تحدث الفقيه السياسي والتر راسل ميد عما اعتبره أكثر من نصف قرن من ##المهمات (الأمريكية) لبناء نظام عالمي##, مستخدما عبارة أعتقد شخصيا أن معظم الأمريكيين سيوافقون علي أنها تصف المسؤوليات الدولية التي تقلدتها واشنطن في 1945- 1946, والسياسة التي انتهجتها منذ 1941, عندما دخلت الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا النازية والإمبراطورية اليابانية. وعقب الانتصار في الحرب العالمية الثانية أتت الحرب الباردة, التي اعتبرت نتيجتها في الثمانينيات انتصارا آخر للولايات المتحدة. ثم أعلن عن نهاية التاريخ وكأن هذا نجاح آخر أيضا لواشنطن. وبدا إكمال ذلك النظام العالمي الذي أنشأته أمريكا وشيكا. ثم حدثت هجمات الحادي عشر من سبتمبر علي الولايات المتحدة. ومنذ ذلك التاريخ, بتنا أمام غياب للنظام العالمي, وليس هناك نظام عالمي جديد.
وثمة كثيرون في واشنطن وأماكن أخري يعتقدون أن الصحوة الديموقراطية الراهنة في البلدان العربية, التي بدأت منذ ديسمبر الماضي, ستقوي وتعزز نظاما ديموقراطيا عموما في كل الدول الكبيرة تقريبا, وأن الولايات المتحدة ستضطلع بدور قيادي محترم. غير أنني أعتقد أن ذلك مستبعد جدا, وذلك لأن الالتزام الأمريكي خلال العقود الأربعة الأخيرة (علي الأقل) كان تجاه النظام غير الديمقراطي الذي يسود في الشرق الأوسط, وتجاه الحروب الثلاثة وعدد من اختراعات ##الشرق الأوسط الكبير## الصغيرة وغير الموفقة التي زرعت بذور اضطراب بدأ اليوم يغير الأوضاع الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط والبحر المتوسط.
إن الانتفاضات الشعبية هي السبب المباشر للاضطراب الحالي, ولكن واشنطن تتمسك ببقايا الماضي غير الديموقراطية, وتأمل في الوقت نفسه في مزيد من الديموقراطية.
وفي مقال له بصحيفة ##الحياة## اللندنية, جادل المثقف العربي خالد الحروب بأن الحكام المستبدين العرب يستفيدون من النزاع الإسرائيلي/ الفلسطيني الذي يجعلون منه ذريعة لمطالبة شعوبهم بالانضباط والإذعان من أجل الوقوف بحزم في وجه إسرائيل. والحال أنه إذا ترسخت الديموقراطية في مصر وبقية الدول العربية فإن إسرائيل, التي تزداد سلطوية وتستولي علي الأراضي الفلسطينية وتستبدل سكان القدس والضفة الغربية الفلسطينيين, ستجد نفسها أكثر عزلة علي نحو متزايد -ومعها ستجد الولايات المتحدة نفسها أيضا في وضع صعب.
فالتحالف المدمر الذي شكلته إدارة أوباما (علي غرار إدارة بوش من قبلها) مع حزب ##الليكود## الرجعي والتوسعي في إسرائيل يمثل, في الواقع, عائقا أمام إمكانية قيام صداقة أمريكية مع الديموقراطية العربية. كما أن ##الفيتو## الذي استخدمته الولايات المتحدة الأسبوع الماضي, ضد ما كان سيصبح قرارا منددا بالإجماع من قبل مجلس الأمن الدولي بأعمال التوسع والتغول في بناء المستوطنات الإسرائيلية علي الأراضي الفلسطينية, من شأنه أن يعجل باللحظة التي سيرفع فيها الفلسطينيون الموضوع إلي الجمعية العامة, وهي السلطة الأممية (وليس مجلس الأمن الدولي) التي صوتت لقيام إسرائيل داخل أراضي فلسطين عندما كانت مقسمة وتحت الانتداب, علما بأن الجمعية العامة ضمنت أيضا خير ورفاهية الفلسطينيين الذين تم الاستيلاء علي أراضيهم. وهكذا, سيطلب الفلسطينيون اليوم الاعتراف بهم كحكومة ودولة مستقلة طبقا الحدود التي اعتمدتها الأمم المتحدة, وبأنهم تحت احتلال عسكري غير قانوني. كما سيطالبون الجمعية العامة بفرض التقسيم وفق الشروط الجغرافية الأصلية (مع تعديلات متفق عليها بين الجانبين).
وإذا كانت إسرائيل تعتقد أنها ضحية حملة دولية تهدف لـ##نزع الشرعية## عنها اليوم, فما عليها إلا الانتظار لتري حدوث ذلك فعلا! فصديقتها الوحيدة الولايات المتحدة ستكون فاقدة المصداقية بسبب تخليها عن حلفاء عرب سابقين, والتزامات سابقة متهورة وخاطئة, إضافة إلي فشلها الذريع في العراق وأفغانستان. ثم إن علي الإسرائيليين أن ينتبهوا إلي أن الولايات المتحدة ليست في الواقع صديقة حقيقية لإسرائيل لأن علاقتها موصومة بالنفاق; ذلك أن واشنطن أيضا رفضت من البداية -وما زالت ترفض- رسميا قبول خرق إسرائيل للقانون الدولي واستيطانها غير الشرعي في الأراضي الفلسطينية. صحيح أن أفعالها تشير إلي خلاف ذلك, ولكنها تناقض التزامات أمريكا الرسمية فقط لأن اللوبي الإسرائيلي اليميني في الولايات المتحدة يمسك بمسدس يصوبه إلي ظهر الكونجرس. ولذلك, يجدر بإسرائيل أن تحترس.
ثم إن إدارة أوباما نفسها أطلقت سياستها الشرق أوسطية في 2009 بالمطالبة بوقف الاستيطان الإسرائيلي; ثم تراجعت بجبن عن تلك المطالبة بعد أن تم رفضها بازدراء. غير أن الشخص الذي سيخلف أوباما سيرث نفاق اختيارات السياسة الأمريكية السابقة في الشرق الأوسط, وسيجد نفسه عدوا للحكومات التي ستكون حلت في نهاية المطاف محل الأنظمة المستبدة المخلوعة في تونس ومصر, وربما ليبيا.
غير أنه قد يكون هو ومستشاروه أكثر استعدادا من أوباما لقبول النصيحة -المرة والواضحة في آن واحد- المنسوبة لميكيافيللي التي أشرت إليها في مقال لي مؤخرا: ##علي الحاكم الحصيف (وليكن الرئيس الأمريكي) ألا يظل وفيا إذا كان ذلك سيكون ضد مصلحة (بلاده)##. وربما يستطيع المرء أن يضيف أن هذه نصيحة جيدة عندما يكون المرشح للخيانة عاقدا العزم علي القيام بانتحار وطني: مثلما هو حال إسرائيل اليوم تحت حكم حزب ##الليكود##.
واشنطن بوست