ها نحن مع باكستان مرة أخري, ولكن الأمر لا يتعلق بتجربة مألوفة, كلا; بل بنسق روتيني في الحياة المعاصرة: أصولي إسلامي يتدرب في باكستان ثم يسافر إلي الولايات المتحدة, أو دولة غربية أخري ليعيث في الأرض فسادا وينشر الرعب والدمار.
ولنتأمل هنا العقدين الأخيرين: رمزي يوسف, منفذ الهجوم علي مركز التجارة العالمية في 1993, ابن لوالدين باكستانيين في الكويت, وتدرب علي تنفيذ الهجوم في باكستان. رمزي بن الشيبة, اليمني المشتبه في كونه منسق هجمات الحادي عشر من سبتمبر, اعتقل في العام التالي في باكستان. وإضافة إلي ذلك, فإن عددا من المتورطين في تفجير قطارات الأنفاق في لندن تلقوا تدريباتهم قبل خمس سنوات في باكستان. وكذلك الحال بالنسبة لريتشارد ريد, صاحب الحذاء المتفجر. والعام الماضي, وجه عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي لنجيب الله زازي ووالده تهمة التخطيط لهجوم إرهابي في الولايات المتحدة بعد أن تلقيا تدريبات علي صناعة المتفجرات والاستراتيجيات الإرهابية في أحد المعسكرات الباكستانية.
والواقع أن قائمة الهجمات الإرهابية الحقيقية أو الفاشلة تشمل حوالي ستة أمثلة مماثلة من باكستان خلال السنوات الأخيرة, واليوم يأتي أحدثها: فيصل شاه زاد, منفذ هجوم تايمز سكوير الفاشل, الذي تدرب علي الإرهاب في بلده الأصلي باكستان.
ولكن, لماذا يحدث ذلك؟ سوريا وليبيا والجزائر ومصر… وكثير من الدول مثلها تأوي ملايين الأشخاص الذين يكرهون الولايات المتحدة ; غير أن أيا منها _ بل أي بلد في أي مكان آخر – لا يقوم بإرسال مجرمين أشرار إلي الولايات المتحدة بشكل منتظم مثلما تفعل باكستان. فما الذي يجعل باكستان ##متميزة##؟ التفسير التاريخي السائد ينحي باللائمة جزئيا علي الولايات المتحدة, علي اعتبار أنها شجعت الباكستانيين علي محاربة القوات السوفييتية في أفغانستان خلال الثمانينيات. وربما يكون ذلك قد لعب دورا ما علي اعتبار أنه فتح شهية الباكستانيين للجهاد; ولكنني أعتقد أن الحكومة الباكستانية تتحمل النصيب الأكبر من المسؤولية.
لماذا؟ باكستان واحدة من تلك البلدان – وعددها أكبر مما قد تتوقع – التي لا تفعل حكوماتها شيئا من أجل شعبها, اللهم إلا المطالبة بدفع الضرائب والرشي. فهي لا تقدم أي خدمات اجتماعية تقريبا, والمجتمع من التفاوت لدرجة أنه يقع ضمن نظام اجتماعي طبقي فعلي, علي غرار الهند المجاورة التي خرجت منها باكستان قبل 60 عاما. وعلاوة علي ذلك, فإن ثلثي الباكستانيين يعيشون اليوم في الأقاليم, ويشكلون ##الطبقة الدنيا## _ التي تتجاهلها إسلام آباد, إلا عندما يتعلق الأمر باستغلالهم. ذلك أن الرعاية الصحية منعدمة تقريبا; والمدارس ##تعاني من أسوأ أشكال الإهمال واللامبالاة##, حسب شهادة لجمعية باكستانية معنية بالدفاع عن حقوق الأطفال الشهر الماضي, حيث تنفق الحكومة واحدا في المئة فقط من ميزانيتها علي خدمات الرعاية الصحية و2 في المئة علي التعليم.
صحيح أن جزءا كبيرا من العالم يحكمه حكام لا يعتبرون تقديم الخدمات العامة جزءا من مسؤوليتهم; كما أن توقع قيام الحكومة بتوفير الخدمات الاجتماعية هو ظاهرة حديثة نسبيا, وفي البلدان المتقدمة فقط. فماذا كانت تقدم الحكومة الفيدرالية للأميركيين قبل 100 عام؟ غير أن النتيجة في باكستان هي أن الأغلبية الساحقة من الشعب فقير وغير متعلم; ذلك أن حوالي ثلث الأولاد فقط, وأكثر من ربع البنات بقليل, يكملون تعليمهم الابتدائي. كما أن متوسط الدخل الفردي يناهز 900 دولار سنويا, وهو رقم كان سيكون أدني من ذلك بكثير لولا احتساب أموال الأوليجارشيين المليونيرات التي تساهم في تضخيم المتوسط.
وعلاوة علي ذلك, فإن منظمة اليونيسيف تفيد بأن 42 في المئة من أطفال باكستان يعانون سوء التغذية الحاد إلي درجة أنهم يعانون من التقزم, بمعني أنهم لا ينمون جسديا. أقول اثنين وأربعين في المئة! وبالتالي, فالضرر دائم. وعندما ينمو الأطفال, فإنهم يكونون غير متعلمين (جيدا) عموما; كما أن نصفهم تقريبا يعانون من قدرات ذهنية ##مقزمة##; غير أن معظمهم يكونون واعين بما يكفي للتأثر والتشبع بالأفكار المعادية لأميركا التي تحرك المجتمع الباكستاني. هذا مع العلم أن 44 في المئة من الشعب الباكستاني اليوم هم دون سن الثامنة عشرة; وضمن هذه الفئة العمرية يوجد الجيل المقبل من المتطرفين الغاضبين.
لقد شاهدنا جميعنا أفلاما أو قرأنا كتبا تصور الملالي في بلدان إسلامية يجندون شبابا لحساب مجموعات إرهابية. والواقع أن باكستان هي نموذج ذلك. فهناك, يفوز الأطفال الذين يوافقون علي التجنيد باحترام جديد من أصدقائهم, وإن كانوا في حالات كثيرة لا يملكون اختيارا, إذ تتراوح احتمالات أن يحالفهم الحظ في إيجاد وظيفة يكسبون منها قوت يومهم بين الضعيفة والمنعدمة. وفي هذا السياق, يقول عادل نجم من جامعة بوسطن, الذي يكتب مدونة أن يأتي إليك شخص ويعرض عليك مستقبلا جيدا, فذلك عرض مغر جدا##.
لقد قلتها من قبل, وسأقولها مرة أخري: إن مشكلة أميركا ليست أفغانستان, بل المشكلة هي باكستان. ومثلما قال دانييل ماركي, المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية للكونجرس: ##يتعين علي الولايات المتحدة أن تغير تركيزها الاستراتيجي ليس فقط من العراق إلي أفغانستان, وألا تربط أفغانستان بباكستان فقط, وإنما أن تخطو خطوة إضافية وتضع باكستان في صميم اهتمامنا الاستراتيجي##.
لوس أنجلوس تايمز