بعد أيام تحل الذكري التاسعة لاحداث 11 سبتمبر المؤسفة وسط جدل هو الأشد من نوعه منذ سنوات طويلة عن علاقة أمريكا بالإسلام الأمريكي والمسلمين داخل أمريكا. أمريكا بعد هذه السنوات التسع تغيرت كثيرا عن أمريكا السابقة علي 11 سبتمبر, ليس فقط من ناحية الجدل حول الإسلام ولكن أيضا فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي, والتوجهات السياسية والعسكرية,وسياسات المجتمع المفتوح ,والتشريعات الوطنيية….. والأخطر الترتيبات الأمنية.
أمريكا الأمنية بعد 11 سبتمبر تشمل جانبين شديدي الضخامة بشكل ربما يفوق تصور الكثيرين,فما ينفق سنويا علي الجانب الأمني بشقيه الظاهر والسري, يفوق الناتج السنوي الكلي لدولة مثل مصر عدة مرات.
الجانب الأمني الأول هو التغيرات الظاهرة فيما يتعلق بحماية المنشآت والمطارات والطائرات والمباني الإدارية والشركات ووسائل المواصلات والمنشآت العامة والمجال الجوي والبحري, وكل ما يمت بصلة لأمريكا في الخارج…. ,وهذا الجانب يتكلف سنويا مبالغ طائلة, ومن الصعب تقديره علي وجه الدقة.
التغيرات الأمنية الأخري هي ما يتعلق بالجانب السري غير المعلن وخاصة فيما يتعلق بالحرب علي الإرهاب, وهو أيضا جانب ضخم جدا, ولم أكن اعلم حجم ضخامة هذا الجانب إلا بعد سلسلة التقارير التي نشرتها صحيفة الواشنطن بوست في يوليو 2010, بعنوان ## أمريكا بالغة السرية##.
في هذا المقال نتناول فقط الجانب الأمني السري وفقا لما جاء في الواشنطن بوست,حيث يطالعك التقرير بأرقام مذهلة ومدهشة لتكتشف أن ما ينفق علي المؤسسات الاستخبارية والأنشطة السرية لمكافحة الأرهاب يزيد علي 75 مليار دولار سنويا. يعمل في هذه الأنشطة الاستخباراتية ونشاط مكافحة الإرهاب 1271 منظمة حكومية و1931 شركة خاصة, ويحمل 854000 فرد تصاريح أمنية بالغة السرية, ويعمل هؤلاء في مبان ضخمة شبيهة بالأهرامات بحسب تعبير أحد كبار الضباط في الاستخبارات العسكرية, مبنية علي مساحة 17 مليار قدم مربع من الأرض,,وذلك بخلاف المباني تحت الإنشاء مثل مبني وزارة الأمن الداخلي علي بعد 5 اميال من البيت الأبيض,وقريبا,سينشأ نموذج للأمن بتكلفة 3.4 مليار دولار, وسيكون المقر الجديد أكبر مجمع حكومي يبني بعد البنتاجون ليكون معلما بارزا في جغرافيا ## أمريكا السرية للغاية##.!!!.
_ توجد 51 مؤسسة فيدرالية تعمل في 15 مدينة أمريكية مهمتها فقط تعقب تدفق الأموال من وإلي الجماعات الإرهابية.
_ توجد 37 مؤسسة لتعقب أسلحة الدمار الشامل عالميا.
_ يعمل 23 ألف موظف في وزارة الأمن الداخلي ,التي أنشئت عام 2003, ثالث أكبر وزارة في أمريكا بعد وزارة الدفاع ووزارة شئون المحاربين القدماء.
_ تنشر هذه الوكالات الاستخباراتية 50000 (خمسين الف) تقرير استخباراتي كل عام, وكل يوم تعترض أنظمة جمع المعلومات في وكالة الأمن القومي وحدها 1.7 مليار رسالة ومحادثة تليفونية وتقوم بتخزينها وتصنيفها في 70 قاعدة بيانات منفصلة.
