أ- بالتجسد… عرفنا الله
لا شك أن هناك تناقضا جذريا بين طبيعة الله وطبيعة الإنسان, فالله روح بسيط خالد يملأ كل مكان سرمدي (أزلي أبدي) غير محدود ولا مدرك ولا متغير بينما الإنسان غير ذلك تماما. إنه مخلوق علي صورة الله في الحرية والبر والعقل ويتمتع بعنصر الروح التي تفكر فيما وراء المادة والطبيعة… لكنه محدود وله بداية.
وهذا التسامي الإلهي يجعل الله فوق إدراك البشر من جهة العقل أو الحواس, ولهذا تميل كنيستنا القبطية, واللاهوت الشرقي دوما إلي استخدام الأسلوب السلبي في التعبير عن إلهنا العظيم, أي الأسلوب الذي ينفي عن الله ما لا يتناسب مع صفاته أكثر مما يورد من صفات إيجابية عنه تعالي. فنقول في القداس الغريغوري مثلا: ##الذي لا ينطق به, غير المرئي, غير المحوي, غير المبتدئ, الأبدي غير الزمني الذي لا يحد, غير المفحوص, غير المستحيل, خالق الكل, مخلص الجميع##. وهنا نلاحظ النفي المتكرر, لما لا يتناسب مع الله, وإثبات لبعض الصفات القليلة التي ينفرد بها الله كالأبدي, الخالق, المخلص…
من هنا لزم التجسد
لأنه إذا كان الله متساميا فوق الإدراك البشري, بحيث أن من يدخل إليه ما يسميه اللاهوتيون ##الضباب الإلهي## (Divine Darkness)… لأن نور الله يبهر العين فتبدو عمياء لا تراه. نقول, إذا كان الله متساميا فوق الطبيعة البشرية إلي هذه الدرجة غير المحدودة, فهل تبقي الأمور هكذا؟ كيف يتعرف إليه الإنسان الضعيف الحسي؟ كيف خاطئ يقترب إليه؟ وكيف يتصاعد إلي عرشه الأعلي وهو تراب كثيف ورماد خاطئ؟ إنها بالحقيقة مشكلة هامة!
محاولات يائسة
ولقد حاول الكثيرون منذ سقوط آدم أن يقتربوا إلي الله, فارتدوا أمام القول الرهيب: ##الإنسان لا يراني ويعيش## (خر 20:33). ولما حاول موسي أن يري ##مجد الرب##, خبأه الرب في مغارة, وستر عليه بيده, وأجاز ##جودته## أمامه. ولما اكتشف منوح أبو شمشون أنه رأي الرب في رؤيا صرخ قائلا: ##نموت موتا لأننا قد رأينا الله## (قض 22:13).
وهكذا عاشت البشرية أجيالا تلهث وراء هذه الرؤيا دون جدوي. وكان الله يتكلم إلي البشر قديما عن طريق أنبيائه الذين يلهمهم بكلامه ويتراءي لهم في صورة محسوسة للحظات: كامتلاء الخيمة بالضباب, أو الصوت القادم من العليقة المشتعلة, أو الرؤي في الأحلام. وهكذا بقي الله عاليا في سمائه, والإنسان هابطا في طين الأرض وظلمة الحسيات.
وجاء الحل
وذلك حين تجسد الكلمة الإلهية في صورة إنسان كقول الرسول: ##الله, بعد ما كلم الآباء بالأنبياء قديما, بأنواع وطرق كثيرة, كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه – الذي جعله وارثا لكل شيء, الذي به أيضا عمل العالمين##. (عب 1:1 ,2). ولنلاحظ هنا الفرق بين حرفي الجر ##ب## و ##في##. فالله كان يكلمنا بالأنبياء وأخيرا كلمنا في ابنه. أي أنه أعلن نفسه لنا جسديا في صورة إنسان مثلنا في كل شئ ما خلا الخطية. وهكذا صار الإله غير المرئي مرئيا, وغير المحسوس محسوسا, دون أن يكف عن كونه الإله الروح المالئ كل مكان وزمان, والمتعالي علي كل الأذهان.
المعلم الصالح
ويشبه القديس أثناسيوس إلهنا في تجسده بالمعلم الصالح, الذي لا ينتظر من تلاميذه أن يرتفعوا إلي مستواه, بل ينزل هو إلي مستواهم ليعرفهم مقاصده وتعاليمه. وهذا هو الوضع المنطقي والمقبول. أما أن يبقي الله في علياء سمائه, وينتظرنا حتي نتصاعد إليه رغم ضعفنا وترابيتنا, فهذا هو عين المستحيل.
من هنا تجسد الرب ليقترب إلينا نحن الضعفاء, وليتحدث إلينا باللغة التي نفهمها, حتي يعلن لنا حبه, ويعرفنا بشخصه, ويقودنا بنعمته إلي سمائه.