أكتب إليك من ركن في ذاكرة تاريخ أسرتي إذ ترجع جذور المشكلة التي أعرضها عليك اليوم لقبل ستة عشر عاما, أضناني التفكير خلالها كثيرا, فأنا إحدي بنات الأسر المسيحية, ولي أخت واحدة وإخوان, كانت حياتنا تسير في هدوء تام متصورين أن الهدوء يدوم إلي أن اقترح علينا أحد المعارف المسلمين – وسنة 48 عام آنذاك – أن تعمل أختي معه سكرتيرة في شركة استيراد وتصدير أثناء دراستها الجامعية وكانت آنذاك في الفرقة الأولي وعمرها لم يتعد السابعة عشر بعد, وافق أبي بمنتهي حسن النية غير عالم أن كثيرات من بنات أسرنا مستهدفات.
وعملت فتاتنا الصغيرة مع المجهول الذي كان ينتظرها, ومرت سبعة أشهر ثم لاحظنا تغييرا عليها, هزال دائم.. نوم مستمر.. إصفرار في الوجه, و تزامن ذلك مع عدم رغبتها للذهاب إلي العمل وعدم انتظامها في دراستها الجامعية, وفجاة انفجرت القنبلة, دق نذير الشؤم… صوت لشخص مجهول يخبرني بأن فتاة السابعة عشر تحمل في أحشائها الفضيحة, وهي مازالت قاصرا, تدلت سماعة الهاتف من يدي, وتركت جسدي ليرتطم بأقرب مقعد لأستند إليه غير مصدقة ما أسمعه, تخنقني رؤي الساعات المقبلة, رأي أخي الأكبر وأمي ما أصابني, ولم أخفي… فالمفاجأة كانت أقوي مني, هرع أخي إلي حجرتها دفع الباب غير مستئذن, وهي حمل ضعيف ينزوي في نهاية الفراش تلتصق بالحائط وكأنما تختبئ به, سألها…, ولم يحتاج لإجابة فقد كانت علامات الرعب من افتضاح أمرها تعلو ملامحها, انفجرت في البكاء وروت لنا قصة المشاعر التي ربطت بينها وبين كهل في العقد الخامس من عمره.
روت أختي لنا: قيد الخوف من افتضاح أمري كبلني, وخوفي علي أبي أسكت صوت البنوة في قلبي فلم أجرؤ علي اللجوء إليكم , ضعفي أصابني بالخرس, بيني وبين نفسي نويت التخلص من حياتي قبل خروج ثمرة الضعف من حشايا, سامحوني وليسامحني الله علي ما ارتكبته لكنني لم ولن أسامح نفسي.
أنهت جملتها وراحت في غيبوبة عميقة, تمنينا جميعا أن تسفر عن إجهاضها. ولكن لم يحدث بل أفاقت من غيبوبتها وأصر حينها والدي علي إتمام الولادة مبكرا ربما تفقد جنينها فيكون الجزء الأكبر من المشكلة تم حله. ولكن نحن نشاء والله يفعل ما يشاء.. جاء الطفل إلي الحياة ليسدد دينا كان علي أبويه سداده, لم يفكر أبي في أن حفيده سيدفع الثمن من سمعته ومستقبله وإنسانيته في مجتمع لا يحترم اللقطاء ولا يفكر إلا في وئد الفضيحة.
في تلك الأثناء كان أبي قد أبلغ قسم الشرطة فجاءوا بالرجل وعرض الزواج وانقلب الموقف فالضباط وحتي العساكر حاولو إقناع أبي بالموافقة علي إتمام الزيجة بدلا من القصاص من الجاني لأنه غرر بفتاة قاصر.
تحول الأمر سريعا وأصبح همنا الأكبر هو الفرار بها, وإنقاذها , فعلا هربنا وبعد الولادة وضعنا الطفل في ملجأ للأيتام كخطة أبي التي وضعها, وبعد بضعة أيام وصل أبي قرار استدعاء لاتهامه بقتل الطفل, أصبحنا في موقف لا نحسد عليه فامتثلنا للرجل وأعدنا طفله إليه وانتهي الموضوع, وتركنا الحي وسكننا في حي آخر واعتبرنا أن تلك أقل خسارة.
مضت السنوات واستعادت فتاتنا توازنها ووصلت لمركز مرموق لكنها ترفض الارتباط نهائيا لأنها ترفض خداع أي شخص.
ولعلك تسالينني لماذا أكتب لك عن مشكلة حدثت منذ 16 سنة, لكن وجود شقيقتي معلقة حتي الآن يؤرقني, وأتساءل هل لو تمت مصارحة أي شخص بماضيها من الممكن أن يقدر ما حدث ويتفهم, كما أننا نخشي المستقبل خاصة أن هناك رابطا قويا لا تنفصم عراه مهما مرت السنوات وهو الطفل الذي أصبح الآن شابا لا نعرف حتي اسمه, وهل يمكن في المستقبل أن يهدد هذا الرجل حياتها واستقراراها. إذا ما تزوجت.