_ لا تعتبر المباني العنصر الوحيد في هذه الغابة المخابراتية ولكن الاهم التجهيزات الموجودة بالداخل, صفوف من شاشات المراقبة,أجهزة الكشف بالأشعة السينية وأجهزة الاستقبال الإلكترونية,أنظمة غلق الأبواب الأتوماتيكية ذات الجدران المعدنية الضخمة والتي لا يمكن اختراقها بأجهزة التنصت والمحمية بأجهزة الإنذار مع قوة أمنية تتعامل في دقائق مع التهديدات والمخاطر, وغرف المعلومات المصنفة والحساسة,وشبكات المراقبة التليفزيونية الداخلية, وكاميرات المراقبة المتعددة الأبعاد, والسيارات المدرعة رباعية الدفع….
_ يجتمع مدير المخابرات الوطنية يوميا مع رؤساء الوكالات المختلفة لمناقشة التهديدات الإرهابية عبر عدد من التقارير اليومية المهمة مثل موجز الاستخبارات العالمية لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية, وتقرير الاستخبارات الفورية, وملخص الاستخبارات اليومية, وتوقعات الاستخبارات الأسبوعية, وتوقعات التحذيرات الأسبوعية, وتقييمات التهديدات الإرهابية للمجتمع الاستخباراتي, وبعثة الإرهاب التابعة للمركز الوطني لمكافحة الإرهاب…..
هذا جزء صغير جدا من تفصيلات كثيرة عن عالم أمريكا السري, وكما تقول الواشنطن بوست: هذا ليس المجمع العسكري الضخم الذي أقامه الرئيس أيزنهاور الذي برز مع الحرب الباردة والذي تركز علي بناء قوة نووية لردع الاتحاد السوفييتي,لكن هذه مؤسسة أمن قومي ذات مهمة أكثر تعقيدا وهي هزيمة المتطرفين العابرين للحدود.
والسؤال المطروح هل أمريكا أكثر أمنا بسبب هذا الإنفاق الرهيب علي عالمها الأمني السري ؟.الاجابة ليست بالبسيطة, فالمسألة تتعدي حالة الأمن إلي تكلفة الأمن علي مستقبل الدولة ذاته, وعلي تناسب الإنفاق مع حجم التهديدات الأمنية الفعلية والمحتملة, وعلي فاعلية هذا الأخطبوط السري في الوصول إلي تقييم سريع وفوري للمخاطر والتهديدات الأمنية, وعلي فهم أكثر لسيكولوجية وثقافة الإرهابيين الجدد.
فرغم كل هذه المؤسسات إلا انها لم تستطع منع عملية فورت هود, ولم تضع المعلومات التي تلقتها عن الشاب النيجيري عمر الفاروق موضع التنفيذ , وهو الشاب الذي نجح في دخول الطائرة وحاول تفجير الرحلة 254 المتجهة لديترويت عشية عيد الميلاد الماضي, ولم تستطع تحديد مخبأ أسامة بن لادن وقادة طالبان. ورغم وجود 37 هيئة تعمل علي مراقبة أسلحة الدمار الشامل لا نعرف حتي الآن مستوي البرنامج النووي الإيراني ولا إلي اين وصل, كما أن أكثر من نصف المحللين كما تقول الواشنطن بوست محدودي الخبرة ولا يعلمون إلا القليل جدا عن الدول ذات الأولوية مثل العراق وإيران وأفغانستان وباكستان ولا يتحدثون لغتها .علاوة علي أن هذا التضخم البيروقراطي قلل كثيرا من فاعلية تحليل المعلومات بكفاءة وسرعة, وعلي حد قول قيادي في الاستخبارات ## لن يكفي عمري لكي أعلم بكل شئ تقوم به الوكالات السرية##.
الخلاصة أن هذا العالم السري متضخم جدا ومكلف جدا بدرجة مبالغ فيها في وقت يعاني أكثر من 40 مليون أمريكي من عدم وجود خطة تأمين صحي, ويصب في النهاية في اضعاف وضع أمريكا الاقتصادي, ومن ثم قيادتها للعالم الرأسمالي الحر.
علي أمريكا أن تعيد النظر في هذا التضخم السرطاني للأجهزة الأمنية والمخابراتية, وأن تعيد هيكلتها بشكل أكثر فاعلية في التعامل مع الإرهاب المتأسلم والذي يحتاج إلي طريقة خاصة في فهمه ومن ثم محاربته وليس إلي هذا الإنفاق المهول.