجتمع ويشاطر عماله والمكافحين فيه مرارة الكفاح من أجل القوت.
كان متفوقا عصاميا ووصل بالفن إلي آفاق لم يبلغها سواه, دون أن يتخرج من مدرسة بل كانت مدرسته رحيبة لتشمل مدرسة الحياة والتجارب العديدة.
أراد والده أن يصبح سيد شيخا من شيوخ الأزهر فأدخله كتاب حسن حلاوة فتلعم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ قسطا من القرآن الكريم.
وفي سنة 1899 كانت العلامة الأولي للطفل البائس أن توفي والده ولم يكن يتجاوز السابعة من عمره ونمت معه موهبته, وفي سن الرابعة عشر وجد أنه يستطيع كسب عيشه وعيش أسرته من الغناء في الأفراح والموالد بما حفظه من التواشيح وتوقف عن الدراسة وتفرغ للغناء.
وجاءت الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 1907 وأضاب الكساد سوق الفنانين وأصيبوا بالبطالة فخلع سيد درويش ملابس الشيوخ واشتغل مع عمال المعمار وأثناء العمل كان يغني لهم, ولاحظ المقاول أن العمال ترتفع معنوياتهم ويزيد إنتاجهم فطلب منه أن يتوقف عن العمل ويكتفي بالغناء للعمال. واحتفظ بلقب الشيخ حتي بعد أن خلع العمامة وصار أفنديا مطربشا.
ويتدخل القدر ليساند تلك الموهبة وتتاح له الفرصة فيلتحق بفرقة سليم عطا الله للتمثيل والغناء ويسافر معهم إلي الشام سنة 1909, وبعد شهور عاد سيد من رحلته غير الموفقة بسبب سوء الأحوال الاقتصادية وتشتت أفراد الفرقة ليستأنف حياته الماجنة في المقاهي الشعبية مرة أخري, حتي أعاد سليم عطا الله فرقته مرة أخري عام 1910, وأتيحت له الفرصة للقيام برحلته الثانية إلي الشام التي شهدت ميلاده الثاني, حيث بدأ مرحلة التحصيل الحقيقي القائم علي الدراسة الفنية, وعاد إلي الإسكندرية واستمر يغني بالأفراح والمقاهي وذاع صيته وبدأ يقدم ألحانه الخاصة للناس, ووصلت أخباره إلي القاهرة وتردد اسمه في الأوساط الفنية فكان كبار فناني القاهرة إذا زاروا الإسكندرية يبحثون عنه ليسمعوه وبين هؤلاء الشيخ سلامة حجازي وجورج أبيض الذي حثه علي الحضور إلي القاهرة. رأي جورج أن يحول فرقته إلي اللون الاستعراضي الغنائي واستدعي سيد درويش ليلحن له أوبريت نظير مبلغ 20 جنيها, وكان أول أوبريت باسم فيروز شاه التي كانت شيئا جديدا علي الموسيقي العربية ونجحت نجاحا جماهيريا, وما لبثت أن أخذ الناس يرددونها وانتشر صيته وتهافت عليه أصحاب الفرق. وجاء وقت كانت توجد في القاهرة أربع فرق وعدة صالات للغناء وكانت كلها تقدم أوبريتات من تلحينه.
اتجهت أعمال سيد درويش إلي الدفاع عن القضايا التقدمية وعن كل القضايا التي تخص العمال والطبقة الفقيرة رغم أضواء الشهرة لم يعرف الزلفي إلي الملوك والأمراء وأصحاب النفوذ.. ولم يخضع في فنه لرضي عظيم أو لغضبه فبقي يغني للشعب ويعبر عنه.
وعام 1919 كانت ثورة أججتها ألحانه فكان إلي جانب سعد زغلول زعيم شعبي هو سيد درويش, كان ابن الثورة وقلبها, فجدد في الموسيقي كما جددت الثورة في الفكر وطرائق الحياة.. قدم سيد للجمهور الغذاء الروحي لينشده فأقبلوا عليه إقبال الجياع علي الخبز وهتفوا في المسرح بعد إسدال الستار وخرج الجمهور متحمسا يهتف هتافاته العدائية ضد الإنجليز.
إحنا الجنود زي الأسود * نموت ولا نبعش الوطن
بالروح نجود بالسيف نسود * علي العدا طول الزمن
وكان يقول بعد هذا النجاح كأني قتلت ألف إنجليزي ويهبط إلي الشوارع بفرقته ويقود المظاهرات حتي عد بحق رجل الثورة الموسيقية, ولعل هذا هو السبب الذي دفع المندوب السامي البريطاني إلي إصدار أوامره بإغلاق مسرح سيد درويش الغنائي. ورغم ذلك استطاع أن يصل إلي قلب الجنود الإنجليز فرددوا أغانيه في الحرب العالمية الأولي ومن بين هذه الأغاني بلدي بلدي وأنا نفسي أروح بلدي.
ووصل الأمر بثورية سيد درويش أنه بدأ يندد سنة 1922 بالملوك أنفسهم تنديدا شبه صريح, كما فعل في اللحن الرائع عشان ما نعلا ونعلا * لازم نطاطي نطاطي في أوبريت العشرة الطيبة.. لذلك تكاتفوا بعد رحيل سيد درويش المارد لطمس أعماله, وهذا يفسر إطلاق اسم الملك فؤاد الأول علي معهد الموسيقي الشرقية, وكانت سياسة المعهد تحريم تدريس موسيقي سيد درويش للطلبة ومعاقبة من يترنم بألحانه.
وهكذا تخرج من ذلك المعهد ألوف من الموسيقيين والمؤلفين والمطربين والعازفين دون أن يعرفوا شيئا عن أثمن تراث موسيقي تملكه بلادهم.
وفي أول مؤتمر دولي أقيم في القاهرة للموسيقي العربية تحت رعاية الملك فؤاد لم يتعرض ذلك المؤتمر لعمل واحد من أعمال سيد درويش وتجاهلوه تجاهلا تاما حتي يمحوه من ذاكرة الناس وينزعوا هذا السلاح النضالي من يد الشعب.
لكن الشعب ظل علي ولائه وبقيت ألحانه تتردد في الأفراح والمناسبات, وأنشئت في سنة 1941 جمعية أصدقاء موسيقي سيد درويش لجمع تراثه وتدوينه وتسجيله.
تمني سيد درويش أن يسافر إلي إيطاليا ليدرس الموسيقي وأعد لنفسه للسفر فعلا لكن الأقدار لم تشأ وانطوت صفحة سيد درويش في خريف 1923, ولم يكن يسير وراء جثمانه إلا سبعة رجال كان يبدو من ثيابهم المتواضعة ووجوههم الخشنة. إنهم من العمال. هكذا مضي سيد درويش متسللا من دنيانا في هدوء عجيب.. كأنه نغمة في صحراء. وبينما كان الشعب يهرع إلي الميناء لاستقبال سعد زغلول والعائدين من المنفي تخلف عنهم سيد درويش وتحول عن الميناء إلي دار الخلود, وبقيت أغنيته لتستقبل سعد ورفاقه علي ألسنة ألوف الجماهير.
بلادي بلادي بلادي * لك حبي وفؤادي.
المراجع:
* سيد درويش – محمود أحمد الحفني.
* سيد درويش – جمعية أصدقاء سيد درويش.