لصاحبة هذه المأساة أقول:
تحملت الفتاة فوق طاقتها في سن صغيرة, ونحن الآن لسنا بصدد محاكمتها علي ضعفها ولا في معرض تقييم لسلوكها أو دوافعها آنذاك, لكن هناك بعض التفاصيل التي لم أستطع العبور بها دون التعليق عليها, أولا دعينا مما ذكرتيه عن أن بناتنا مستهدفات لأنني أرفض التعامل مع تلك المشكلات بنظرية المؤامرة فما من مشكلة تتعلق بالمشاعر والعلاقات العاطفية مرت علي, وكانا طرفاها مختلفي الديانة , الا وكان الامر برضاهما ولا اجبار , وهذا وارد في العلاقات الإنسانية, لكن يختلف من فتاة لأخري في تحويله لسلوك قد يطيح بحياتها ومستقبلها, وأنا هنا لا أدينها إطلاقا لكنني فقط أطلق الأضواء الحمراء علي فكرة الاستهداف لأن الفتاة عندما تقرر أن تعطي ما تملك لمن لا يستحق لا تفرق آنذاك بين مسيحي ومسلم, وكم سمعنا عن فتيات خضنا تجارب عاطفية وجنسية مع رجال متزوجين من أبناء دينهن, فالأمر ليس به خديعة ولكن لنواجه أنفسنا بالأمر أنه الضعف الإنساني من الطرفين.
فتاة في سن المراهقة, رجل في مرحلة التحول إلي الشيخوخة ويود أن يثبت لنفسه في اللاشعور أنه مازال فتيا إهمال من الأسرة وتلك هي النتيجة المنطقية, فأين كانت والدتك يا عزيزتي في ظل انقطاع الدورة الشهرية عن ابنتها لمدة ستة أشهر, ألم تلاحظ التغيرات إلا بعد أن قاربت علي إتمام الحمل بأكمله, سامحيني فإن دل ذلك علي شيء فهو يدل علي أن الرعاية غائبة والحنان غائب وهذا هو بيت القصيد الذي دفع بشقيقتك إلي أحضان رجل في عمر والدها, فالدافع دائما ينطلق من الأسرة .
أمر آخر لفت انتباهي هو القرار الغريب الذي اتخذه والدك بوضع الوليد في ملجأ يدل علي قسوة مفرطة منه تجاه حفيده, لم يوقفها إلا الاتهام الذي وجهه الأب إلي الجد, ناسيا أن حضن الآب مهما كان سلوكه ومهما اختلفت ديانته سيظل أحن من أحضان المربيات في دور الأيتام علي الأقل سيحميه من وصمة اللقيط التي كانت ستلاحقه حتي مماته.
كما أني لا أستطيع أن أتصور كيف يمكن لأم أن تحيا دون ابنها الذي أنجبته ولم تزل طفلة, ولا تعرف خبرا عنه طيلة تلك السنوات, معلقة عنق ابنها وعنقها في قبضة الماضي. أما عن إمكانية تهديد مستقبل أسرتكم هذا يتعلق بما إذا كان الرجل سجل الطفل في شهادة ميلاده باسم شقيقتك في خانة اسم الأم, أم أنه سجله باسم آخر, ولكن ان يهدد الرجل حياتها فيما بعد فأنا أستبعد ذلك تماما فإن كان يريد لفعلها منذ سنوات, واختفاؤه 16 سنة يؤكد ذلك, ثم أنه الآن علي حسب كلامك يبلغ من العمر 64 عاما فأي لغط يمكن أن يسببه رجل في الرابعة والستين من عمره لسيدة أخطأ معها ذات يوم ثم رحل بابن لم يواجهها به حتي صار شابا, أعتقد أنه حريص علي الابن أكثر بكثير من حرصه علي إثارة أي تهديد لأسرتكم وربما يكون توفي فمن يعلم؟.
أما بالنسبة للشق الخاص بالخداع فينصح خبراء علم الاجتماع بالكتمان في مثل تلك الحالات, كما أن أختك ليست لديها القدرة علي مواجهة الأمور وهذا يتضح من ردود أفعالها علي المواقف, وضيفي علي ذلك أن الرجل الشرقي حتي إذا قبل الأمر في البداية فلن يسقطه من ذاكرته, وستحيا معه حياة مريرة يتذكر فيها في كل لحظة أنها أسلمت نفسها إلي رجل آخر من قبله, سيعذبها ويتعذب معها وبما إنها في كلا الحالين معذبة فالأفضل أن تظل معذبة بمفردها ولا تضيف إلي عذابها عذابا جديدا ولا تعذب آخرين فالكتمان في تلك الأمور خير اختيار.